الكتابة : ثنائية السرد والوصف
يصف الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي تجربة الكتابة التي رافقته في سجنه الذي أسماه”قلعة المنفى”والتي جاءت في شكل رسائل كان يكتبها من داخل السجن ويوجّه الأغلب منها إلى زوجته والبعض إلى أبنائه وبعض أصدقائه : “الأدب الذي أريده ، والذي حدّدته كمهمة لنفسي ، إما أن يقتلني أو ينقذني من استبداد العدم”( 1 ) . يعلّق أحد الباحثين على ذلك بأن هذا الاستنقاذ من استبداد العدم يتّم : “بإخراج التجربة من دائرة النسيان والإهمال والإتلاف حتى يشترك القارئ في تلك التجربة الفريدة التي عاشها شخصيا في علاقات القامع بالمقموع والسجين بالسجّان ، والمثقف بالسياسي ، والفرد بالمجتمع ، والحركة بالصمت”(2)
إن الثنائية الأخيرة، الحركة والصمت، هي مايشتغل عليه”علم السرديات” مجال المُنْهم بالأدب حيث تكون هذه الثنائية وسابقاتها مجالا لمهتمين بفروع معرفية أخرى هي : الاجتماع والحقوق والسياسة وربما التاريخ .
إلا أن الاشتغال على ثنائية ( الحركة والصمت ) في بحث يتعلّق بوصف السجن أدبا ، هو إجراء منهجي لايعني الأخذ به تبنّي التوصيف البرّاني للسجن بأنّه”عالم الصمت” وهو مانفاه عنه اللعبي، واعتبره تجاهلا للحدث الإنساني فيه : “يسود الاعتقاد أننا نقول كل شيئ عندما نصف السجن من الخارج ، بأنه (عالم الصمت). هذا الحكم بعيد تمام البعد عن الواقع . فكل ما يتعلّق بالإنسان هنا يكتسي حدّة بالغة ويأخذ طابعا دراميا”(اللعبي: ص 25). وإذا أخذنا منهجيا بتعريف جورج مولينيه لمجموع الأدب كونه : “خطابا ، بالمعنى اللساني للكلمة ، لسلّمنا بأن قسما كبيرا من هذا الخطاب ، إذا أدرك في كلّيته ، ينقسم إلى خطاب سردي وخطاب وصفي . ولايغّطي هذا التقسيم الثنائي حقل الخطاب الأدبي بكامله ولكنّه ـ على أي حال ـ تقسيم رئيس” (3) . وإذا اتفقّنا على هذا التقسيم في سياقه العام واعتبرنا”السرد” مجال الحركة، أي الزمن، فإن”الوصف” هو مجال الصمت، أيّ السكون، الذي يحوزه المكان وهو هنا السجن كظاهرة تم الاشتغال عليها أدبيا (بالوصف)، الذي يرد تعريفه في علم السرديات بأنّه :” تقديم ( تمثيل ) الأشياء والكائنات والمواقف أو الأحداث في وجودها المكاني عوضا عن وجودها الزمني، وفي أدائها لوظيفتها الطوبولوجية عوضا عن وظيفتها الكرونولوجية ، وفي تزامنها وليس في تتابعها الزمني ).
وبناء على هذا التعريف الذي يفصل الوظيفة السردية عن الوظيفة الوصفية للحكي ـ الذي تعتبر المذكرات أوالذكريات التي نشتغل عليها هنا ـ ضربا من ضروبه ، فيربط الأولى بالزمان والحركة ويربط الثانية بالمكان والسكون على اعتبار أن : ” كل حكي حسب قول جيرار جينيت يتضمّن في جوهره تشخيصا ـأوتمثيلا كما ورد في التعريف ـ لأشياء أو أشخاص، وهو ماندعوه في يومنا هذا وصفا “(4)موردا في هذا السياق مثالا لما يدعوه “الوصف الخالص” نجد في نصوص السنوسي حبيب وصوفا أو أوصافا عدّة تطابقه، بما يمكن عدّه ” أوصافا خالصة طليقة من أي تحديد زماني وخالية من أية حركة”. ونختار من نصوص عديدة تمتلئ بها ذكرياته هذين النموذجين الدّالين : “يقع هذا السجن على مساحة واسعة ويحيط به الفضاء من كل الجهات، ويحاذي الطريق العام المتجه شرقا محاط من جهاته الأربع بسور خرساني مرتفع ومحصّن بأسلاك شائكة وبه مجموعة ابراج مراقبة ، تتوسّط واجهته الغربية بوابة تفضي بك الى موقف سيّارات[…] يتكوّن المبنى من مكتبين للإدارة وعشرة(*) زنزانات في صفين متقابلين تتوسّط بينهما صالة صغيرة، وملحق به دورات مياه كان بشكل عام بناءا صغيرا ، وشديد البرودة” (5)
أوردت هذين النصّين “النموذجين” متعمّدا إنهاء الأوّل بجملة تحتوي فعلا هو “يفضي” الذي يوحي بالحركة، ولكن الحركة، إن وجدت، فهي موصوفة هنا بالمتوقّفة في مكان تتوقّف فيه وسائلها وهي السيارات . بينما أنهيت النمودج الثاني بجملة توصف البناء بأنّه : صغير وشديد البرودة، بما يوحي بأن الزمن الذي دخل فيه السجين المبنى كان شتاء. وهو مايتّم نفيه بالجملة الخاتمة للنصّ : “حين اقمت به حوالي اسبوعين في شهر ابريل الربيعي ، ولكنّه كان ربيعا قاسيا ، اشبه بالشتاء” (6) . فأبريل الذي وصفه الشاعر ” إليوت” في مفتتح قصيدته”الأرض اليباب” بأقسى الشهور لايمكن أن يكون في ليبيا شهرا قاسي البرد أشبه بالشتاء . إلا إذا كانت هندسة السجن كبنية تعسّف متقصّدة، سيأتي تحليلها لاحقا، كانت قد تعمّدت أن تجعله كذلك .
