أ.د. عبد الستار العريفي بشيه
كان الحديث في حلقة سابقة عن بعض الارتجاليات في الأغنية الليبية، وفي قراءة القصة البرزنجية المولدية، والأناشيد الدينية في حلقات السماع الصوفي في الطريقة العيساوية، والطريقة العروسية، والطريقة القادرية، ويصل الكاتب في هذه الحلقة إلى الوقوف على ارتجاليات (فن المالوف)، وذكر مواضعها وجمالياتها من أداء نوباته.
وقبل دخول الموضوع، يجب علينا التعريف بفن المالوف في ليبيا. فأصل اللفظة ترجع إلى الجذر اللغوي: (أ.ل.ف) الذي نشأ عنه اسم مفعول: (مألوف) ونطقتها العامة بتخفيف الهمزة جريا على عادة التسهيل عند الأندلسيين والمغاربة، فنقلت إلى (مالوف)، أما في الاصطلاح فقد عرفه بعض الباحثين بتعريفات عدة إلا أن تلك التعريفات جميعها أخلت بحدود التعريف ومفهومه، ولعل أشملها ما وضعه الباحث في رسالته الماجستير فن المالوف في ليبيا بقوله:
هو الموروث الغنائي الأندلسي، بنصوصه الأدبية، وأوزانه الإيقاعية، وطبوعه [مقاماته] الموسيقية، التي ورثتها البلاد الأفريقية عن الأندلس فهذبتها وطورتها، وتتكون مادته من فنون النظم العربي المعروفة: الشعر، والموشح، والزجل، والدوبيت، والقوما، مع ما أضيف إليها من أعمال؛ وإسهامات محلية نظمية كانت، أو موسيقية جمعت بينها دائرة النغم الموسيقي والإيقاع، وما استعاروه من نصوص وألحان مشرقية.
ويعد هذا التعريف من التعريفات الجامعة المحكمة لفن المالوف الليبي.
أما عن وصوله إلى ليبيا، فذكرت بعض المصادر التاريخية وجهات الهجرات الأندلسية، وأماكن استقرارها بدول الشمال الأفريقي؛ وعلى تلك الوجهات قرر بعض المتخصصين، منهم: د. عباس الجراري في كتابه صُبابة أندلسية، نشوء ثلاث مدارس للغناء الأندلسي في مواطنه الجديدة.
فأولاها – مدرسة ذات أصول غرناطية بلنسية بالمغرب، وعرفت فيها بموسيقى الآلة، وثانيتها – مدرسة ذات أصول غرناطية بمدينة الجزائر، وعرفت فيها بالطرب الغرناطي، أو الصنعة، والأخيرة- مدرسة إشبيلية وامتدت من مدينة قسنطينة وسكيكدة بشرقي الجزائر، وتونس، إلى طرابلس الغرب-ليبيا، وعرفت فيها بالمالوف؛ ومع اتحاد المصدر والأصل، إلا أنك تجد لكل مدرسة منها مراسيم وتقاليد خاصة بها، تعبر عن هُويتها المحلية، وشخصيتها الفنية الخاصة؛ وإن توافقت في بعض الجوانب، والتسميات، والنصوص، والطبوع الموسيقية [المقامات]، تجدها تختلف من جهة الأداء، أو الاستعمال، وهو مبين في الدراسات الخاصة عن فنون الموسيقا الأندلسية في الأقطار المذكورة.
وحديث الكاتب هنا عن ارتجاليات استعملت في فن المالوف الليبي على وجه الخصوص. أولها: ما يعرف بــ ـ(الاستخبار)؛ وهو مصطلح يطلق على ترجمة عازف آلة الغيطة لسلم موسيقيِّ لطبع موسيقيِّ من الطبوع المستخدمة في نوبة المالوف، فمنها: طبع النوى، والرصد، ورصد الذيل، والماية، والأصبعين، والسيكاه، والمزموم، والأصبهان، وغيرها من الطبوع المستعملة، كما يطلق (الاستخبار) على ما يؤديه الفنان المنشد من آهات، أو لفظ الجلالة بمدود مختومة بلفظة: مولاي، ثم يلحقه بنص أدبي يحبذ أن يكون نصًّا زجليا، هو المعروف لديهم بـ (العروبي)، فيترنم به بصوته على حسب قدراته الفنية، ومساحاته الصوتية الخَلْقِية، وهذا الأمر كما هو معلوم متوقف على اختلاف الإمكانات الذاتية من شخص إلى آخر. [مصطلح الطبع الموسيقي عند المغاربة = المقام الموسيقي عند المشارقة. العروبي: نص زجلي يؤدى بطريقة مخصوصة من المحلية].
