منذ أن طالعتُ مخطوط نصوص (هكذا أراك)(1) قبل طباعتها، شدتني العتبة الأولى التي تزرع في ذهن القاريء العديد من التأويلات المتباينة. فالرؤية يتمثلها الديوان بأشكال متعددة ومواقع مختلفة ولكنها تجمع على أن طيف الحبيب هو بؤرتها الأساسية بكل ما يزخر به من وصف وتدلل وغواية وتساؤلات متنوعة.
فالشاعرة فتحية الجديدي لم تهدر وقتها في مواضيع ومضامين بعيدة عن حقيقة ذاتها الإنسانية، وغريبة عن روح الأنثى التي تستوطن كيانها الجنسي، وبالتالي جاءت نصوصها انعكاساً لتلك الذات الحالمة المتعرية من كل عقد الزيف العاطفي والمجاملات الاجتماعية، التي تسجن أحلام النفس الشاعرة، وتجهض لحظات بهجة للاستمتاع بالحياة. وهذا الاتجاه لا يقتصر على هذه الشاعرة فحسب بل نلاحظه لدى معظم الشاعرات الليبيات والعربيات اللاتي يجدن في الكتابة الشعرية متنفساً للتعبير عما يختلج في أعماقهن من مشاعر وأحاسيس متوقدة.
لقد اتسمت نصوصُ الديوان باحتضان الكلمة والعبارة الجرئية التي تخرج لسانها للموروث الفكري، وتفتح دروبها نحو بوح إنساني شخصي يتحلى بالجرأة والصدق والشفافية التي ترسمها صوراً شعرية مفعمة بالبهاء وإن ظل الجرس الإيقاعي بارزاً في بعضها. كما أن هياكلها المتعامدة وبناء سطور نصوصها جاء بسيطاً على مستوى المفردة اللغوية والنفس الشعري القصير، وكذلك الصورة الفنية المتخيلة التي ظلت تزخر بعناصر متعددة مثل الوصف والاقتباس والسؤال وغيرها من التركيبات الأسلوبية المتنوعة.
والشعر النسوي في ليبيا، رغم التحفظ على هذه التسمية أو الإشارة، ظل منذ صدور (في القصيدة التالية أحبك بصعوبة) سنة 1984م، وهو أول ديوان شعر للأستاذة فوزية شلابي يتصف بالتواري بعيداً عن واقعية المرأة وأحاسيسها المكبوتة، وراء القيد الذكوري المتربص بها في كل مناحي الحياة العملية والتعبيرية والفكرية. ولذا فإن (هكذا أراك) يكمل مسيرة التمرد على العقلية البائسة، والتي انطلقت منذ صدور ذاك الديوان النسوي الأول في ليبيا، ويواصل العمل على صعق الفكر الاجتماعي لإعادة التوازن إليه.
لقد احتوى الديوان على أكثر من ثلاثين نصاً حملت عناوينها العديد من المفردات والعبارات والأسئلة التي تحفز القاريء للإبحار في أبعاد مواضيعها وعمق مضامينها الإنسانية، وإثارة بعض التساؤلات حول دلالاتها كما وردت في سياقات النصوص الشعرية. وقد تسلسلت العناوين كالتالي: لك أنت، احتيال، أدراج الغياب، الأباجورة، استدارة، استنطاق، أشجان، صغر، اكتمال، امرأة، بوول وتر، تنهد، جنون، حضورك الغائب، حكاية شمس، حلم، شغف، عيناك، فارق، كُنْ أنانياً، لأكون فيك، لحظات، لِمَا أتيت؟، لن تُجدي، معزوفة، مغادرة، مكان، نصفُ رجل، هكذا أراك، أترقبه بحزن، لا يهم، غربة الحنين.
ونلاحظ أن الشاعرة قد استعارت عنوان الديوان من نصها (هكذا أراك) الذي تهديه إلى الفنان الأستاذ/ علي العباني كما تقول في جلساتها الخاصة، وبقدر ما في هذا الإهداء من احترام وتقدير ومحبة للفنان التشكيلي الكبير فهو يبرز في نفس الوقت التعالق الفني بين الأجناس الأدبية، وتعاضدها في رسم صورة شاملة للفكر والفرح والحياة ونجد ذلك يتجلي في مخاطبتها له:
تقتُــلنِي ألوانُكَ
تَأْسَرنِي نُقوشُكَ
بَارِعٌ فِي رَسْمِ فضاءاتٍ تُشْبِهُكَ
صِوَرُكَ البَعِيدَة
تأخذَنِي
إلى مِدَادٍ أزرقٍ قَاتمِ
وفِضَّيٍّ متناثرْ
تَحْمِلُني قِصَصُكَ لِعَالَمِي(2)
وهكذا نجد الشاعرةا تتوحد في اللوحة الفنية التشكيلية وترسم العالم المشترك الذي يجمعها، كذات إنسانيةٍ أولاً وشاعرة ثانية مع الألوان والفرشاة وخطوط تعبيراتها ورسوماتها المتناغمة مع النص الشعري وأوجه صيرورة الحياة كافة.