من نصوص جمعة عتيقة نورد مقتطفا لايمكن عدّه وصفا خالصا، كالذي رأيناه عند السنوسي حبيب ، بل يمكن اعتباره سردا تتخلّله توقّفات بين الحين والآخر يعرّفها ج. جينيت”الوقفة الوصفية” : لأنّها لا تتضمن أي مرور للزمن في العالم الممثّل، وفي نفس الوقت لا تشترط ضرورة توقّف السرد.(برنس. ص 44)
“جاء وقت الدخول إلى الآرية الصغيرة وهي فناء داخلي يتوسّط ثلاث عنابر وحجرة صغيرة. جاء الليل فوجدت نفسي في عنبر طرحت فيه قطع الفرش على الأرض ويضّم قرابة الثلاثين شخصا في مساحة عشرة أمتار طولا في خمسة عرض وفي مدخله دورة مياه .. اقتادني الإخوة السابقون إلى مساحة من الأرض العارية لأضع فراشي وبعض الأدوات الزهيدة التي زودت بها وهي لاتعدو صحنا بلاستيكيا وكوبا للماء” (7) . نلحظ في كل مفتتح سردي تأتي بعده وقفة وصفية ورود فعل يسبق تحديدا زمنيا لتحقّقه”جاء وقت الدخول، جاء الليل، اقتادني السابقون”.
تقنية وصف المكان
إن النص الذي أوردناه لـجمعة عتيقة لغرض تبيان الوقفات الوصفية في سرده لذكريات سجنه يتضمّن فقرة دالة تفتتح تحليلنا التالي الخاص بـ” تقنية وصف المكان ( السجن ) بغرض إعادة إنتاجه كتابة”. فهو يوصف العنبر وما طرح فيه من فرش، وما ضمه من أشخاص. فعدا قطع الفرش، والأشخاص كأسماء تعيّنان وجودهما في المكان، نرى في المقتطف أفعالا:( طرح ـ وضّم ) وهما يشخصان الحركة ويحملان في ذاتهما طابعا وصفيا، فهناك فرق مثلا بين وضع قطع الفرش، وطرح قطع الفرش، فكل فعل يعيّن الطريقة التي يوضع بها الفرش، فهو لذلك لا يحمل فقط وصفا للحركة بل يشي بمغزاها في رمزية السجن الذي أخذ طابعا ارتجاليا(8) بيّن الكاتب دوافعه وظروفه في سرده لوقائع سجنه عام 1973.(عتيقة. ص .19 ، 20) بل النص في فقرة دّالة يحدّد بدقة حجم مساحة العنبر بقياس أمتار طوله في عرضه، وهو مانجده لافتا في نص آخر يخص هذه المرّة الزنزانة:
“اتجه الحارس نحو الجهة الداخلية للسجن وتحديدا قسم الزنازين فأدخلني الزنزانة التي كانت مساحتها لاتتعدى مترين في مترين”(عتيقة. ص .29) . ونجد نصوصا عدّة للسنوسي حبيب تخص ليس فقط تمتير الزنزانات بل الممرّات التي تؤدي إليها : \”زنزانة مظلمة سعتها متران في ثلاثة بداخلها دورة مياه”، “زنزاناته التي كانت صغيرة وتفوح منها الرطوبة وامامها ممر ضيق بعرض متر ونصف تقريبا” كما يخص الممرّات بتحديد أدّق لقياساتها :”ثم يفضي بك ممر الى ساحة واسعة تتفرّع عنها اقسام السجن التي يتكوّن الواحد منها من مجموعة غرف كبيرة ملحق بها غرف صغيرة تفتح جميعها في ممرّ بعرض مترين تقريبا الذي يفتح بدوره في ساحة متوّسطة تعرف سجنيا بآريا التي تعني تهوية بالإيطالي” .