وثانيها: ما يقع في ترتيب النوبة التقليدية – غير النوبات المقدمة من قبل الفرق الموسيقية – في مثل مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ومناسبات الأفراح عامة، منها زفاف العريس إلى بيت الزوجية، والأتراح كالتي تقدم في الموكب الجنائزي، وهو من الارتجال الذي يقع للشيخ المؤدي للنوبة، فهو لا يعدُّها مسبقا، فهي آنية تأتي على عفو خاطره؛ وهي تختلف في عدد النصوص والنغمات، تطويلا وتقصيرا؛ بل بالارتجال قد تأتي من الشيخ مفاجآت عجيبة داخل أداء نوبته، تكون بنت وقتها، كتفننه في اختياره للصنعات النغمية لنصوصه المختارة، وهي غالبا ما تكون آنيَّة حالية في ترتيبها.
وثالثها: ما يقع في نقر آلة النقرة، وهي آلة إيقاعية تنقر بعصوين، أو نقر الطار= البندير من تزيينه بالتعشيق، أو التثليث، أو الشنشنة المفردة، دلالة الإعجاب مثلا، أو نقر (دُمٍّ= الصوت الغليظ) متوالٍ بميزان مخصوص عند أداء مواضع مخصوصة من النوبة وتحديدًا في الاستفتاحات وغيرها، وهي ارتجاليات إيقاعية غير محددة المكان من النوبة، ومرجعها قمة الأُنس الذي يقع على ضاربي الدفوف، والزهو من نشوة واقع من الصنعات النغمية، أو انسجام نصوصها الأدبية المستعملة في النوبة، حتى عُرِف بينهم: أنه أحلى تعشيقة في موضع معلوم من النوبة، وكذلك أحلى تثليتة في موضع ما منها؛ ولذا يحاولون الظفر بهذه المواضع الجميلة. كما لا ننسى تلك الحركات الاستعراضية الرائعة والجميلة التي تقع بين أفراد ناقري هذه الآلات، وبخاصة في نوبة المسير، لطبيعة جمال الوقوف وزيادة الحركات بينهم في الاستعراض دون الحركات المقيدة في نوبات الجلوس، وكما هو معهود من المشجعين من الجمهور في كل مجال من المجالات، وخاصة المشهورين منهم، فمنهم من يحاكيه بشنشة من طاره، أو بحركة بيده مشيرا إلى إعجابه، أو بصيحة تبين قمة انتشائه بالفعل المقدم وغيره من حركات الجمهور المعجب بأبطاله، وقد يعد الكاتب هذه الأفعال من النقد البَنَّاء من النوع التطبيقي الانطباعي.
[التعشيق: هو رفع ضاربي البنادير إلى أعلى بأزمنة محسوبة ست مرات. وربما سميت بهذا الاسم مماثلة للتعشيق: وهو رفع الأصوات بالصلاة على الرسول (ص) بعد قراءة الوظائف الصوفية، كما تواصلت عملية التعشيق بفرق المالوف الحديثة على المسرح، لما لها من جمالية شكلا وصوتا. أما التثليث: فهو نقر فردي أو ثنائي للبندير بأسلوب مخالف لحركة الإيقاع المستعمل، يتفنن فيه ضارب الطار بطرائق مختلفة، وأساليب عجيبة بجمالية رائعة، يتعرف من خلالها على قدراته الفنية].
ورابعها: منها صنعة الطوالع ولحنها، والطالع = أقفال الأبيات المعروفة في فن الموشح، كما تعرف بالخانات في بعض النصوص، وسمي القفل: طالعا لطلوعه؛ أي: خروجه عن نغمة ولحن الأسماط السابقة له، وكنا نسمع من كبار شيوخنا كالشيخ محمد اقنيص: أن الطوالع لم تكن ثابتة، ذات صنعات متفقة في الأداء بين شيوخ المالوف؛ بل كان للشيخ المؤدي حرية التفنن في خروجه من صنعة الأسماط بطريقته الخاصة، ومقدرته الموسيقية على الخروج والعودة إلى صنعة الأسماط، وهذا يؤكده اختلاف صنعة بعض الطوالع بين مدارس المالوف في طرابلس.
والنوع الأخير من الارتجالات مما يتعلق بنوبة المالوف الليبي ما يعرف بالاستفتاح: وهو أبيات توشيحية أو زجلية لا يتابعها المؤدي بالإيقاع، وإنما يؤديها بصوته فقط، وإن حفظت أصول نغمتها إلا أن هناك بعض الجماليات التي تبرز من شيخ دون غيره في الأداء، وهذا جمال الارتجال فيها.
