د. عمر بن ناصر حبيب
إنّ من أصعب ما يواجه الشّاعر لحظة تدفّق إشراقات المخيّلة، وتوالد الصّور الشّعريّة لديه بأبعادها الإيحائيّة الخلّاقة الواعية، هي استجابته الآنيّة السّريعة لاستقبال أسراب الكلمات المتدافعة، التي تتحدّى رغبته الشّغوفة في رصف بنية الجمل الشّعريّة، واختيار ما يناسبها من اتّساق لفظي وتآلف مفرداتي، يُسهم بخلق إيقاعيّة باطنة ومتوازنة، وتراكيب لغويّة سليمة، تحول دون بروز أيّ اضطرابات سياقيّة أو تصدّعات شعريّة، قد تهدّد وحدة النّظام الدّاخلي العام للنّص المُنتج، ووحدة الموضوع الشّعري، بوصفه مرتكزًا رئيسًا لنظام التّرابط والتّناغم بين المقاطع المتعدّدة المكوّنة للنّص.
غير أنّ مصاحبتنا الطّويلة لتجربة “المهدي الحمروني” الشعريّة، ومخاضات عديد النّصوص لديه، كشفت لنا عن سمة إبداعيّة مغايرة للسّائد، ومناقضة لما ذهبنا إليه، يتميّز بها وجوده الشّعري؛ فهذا الشّاعر المثير بنصّه الرّفيع له مقدرة كبيرة على اقتناص المفردة الشّعريّة.
المناسبة والموحية بسرعة مثيرة، وقت استدعائها من ذخيرته اللّغويّة، وهي مهارة إبداعيّة قد لا تتوفّر لكثير من الشّعراء، ولعلّ مسوّغ ذلك هي السّليقة الشّعريّة التي يتمتّع بها الحمروني عن طبعٍ محض، هذي الموهبة الفطريّة لديه، فهي ذات انسياب طّبيعي ساحر، انسياب الماء الزّلال في الجداول الخضراء.
فأجنّة النّصوص في مخيّلة الحمروني تتخلّق لوحدها دون أثر من كسب، هي بنات جين متفرّد غير مكرور. ولهذا من يعتقد أن شاعرنا يعيش حالة كبيرة من إجهاد أو عناء لحظة مخاض القصيد هو واهم، ويسيء لشعريّة سابرة لأسرار خلق الكلم.. سابرة لأسرار أعماق الحياة.
وما انتهجه شاعرنا من خطاب صوفي انفتح فيه نصّه على المطلق، يُفهم في هذا السّياق؛ إذ لم يتساوق هذا الخطاب مع مدرسة بعينها؛ إنّما سار في تجربة ذاتيّة أساسها تجاوز لغة الواقع إلى فضاءت أخرى أوسع وأرحب، للغةٍ موحية ذات استخدامات ذاتيّة، تخارجت عن دلالاتها القريبة الظّاهرة، وعبّرت عن شعريّة ذات بنية رؤيوية جديدة، همّها كشف العوالم الباطنة للذّات، ودفع المتلقّي إلى مزيدٍ من التّأملّ والاستغراق، في إثارة الأسئلة العميقة التي تسوّر وجوده، وتحيط بحياته في أبعادها المختلفة، فضلًا عن جذبه نحو مجرّاتٍ فنّيّة ساحرة ممتعة وأفلاك من جمال.
هذا هو الحمروني وهذا نصّه الذي هو كلمه ونزف روحه مذ عرفته. طالعوا بواكير الشّعر في بقايا لياليه، ومحيّا النّبوّة في ميعة صباه وعنفوانه، وتيه المجاز إلى وحيه، وإشراقات شبابه وكهولته، بالسّؤال الدّائم الجاسر الدّافق، المُتعب بوهج استفهامه، وكلّ ما أهرقه من كؤوس الحكمة والجمال الأسطوري في متون مدوّناته؛
ستجدون ربيع الحياة يزهر في قلب القصيد، وفي كلّ المواسم قديمها وجديدها، وبالفوح المُسكِر النّشوان عينه. فالشّكر كلّ الشّكر لزمن جديد كان مُنتظَرًا وقد قدم، اسمه: المهدي الحمروني، وكفى.
* نشر بموقع (الأنطولوجيا)، 4 أبريل 2022