وفي نص يليه:”القسم الخامس الذي كنت اقيم به والذي يتكوّن من خمس غرف تقابلها خمس اخرى في صفين متوازيين يفصل بينهما ممّر بعرض حوالي ثلاثة امتار ، ينتهي هذا الممرّ بباب حديدي غير مصمت يفضي الى الممّر الرئيسي الذي يشبه الشارع اذ يبلغ اتساعه حوالي اربعة امتار . تجاوركل قسم ساحة مستطيلة غير رحبة بعرض حوالي خمسة امتار وطول حوالي عشرين مترا ممّا يجعلها اشبه بالممّر يتّم الخروج اليها من الممّر الرئيسي لشمّ الهواء والترّيض”. وفي إطار المقارنة بين سجن بناؤه يتميّز بالدفّ شتاء، والبرودة النسبية صيفا :”برغم من قدم هذا السجن إلا أنّه لا يعاني من الرطوبة ولازال بناؤه محافظا على تماسكه وهو دافئ شتاءا بارد نسبيا صيفا ولعلّ سبب ذلك كونه مبني بالحجر الأبيض المحلّي وعرض الجدار حوالي ستين سنتيمترا” .وآخر عكسه تماما وذلك يرجع لارتفاع الجدران التي لايغفل تحديد سمكها في الأول وطولها في الثاني بالأمتار :”وكان بناءا جديدا شديد البرودة شتاءا وحار جدا صيفا بسبب ارتفاع جدرانه التي ربما تجاوزت اربعة امتار ممّا يجعل الغرفة شبيهة بخزّان مياه خرساني مقتطع داخله بناء حمّام لا نافذة له ويفتح داخل الغرفة وبجدران واطئة ممّا يجعل الغرفة بكاملها اشبه بالحمّام”.(حبيب)
إن الوصف باعتباره ضربا من ضروب تقنيات تشخيص صورة المكان وتشكيلها، نراه هنا يعدو مجرّد تحديد المجال العام الذي يتحرّك فيه الأشخاص إلى تقدّيم الملفوظ الحكائي بواسطة إشكالية هندسية تبدو من خلالها ما سنوصّفه لاحقا ببنيّة التعسّف. فالميل إلى الدقة المتناهية في قياس المسافات التي تظهر العالم المادي الذي يحتويه السجن بما يحتشد فيه من تفاصيل، وما يكتّظ به من صور قتامة تجعله يطأ بأشيائه وأمكنته على الأشخاص القابعين فيه، فتحيله محيطا يطغى على وجودهم فيجمّده بما أسماه ميشيل فوكو”انضباط الصمت”
ذلك الذي يتوّجه إلى القلب وإلى النفس وإلى الشخص البشري ذاته، والذي تؤمّن فيه العزلة أو بالأحرى(العزل) المجالسة وجها لوجه بين المحبوس والسلطة التي تمارس عليه. (9) فتصبح الحركة التي لامعنى لها ولاجدوى منها تلك التي يشتغل عليها(الوصف) سوأة السجن ـوهو ما يزعج فوكو ـ عندما يكون بلا جدوى. أما القراء الذين سيتعاملون مع نصوص التوصيف التي يقترحها(الكتّاب) في سياق العملية التي أسميناها”إعادة إنتاج تجربة السجن” فإّنهم يكونون في حيرة من أمرهم إزاء هذه”الأمكنة المسنّنة” فيتساءلون عن معاني الأبعاد التي تظهر بها والتي تستفزّ حواسهم، وتقلق تساكنهم مع المعيش، أي الخارج الذي ربما بشكل من الأشكال يسجنهم هو أيضا .
في الرسائل التي كتبها الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي من السجن 1972 ـ 1980 والتي جعل لها عنوانا دالاّ هو :”يوميات قلعة المنفى”، و جعلتها نظيرا موّجها في قراءتي لأتذّكر حبيب، وإلى حد ما لمذكرات عتيقة، على اعتبار تقارب الجنس الأدبي لديهم، ترد نصوص تشّف أدبيا عن الرؤى الفلسفية التي بثت في ماذكرناه سابقا. نقتطف منها مقتبسا نضاهيه بآخر من حبيب .