إن كثيرا مما يقع من ارتجاليات قد لا يقع مرة أخرى، وإن تشابهت في بعض مواضعها، وأداء الأشياء بشيء من التنوع أفضل من السير المكرور بصورة واحدة، لسآمة التكرار أحيانا، وجمالية المتجدد؛ ومما يقع عند بعضهم من تفنن، وإجادة، وطرب، لا يقع عند غيره من المؤدين، لاختلاف الإحساس في كل موقف منها، فيسمج بذلك في أذن المستمع ويستهجن، عوضا عن تشنيف آذانهم برائق الألحان، وجمال الترتيب، وتوافقهم في حسن الأداء؛ وقد يكون مرجعه إلى الحالة النفسية التي يمر بها المؤدي أثناء تأدية ارتجاله من هدوء وسكينة وسلطنة؛ وجملة ما ذكر مجموعا هو المؤدي إلى وصول أعلى درجات الانسجام الواقع لشيخ المالوف والردادة (المجموعة الصوتية في حلقة النوبة)، وكذا ما يقع من ارتياح بين ضاربي الطارات، والنوبة، والنقرة؛ فيظهر على العمل الفني أثره، فيزيده جمالا، وبهاء، ورونقا، وتميزا عن غيره من الحالات التي لم تقع فيها حالات الانسجام، لانتفاء تواصل المجموعة فنيا وذوقيا، فيهبط مستوى العمل المنجز بطبيعة الحال وبداهته.
ومما تجدر الإشارة إليه وجود الثابت والمتغير في فنون الارتجال، فقد كان الأوائل يأتون بها كما يحلو لهم، ويعيدونها كلما تغنوا بالأغنية، بشكل مختلف، ولكن استعمالها بشكل مكرور، قد يحدث فيه متغيرا من زيادات، ونقصان، وتهذيب، ولكن بعض المتأخرين المحافظين حجروا على المؤدين التفنن؛ فجعلوها ثابتة لا يخرج عنها المطرب، وهذا الأمر اغتيال صريح للخامات الجيدة من المطربين والمبدعين في إبداعاتهم التي ربما ترتجل أشياء لم يأتِ بها السابقون، ويبقى للمطرب جمال التفنن في حسن الأداء، ورفع مستواه، مع المحافظة على جوهره الأصيل.
ومما يستغرب أن بعض المتابعين للفنون في بعض محاوراتهم يغضون من قيمة الارتجاليات، وبخاصة ما يقع في السهرات الفنية الخاصة وغيرها؛ مع أنها تؤدى على غير ترتيب وتدريب، وما للمؤدين فيها سوى حفظ الأعمال المقدمة، وهذا بخلاف ما يقع في الحفلات الرسمية التي يقيمها المطربون الكبار على المسارح والقاعات؛ إذ يصار إلى التدريب على الأعمال المستهدفة لفترة طويلة أو قصيرة، من أفراد الفرق، وبخاصة عندما تُقدم فيها أعمال جديدة، أو قديمة ضمن برنامج الفرقة المحفوظ من قبل أعضائها، ومع هذا التدريب المتقن والمتكرر، فإن نسبة الخطأ واردة الحصول، فقد تقع بعض الهفوات والهنَات فيها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن كثيرا ممن على الساحة الفنية الغنائية بأنماطها المتنوعة، مشاركون في فن الارتجاليات في أكثر من نمط منها؛ بل تجد بعضهم يشارك في جلها، وهذا مرجعه لتفنن بعضهم فيها دون غيرهم، وكذلك النظر إلى مستوى إجادتهم في أداء ارتجالياتهم والإبداع فيها من فنان إلى آخر، وفي نمط عن غيره من الأنماط المذكورة أعلاه.
ونستنتج من عرضنا هذا انتشار ظاهرة الارتجال في التراث الصوفي والفن الغنائي الليبي، بكثرته وشيوعه داخل حلقات الفن الموسيقي، وتنوع ألوانه وطرائق أدائه.
ملحوظة: يعتذر الباحث عن عدم إيراد صور كل المشاركين في الحركة الفنية، ولكنه أورد ما دعت إليه الحاجة لبيان الموضوعات المطروقة، وزيادة إيضاحها، وإلا فالمشاركون فيها لا يسعهم كتاب؛ بل مجلدات لكثرتهم، والشكر موصول لكل أصحاب الصور المرسلة إلي الباحث على الخاص، أو المنشورة على صفحاتهم الخاصة أو العامة، ويمكن الرجوع إلى صفحات شبكة المعلومات بالبحث عن الكلمات المذكورة لزيادة معرفة الارتجاليات بسماعها.
_______________
أستاذ الأدب العربي ونقده، كلية الآداب – جامعة طرابلس – ليبيا.
مجلة الموسيقى العربية | آب/أغسطس 31, 2023
تعليق واحد
[…] ارتجاليات تراثية ليبية (الحلقة الثانية والأخيرة) […]