سَمَاءٌ تشّتدٌ حِدَّتُهَا
تعاريجُ سُحُبِهَا
بينها أكونُ
ولاَ تكونُ معي(3)
وتختتم نصها (هكذا أراك) بالتصريح برؤيتها ومفهومها للإنسان والفن والحياة، التي تجسدها مطالبتها الفنان علي العباني كشخصٍ وقيمةٍ ورمزٍ، بالاستمرارية في إبداع تكوينات هذا الضجيج اللذيذ، والمثابرة في كسر جدران الصمت للعيش في تمازج لوني وفكري متعدد الأطياف الذي يمثل الصورة العامة للإنسان والحياة كما تراها حين تقول:
صَمْتُكَ .. هو المزيدُ منْكَ
تُضيفُ من شبقـكَ
خلّطةً أُخْرَى ..
مزيجاً مُلوناً للحياة
لا تخلوُ منها
هكذا أراكَ(4)
وليس هذا النص وحده الذي يدير محركات التأمل والتفكير في ذهن القاريء، بل هناك نصها (معزوفة) الذي تستهله منذ السطر الأول بسؤال مباشر (أتذكرني؟) وفيه تعيد إلينا تعالق النص الشعري مع الفن الموسيقى، حين انزرع كيانها في دندنات وإيقاعات الفنان الموسيقار المصري عمر خورشيد المنبعثة من مقطوعته (حتى آخر العمر):
أتذكُرُنِي ؟
تُعِيدُنِي لِنَفْسي
أوتارَ
قيثارةٍ ساحرة
رافقتني
بأناملَ “خورشيد”
معزوفة (حتى آخرِ العُمُر)(5)
ومن بين النصوص المكتظة بالأسئلة الاستفزازية قصيدتها (لِمَا أتيتَ؟) التي تستهلها بروح حزينة نادمة مستنكرة لحضور حبيبها وهي تقول:
لِمَا أتيتَ..؟
مِنْ بَواقي أحزاني
مِنْ شطحاتي
(عطرِكَ بثنايا)
فستاني(6)
وتتواصل المواجهة بين أحاسيس ورغبات ذاتها ومشهد طيف حبيبها، بصوتٍ هامس أحياناً وصادح في آحايين آخرى محملاً باللوم والعتاب بكل ما تعلنه الجرأة الأنثوية لتقول:
لِمَا أتيتَ..؟
توقدُ الأشياءَ مِنْ مخابِئهَا!
قليلُ مهجتي
ومنزلتي!(7)
ويتواصل هدير بوحها الغاضب مكرراً أسئلة الحضور لتبرز عنفوان الذات النادمة أو المرتبكة وهي تبرهن عن معاناتها بالدمع تارة والحرقة المستيقظة فيها تارة أخرى كصور قاسية لمعاناة تفاعلاتها العاطفية:
لِمَا ظهرتَ …؟
وجفَّ دمعي
من منابعه
وحرقة أخرى
تستيقظ بي(8)
تنبعث مشاعر الأسى والمرارة في كل تلك الأسئلة المؤرقة للفكر والذات المتشظية، والحزينة المتكررة كمطرقة قاسية، حتى سؤالها الختامي الرابع حين تستفيق لتوقن أن الحياة ليس لها مذاق أو طعم حين نعيشها فرادى، ولا تستقيم إلاّ في كيان جامع ثنائي الوجدان، يتوحد فيه قلبان وتسمو به روحان، كما تنسجها رؤيتها الافتراضية لذلك مؤكدة على أن الحياة مرات دائمة كما اختزلها الفعل بصوتها (أحيا) بينما الموت الحتمي مرة (واحدة) فقط:
لِمَا ظَهَرتَ بِخَيالٍ رَمَادي؟
تشاكسني
أراكَ مع تراتيلِكَ
هي الأيامُ صنعناها معاً
أنا أحيا لأموت مرة(9)
يحمل ديوان (هكذا أراك) للشاعرة الصحفية فتحية الجديدي الكثير من المضامين والصور الشعرية التي تنقل لنا رغبات النفس وعذاباتها وأحلامها الشخصية البسيطة كما يعزفها قلبها العاشق للبهجة والمرح، وهي بلا شك تستحق المطالعة والغوص بين سطورها، ومصاحبتها لشواطيء آمنة تزرع الانبساط في الروح، والجمال والاستمتاع بخيالات تنسج عوالم زاخرة بالثراء كما تلظمها مشاعر أنثوية مرهفة، وذاك هو إحدى الغايات النبيلة التي يبعثها الشعر في الإنسان.
هوامش:
(1) هكذا أراك، فتحية الجديدي، دار إمكان للطباعة والنشر، طرابلس، ليبيا، الطبعة الأولى، 2021م
(2) المصدر السابق، ص 77
(3) المصدر السابق، ص 78
(4) المصدر السابق، ص 78
(5) المصدر السابق، ص 68
(6) المصدر السابق، ص 63
(7) المصدر السابق، ص 63
(8) المصدر السابق، ص 64
(9) المصدر السابق، ص 64