يصف اللعبي سجن ( لعلو ) الذي عرف فيه أول تجربة سجنية له أنّه: “سجن متناهي الصغر، مكتّظ ، ملئه الحركة والضوضاء . ليس هناك أي مقارنة بين هذا السجن والسجن المركزي ذي المساحة الشاسعة. الصمت الرّهيب لقلعة المنفى . هنا يسمع هدير المدينة غير بعيد، أصوات بشرية، سيارات، وخصوصا نفس هذه المدينة التي يخال المرء أنّها تحمل السجن على ظهرها”. (اللعبي. ص . 238)
ما نتوّقف عنده بداية، في مقتبس اللعبي، المقارنة والمقايسة بين سجنين ـ مكانين ـ بداية بين (داخل) مكتّظ بالحركة والضوضاء و(داخل) لسجن آخر يهيمن عليه الصمت الرهيب مما يجعله (قلعة المنفى) ثم المقارنة بين هذين (الداخلين) و(خارج) يسمع من (الهـنـا)، من الداخل، وهو هدير المدينة التي يخال المرء أنها تحمل السجن على ظهرها .بينما تتّم المقارنة ـ بله المفاضلة ـ برمّتها في المقتبس الذي نورده عن حبيب بين (داخل) سجن الكويفية و(دواخل) سجون أخرى هي الجدّيدة ، والمركزي (بورتا بينيتو)، وبوسليم فـ(الخارج )) يبدو مقصىً في مقارنات حبيب وشبه لا وجود له ويعكس شحوبه في جلّ نصوصه وينعدم تقريبا في نصوص عتيقة التي كرّس أغلبها لوصف سجن أبو سليم، فعالية إقصاء الخارج التي تقوم عليها وظيفة المؤسسة السجنية في الشكل الاستثنائي والفارق الذي ظهرت به في ذلك المعتقل الرهيب الذي أدير كليّا من قبل الشرطة العسكرية. وهو ما يلامسه بلانشو بصدد الكلام عن فوكو في ذلك المقتبس الرائع الذي يورده عنه دلوز بأن : “الحبس أو الحجز يحيلان الى خارج، وماهو محتجز أو محبوس هو الخارج. (ففي) الخارج، أو عن طريق الإقصاء ، تحجز الأجهزة وتحبس. ونفس مايقال على(الخارج) أو الحجز الفيزيائي، يقال أيضا على الداخل النفسي” (10) . ولكن بالرغم من انكفاء الزنزانات التي يصفها حبيب على الداخل وعليه فقط إلا أنّها تتسع ـ في بعض السجون ـ نسبيا، وبمواربة تفسح رؤية المقابل الداخلي والتحادث معه : “في الخلف من ذلك تقع الزنزانات وهي واسعة نسبيا اذا ما قورنت بزنزانات سجن الجديّدة او سجن بوسليم وابوابها عبارة عن اسياخ حديد متقاطعة على كل الواجهة وهي في صفين متقابلين بشكل موارب نسبيا مما يتيح رؤية الزميل المقابل والتحدّث معه. ان صحّ ان في السجن مفاضلة فهي افضل زنزانات مررت بها”.(حبيب)
وإزاء الهندسة البنائية للسجن الشّفافة أمام تنظيم السلطة، الفظّة والعارية من أيّ خارج والتي بدون ثغرة في مواجهة السجين حيث : “يتضّمن السجن الذي يؤمّنه دائما مشروعا تقنيا ـ كما أشار فوكو ـ عقوبات الحبس المدفونة ضمن هندسات بنائية ضخمة محاطة بالسريّة الإدارية “(فوكو. ص . 258) تستنفر ما يتوفّر للكاتب الذي حاقت به فظاعة السجن من : “أدوات المواجهة لهذا الواقع المضني للتغلّب على رتابة الزمن المقيم … والتعامل مع صورشعرية تجسّد معاناة الواقع اليومي الكئيب وتطلق العنان للإنطلاق مع الرؤى والأحلام للإطلال على العالم الخارجي عبر خيال الشاعر وعذاباته”(عتيقة.ص .95 ، 96)، وهو ما يفسح المجال لـ(أنا التخييل) أن تفتح كوّة في هذا العالم المغلق، تطل على عالم آخر يكون فضاء للحرية تتعامل معه العملية السردية بنمطين من السرد : في الأول يمكننا، أن نتصوّر بسهولة سرودا يكون فيها فضاء السياق السردي في تضاد منتظم مع فضاء المروي: كأن يقوم الراوي من زنزانة في سجن، برواية أحداث وقعت في فضاءات واسعة ، وهو ما نجده لافتا في العديد من النصوص الواردة في رسائل اللعبي وبالذات تلك التي يوجهها إلى زوجته :
