بالواد جثم على ركبتيه.. غرس أصابعه بالوحل ثم استفاض الوجه وحلا.
أستذكر الكوخ الرابض في قلب الطود.. أستذكر عراف الجبل ذلك الشيخ المهيب.. أستذكر قولة
.. سليل النار لا يقترب من الماء.. يا ولدي لن تتذوق الشهد حتى تنهل من نهر المرارة.. لن تنعم بالسكينة حتى تنزوي في مواجع الزمن..
هراء كل ما هو آت.. ضياع كل ما مضى.
تمتطي العتمة فرس الليل العابث بالضياء.. يقترب القرين يترجل.. ينحني.. يتوشح بالسواد ويقرفص راميا بأعواد الحطب في قلب الهشيم.
ينزع اللثام عن شاربه الكثيف قائلا
.. لن تعرف مغزى النور إلا بقلب الظلام.. وانت تستعير الهدوء في هذا الجبل، في الآفاق تتضح الفكرة ويزول الغموض، لا تستكن للمرئي لمن يحاصرك طوقا.
الحنين هو زاد المسافر.. فكم في اسفارك داهمك الحنين.. كم في مراثيك ولولت رياح الفقد.. هنا السكينة في هذا السفح.. أنظر حولك هل التقطت عيناك شيئا؟
أليست السكينة في سطوة الظلام؟
قال مرثيته تلك وهو يلقي بأعواد الحطب في رحم النار.
تزداد البؤرة توهجا.. تضفي على شحوب الوجه خداع الزمن وتنطق تجاعيد العمرة بمأساة الانكفاء.
ترى متى يكون عظيما ملهما هذا الشقاء؟ تسائل بحرقة بوهج الروح المتعاظم.. والقرين يقلب سطوة النار.
أستدار في جلسته.. سحب نفسا عميقا وهو يتمتم قائلا.. نعم سليل النار لا يقترب من الماء ومن قمة الجبل تتضح الرؤى..
هكذا أخبره الشيخ ناصحا.. ركوب المهالك يمنحك الحياة والاستكانة دوما ديدنها الخنوع والرضاء
يصيح القرين..
هيهات.. هيهات يشتد صراخ القرين وتشتد ولولة الرياح السوداء.
ألك القدرة على السير لأعلى؟
تذكر جيدا.. في هذا الحطام لن يكرر لك الناصح نصحه ولا حتى القرين دوما يحاورك بفطنة.. أنت مجبول بسبر التيه محمولا ببؤس اللحظة حتى تصل القمة حيث الكوخ.. هناك وهناك فقط ستجد الأفق الأرحب والحكمة.
استدار في جلسته وكز رحم اللهب بعود حطب بال، صال في عمق الظلام، في صمت العتمة.
شتان شتان بين العتمة والسراب لكل بعده لكل هويته في سبر المسارب وتقصي مرافئ التيه.
إلى أين المفر.. لا مناص من الصعود، لا مناص من إخضاع سطوة العلو.
أطلق العنان لقدميه سالكا درب الصعود من السفح ينشد القمة.. ينشد انعتاق الروح وابدية الصفاء
كان ينشد منبت السراب ورؤى اللحظة. لكن الاقدام تاهت في يقين العتمة وخارت القوى في بؤر الوجع
أنزوى في نصف المسافة بين السفح والقمة.. إلى أعلى الوصول حيث الحكمة حيث الشيخ.. وبالأسفل سلاسل البقاء.. عبادة الاستكانة وحزن الرضى.
تعبت قدماه وأنهزم البدن غير أن الروح معلقة بالقمة.
يصرخ القرين مجلجلا بمداد البوح القاهر.
… ألم أقل لك. لن تقوى على مقارعة اللحظة.. أنت مرصود بالشد والفجيعة.. فجيعة عودتك للسفح، ومفقود إن سلكت درب القمة.
رفيق العتمة تائه يا ولدي يتضور شوقا للخلاص.. ينتحب وجعا.. ينسكب بؤسا مع شعاع الظلام القادم من منبت سواد الريح.. هناك وهناك فقط قد يغدو اليقين أقرب إلى الخرافة.. فاحترس
تناثرت أنسام الليل، رفع هامته لأعلى وهزيع الليل يصارع الضياء عند انبثاق شعاع النور.
تشبث بحراشف رطبة بصخور يكسوها الطين، تنزلق الايادي.. يقاوم ارتعاشة البدن.. في تجاعيد الوجه يتمازج انسياب العرق مع وحل الزمن ولفحات النسيم.
يصل القمة متهالكا.. يرمي حطامه على أديم الطود
تتثاقل يداه.. تشتد ولولة الريح.. يغلبه النعاس، يتراءى له وقع خطوات تدنو.
انهض.. لا نعاس بعد الآن.
نهض متهالكا يرمقه الشيخ بابتسامة الفخر. والنور يكتسح المروج والآفاق. تأمل اللحظة.. تأمل البحر وهو يحضن السهول والروابي ويعانق أشجار الصنوبر.
أشار الشيخ قائلا وابتسامة الرضاء تعلو بياض الوجه.. يا ولدي هنا منبت الحكمة أبجدية البقاء