“أسير على بعد، فتاتيني ذكريات، إحساسات ورؤى من أبعاد تاريخي الشخصي. عطر شجيرات الورد يعيد لي الطفولة عندما كنا جماعة من الأطفال الأحرار، نرتع في بساتين(باب الجيسة) في فاس ثم تجنح الشمس نحو الغروب، تعود القطعان، تفوح رائحة الروث والأرض والخبز الساخن” (اللعبي.ص 62). تتجلّى في هذا النص النموذجي الذي تحفل به أدبيات السجن، الضروب الحميمة من الحنين التي تساعد على تحقّقها في هذه الأنواع من السرود الأنماط التقليدية من التواصل المتعارف عليها بين السجين والخارج مثل الزيارة المنتظمة والمبرمجة والتراسل المتواتر باتجاهيه من وإلى السجين. وهو مالم يكن متاحا أو مضيّقا عليه بصرامة في التجربة السجنية الليبية التي تداخل فيها اختصاص النيابة العامة والقضاء المدني بإكراهات الإيواء في سجون الثكنات أو الأحباس التي تسودها إجراءات، وعقوبات سجون الشرطة العسكرية، وهو مايؤكّد ليس فقط ما ألمع إليه فوكو بأن :”المرمى الأوّل للعمل السجني اعتماده التفريد الإكراهي عن طريق قطع كل علاقة لا تكون تحت رقابة السلطة ولا تكون منظّمة بحسب التراتب” (فوكو. ص .241). بل والتضييق وشبه المنع الكلي في بعض المراحل والسجون لكل أشكال التواصل مع العالم الخارجي المتعارف عليها والتي تسمح بها السجون المؤية لسجناء الرأي مثل الزيارة المبرمجة والمنتظمة ، والتراسل ، والكتابة ، وتوفير المتاح من الوسائط الإعلامية والثقافية التي كان فقدانها وانعدامها مثار تذمر ومجلبة للألم في السرود التي بين أيدينا والتي أرّخت لهذه الحقب السجنية، والتي كتبها أصحابها عن تجربتهم في السجن بعد سنوات من انقضائها. بل تعدّى الأمر بهذه المؤسسة السجنية الفارقة والغريبة أن استبدّت وطغت على كل أشكال التواصل بين السجناء أنفسهم، مثل اللقاء والتخاطب وحتى التخاطر الأمر الذي دفع السجناء إلى استحداث وسائل اتصال فيما بينهم مثّلت لهم في أغلب الأحيان ضربا من المخاطرة، وجلبت لمنفّديها عقوبات قاسية ذكر عتيقة بعضا منها، وقدم حبيب وصفا لايمنع طوله من إيراده للتأمل فيه :”و للتواصل مع الأقسام الأخرى مثل سجناء القسم الرابع حيث تتجاور مساحتا قسمينا ولا يفصل بينهما سوى ممرّ ضيّق( إستحدثنا) البريد الطائر فقد كان المتطوّع يقوم بإرسال البريد من جهتنا بلفّ المادة المكتوبة ثم يغلّفها بكتلة من لّب الخبز الى أن تصبح كرة صغيرة، ثم يقوم برمي حصاة في اتجاه ساحة القسم الرابع وحين يأتيه الرّد من الطرف الآخر يقوم برمي كرة العجين ويستقبل بريد الطرف الآخر . كنّا بهذه الطريقة نعرف اخبار زملائنا بالقسم الرابع والذين كان بأستطاعتهم معرفة اخبار القسم الخامس المجاور لهم حيث يشتركون معهم بجدار مشترك وفي هذه الحالة يقوم طالب الإتصال بوضع وجه كوب الماء او صحن البلاستيك او الألمونيوم على الجدار المشترك ووضع اذنه عليه وتمريره بمهل في عدة اتجاهات الى أن يلتقط وشيشا عبر الجدار فيقوم بالطرق على الصحن ومحاولة الكلام عبره الى ان ينتبه الطرف من الجانب الآخر للجدار ويعطي استجابة بالطرق وبالكلام وتبدأ محاولات تحسين التقاط المكالمة بتحريك الصحن ببطء في اتجاهات مختلفة الى أن يتطابق وضع الصحنين وتصبح المكالمة واضحة ولا تتطلّب رفع الصوت”( حبيب. ع57).
في النمط الثاني من هذه السرود يتعلّق الأمر ـ وهو مايهمّنا هنا ـ بالمجال الذي يشتغل في حدوده(الوصف) مقاربة أو تخييلا، وهو مايمكن أن نطلق عليه فضاء” المقتضى السردي” والذي يكون فيه “السرد” بالوقفات الوصفية التي تتخلله ـ والتي بيّناها ـ أكثر أو أقل دقة حسب المستوى الذي تخصبه كثافة الخارج، وحسبما تتيحه إمكانيات التلّقي لدى السجين لما هو موجود في هذا(الخارج) أكان فضاء مغايرا أو مقاربا للداخل ـ وهو هنا السجن ـ الذي تنطلق منه اشتغالات الوصف الذي يقوم عليه الخطاب السردي في الشق الذي حدّده مولينيه سابقا .
في رسالة ترصد تداعيات قريبة لزيارة قامت بها زوجة اللعبي إليه يكتب :”لقاؤنا منذ قليل، أمدده بهذه الرسالة. لدي رغبة في المزيد من الحديث إليك وترديد الكلمات التي لايليق بها إلا الهمس. حضورك حرّك أحاسيسي بعمق هذا اليوم. لقد همت معك وتهت في كل جزء منك سمحت به القضبان فمنحتني إياه”(اللعبي.ص 33) إن كل الأبعاد الدّالة على حميميّة الحنين في هذا المقتطف من الرسالة والتي تفصح عنها أفعال وكلمات تشي بملموسيّة تجربة التقاء الآخر في زيارة السجن وإلى حد ما بكثافة حضورها مثل : ( إمداد ـ حضور الغياب ـ بالكتابة، والهيمان والتيهان ـ في كل جزء من حضور زائرته الذي صار غائبا ـ ، والهمس ـ الذي يليق بالكلمات ـ التي يمكن أن تقال لها). وهي معان توّلدها حرارة تلك الحضورات الحميمة التي تسمح بها القضبان الفاصلة و تتيحها زيارة السجن المنتظمة والتي تخصبها المراسلة المتواترة باتجاهيها التي يبدو أنّها كانت بالضّد من قساوة الاعتقال تجربة ماتعة بالنسبة للعبي، تجلّت في تلك”الأدبية” الرائقة التي اتسمت بها غالبية نصوص (رسائله) والتي خفّفت إلى حد ما من قتامة السجن لدى المتلقّين لها. وهو مانفتقده في السردية الليبية محلّ الدراسة، والتي عكست شحوبا وفقرا ملحوظا في مخيّلة الفضاء البديل، فأبدلت السجن بفضاء سجني مواز هو (سجن النساء) لمصادفة وجوده مرتين مجاورا لسجني الكويفية والجديّدة اللذين قبع فيهما حبيب والذي تمّ اقتراحه في سرده مجالا أو (فضاء) رغبيا( ليبيديا) مثّله مع نصّ آخر ليس بذات الأهمية، هذا النص اليتيم :”تصادف للمرة الثانية ان نكون جيرانا لسجن النساء بالجديدة حيث لم يكن يفصلنا سوى الجدار وبعض الأشجار التي كان ظلها يسقط عندنا”.) حبيب)
السجن ..بنية السلطة المتعسّفة
يكتب فوكو عن :”الشكل العام للسجن ـ ويعني هنا السجن كمؤسسة عقابية جنائية وجدت عبر الجسم الاجتماعي كلّه قبل استخدامه المنهجي بموجب القوانين الجزائية ـ بأنّه تجهيز يجعل الأفراد طيّعين ومقيّدين، بفضل عمل محدّد على أجسادهم”. وتتجسّد أشكال التقييد والتطويع في “إجراءات من أجل تفريق الأفراد، وتثبيتهم، وتوزيعهم فضائيا، وتصنيفهم، وإستخراج أقصى مايمكن من الوقت منهم وأقصى ما يمكن من القوى، وتقويم أجسامهم، وتقنين سلوكهم الدائم، وإبقائهم ضمن دائرة الرؤية التي لا ثغرة فيها، وإحاطتهم بجهاز كامل من الرقابة، والتسجيل، والترقيم، وإقامة معرفة حولهم تتراكم وتتمركز” (فوكو. ص 235).
إلاّ أنه من الحرّي بنا إجرائيا، في بحث يتعلّق بأدبية وصف السجن، أن نفصل بين تمظهرات وظائف السجن التي فصلّها فوكو والكامنة في بنيتة “كسلطة في ذاتها: يمكن تماما رؤية دلالة إستقلالها الذاتي في الإكراهات غير المجدية ـ التي يقوم بها ـ الحرّاس أو في تسلّطية إدارة لها إمتيازات المكان المغلق” (فوكو. ص.247)، وبين العناصر المكانية التي تخصّ مكوّناته كتجهيزات تقتادنا تدريجيا من تحليل هندسته الحقيقية إلى بحث الوظيفة الطوبولوحية التي تؤديها هذه المكوّنات البنيوية بملحقاتها والمرافق المرتبطة بها. لذا نرى في النصوص التي بين أيدينا والتي أوردها كل من جمعة عتيقة والسنوسي حبيب بكثافة لاتخفى دلالاتها والأبعاد التي ترمي إليها الأمكنة التي تشكّل بنيه السجن العميقة مثل :الزنزانات والأقسام والقواطع المحتوية العنابر والغرف، ومتعلّقات هذه الأمكنة القارّة كالمراحيض والممرّات والحمّامات والساحات والأرضيات الخراسانية،والملحقات المعزّزة لهذه البنية كالأبواب والنوافذ والفتحات والكوى وما يثبت في الأذهان رمزية السجن عموما، كالبوّابات والأسوار والجدران والأسلاك الشائكة و أبراج المراقبة، والمرافق المرتبطة بتلك الخدمات التي تقدّمها بعض السجون مثل : العيادة، غرفة الزيارة، مكاتب الأدارة، موقف السيّارات، مقصف السجن الذي ظل ينطق في سجن الجدّيدة في طرابلس بأسمه الإيطالي(السباتش) مثله في ذلك مثل(الآريا) وتعني بالإيطالية (التهوية)التي حافظت على اسمها في أغلب السجون القديمة ويخصّ مساحة مستطيلة بمثابة فناء بين العنابر يسمح للسجناء بالخروج إليها لاستنشاق الهواء والتريّض في وقت محدّد ومحصور نهارا.
تبدو وظيفية فوكو في أبعادها القصوى، وبالصورة التي تتجلّى بها في موضوعة السجن وفي كتاباته حول مؤسسة السلطة عموما منحازة( للـ” بنية”) على حساب درامية الحدث الإنساني لكونها:” تتجاوب ـ حسب ما يرى جيل دولوز ـ وتلتقي مع نظرة حديثة ترى إلى موقع الشئ، بالنسبة إلى الأشياء الأخرى، ولاتعتبره موقعا متميزا وكمصدر للسلطة، كما لم تعد تقبل بالتحديد الدقيق لموقعها. حسب مفهوم جديد للفضاء الأجتماعي ، يماثل في جدّته مفهوم الأمكنة الفيزيائية والرياضية الحالية” (دولوز. ص . 32). وفي هذه الجزئية الأخيرة من بحثنا قد لاتفيدنا وظيفيه فوكو، بالمعنى السالف الذي حدّده دلوز. بقدرماتفيدنا إلماعاته التي بثّها في كتابه كوصفه للسجون بـ”بيوت القوّة”، وتأكيده أن”عزل المحكومين” في زنزاناتها:”يضمن إمكانية أن تمارس عليهم، مع كثير من الزخم، سلطة لا يعدلها أيّ تأثير آخر” (فوكو. ص .240) .هذه الإلماعة وغيرها مما أوردناه في ثنايا البحث، تجعلنا ننتقي عنصر الزنزانة ونفرده بالتحليل دون العناصر الأخرى المكوّنة لما أسميناه (بنية التعسف المتقصّدة) التي تقوم بتحوير الوظيفة الطوبولوحية للمكوّنات المادية للسجن والتي تعتبر الزنزانة مكوّنا رئيسيا من مكوّناتها، فتحيله من مكان يؤمِّن طوبولوجيا التفريد أو الإفراد الإكراهي للسجين، إلى مكان يكرّس التضييق الإكراهي باقتسام المساحة المحصورة مع سجين آخر. فتحت عنوان تهكمي هو”زنازين السردين البشري” يسرد لنا عتيقة مشهدا من غرائب سجن بوسليم يؤكد ما نرمي إليه في تحليلنا :”يتكوّن قسم الزنازين من قاطعين كل قاطع يحتوي على عشرين زنزانة انفرادية لشخص واحد يعيش فيها ضيق السجن الإنفرادي، غير انني فوجئت بأن الزنزانتين ( 19، 20 ) تحوي كل منها على أربعة سجناء ( … ) لم يكن الأمر متصوّرا، وامام إستحالته منحهم السجانون أسرّة تركّب فوق بعضها” (عتيقة. ص. 78). بل الأمر يتجاوز مبدأ عزل السجين والتضييق عليه إلى التنكيل به بغرض إرهابه. وهو مانراه في وصف جمعة عتيقة للزنزانة التي ألقي به فيها في سجن بوسليم :”وفي الصباح حالما تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود بدأت في استطلاع ملامح وأجواء الزنزانة لأفاجأ بصورة قاتمة :بقايا دماء على الجدران، خيوط عنكبوت بالية، مجموعة من الفئران الصغيرة تتسلّق الجدران وتلهو بين السقف وفتحات الممر المعتم”(عتيقة. المصدر. ص79) . في نص آخر نورده عن السنوسي حبيب يتعلّق أيضا بالزنزانات ولكن ليس بإظهار الرعب الذي يكمن في داخلها كما في نص عتيقة، ولكن بالتهديد الذي يتربّص خارجها في نص مخصّص لوصف مظاهر الحراسة في السجن المركزي(بورتا بينيتو) :”به قسم للزنزانات يقع بين القسمين الثالث والرابع يتمركز فوق سطحها دورية حراسة مزوّدة بمدافع ورشّاشات ويقال إن هذا الموقع تسيطر نيرانه على مدخل السجن في نقطة تقابل تماما الزنزانات التي من فوق سطحها تكون مشرفا بشكل كامل على مدخل السجن” (حبيب). أن تقوم حراسة لسجن يتكفّل بها عادة حرس السجن الذين يكونون غالبا من قوة الأمن الوطني أي(الشرطة)، ليس فيه مايثير الكثير من الرعب، إذا ما تعلّق الأمر بسجن، ولكن مايثير الرعب حقا هو مايوحي به نص حبيب من أن دورية الحراسة هي مفرزة عسكرية مزّودة ليس ببنادق، ولكن بمدافع ورشّاشات، الأمر الذي يؤكّد وجود سجناء عسكريين ـ وهو ماكان فعلا ـ قد أودعوا هذا السجن المركزي، لاتهامهم بالشروع في أعمال مسلّحة أو قيامهم بها، أوضلوعهم في محاولات انقلابية وإنّه لممّا يدعو للألم حقا أن يكون السجين الذي وصف هذا المشهد قد أودع هذا السجن طالبا متهما بالتحريض على تظاهرات طلابية ذات مطالب نقابية. وقد يلقي به سوء الحظ هو أو غيره من سجناء الرأي المدنيين الذين، كما بيّنت النصوص التي أوردناها أنفا، أنهم كثيرا ما أودعوا في سجون عسكرية أو جمعتهم في سجون عامة مع محكومين عسكريين قواطع واحدة، أن يكون في مرمى النيران على افتراض قيام أولئك السجناء العسكريين بحركة تمرّد، أو قامت مجموعة عسكرية أو سياسية مناهضة لنظام الحكم من خارج السجن بتحريرهم .
__________________________________________
الهوامش :
(*) دراسة أعدت خصيصا للمشاركة في”ندوة أدب السجن” التي عقدت يومي 4 و5/ 6 / 2012 بطرابلس بفندق باب البحر. في إطار النشاطات التي آقامتها وزارة الثقافة والمجتمع المدني.
(**) السليم: عشر، لأن المعدود مؤنث. لكن لم نجر أي تصحيح على المقتطفات(المحرر).
(1) عبد اللطيف اللعبي .يوميات قلعة المنفى (رسائل السجن) 1972 ـ 1980. ترجمة علي تيزلكاد والمؤلف . دار ورد للطباعة والنشر والتوزيع . سوريا . ط. 2 . 2010. ص21 . 22.( في ما بعد سنشير إلى الصفحات في المتن)
(2) د.أحمد جدي. محنة النهضة ولغز التاريخ ( في الفكر العربي الحديث والمعاصر ) مركز دراسات الوحدة العربية . بيروت ط. 1 . 2005. ص 145
(3) جورج مولينيه . الأسلوبية . ترجمة د. يسام بركة . المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر . ط. 1 . 1999 ص 122
(4) جيرالد برنس . قاموس السرديات . ترجمة السيّد إمام . دار ميريت للنشر والمعلومات . القاهرة ط. 1 . 1999 ص 43
(5) د. لحميد لحمداني . بنية النص السردي ( من منظور النقد الأدبي ) . المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء ط . 2. 1993. ص 78
(6) السنوسي حبيب ، أتذكـر ، صحيفة ميادين ، العدد 41 ، فبراير 2012
(7) د. جمعة أحمد عتيقة ، في السجن والغربة (مذكرات )، دار الروّاد ، ط. 2 . 2012 . ص 22
(8) انظر: نور الدين خليفة النمر، مدوّنة السـجـن الليبية: قراءة أولى في سرديات المثقف الليبي السجين. http://www.el-kaf.com/Articles.aspx
(9) ميشيل فوكو . المراقبة والعقاب ( ولادة السجن ) ترجمة د . علي مقلد . مركز الأنماء القومي .بيروت 1999. ص . 240
(10) جيل دولوز . المعرفة والسلطة ( مدخل لقراءة فوكو ) ترجمة سالم يفوت . المركز الثقافي العربي . الدار البيضاء ط .1 . ص 50