أحلام عمار العيدودي
بداية التجريد نوع من أنواع البلاغة في الكلام، ومفهومه هو أنك تخاطب غيرك وأنت في الحقيقة تقصد نفسك بهذا الخطاب،فأنت تتكلم عن شخص غائب وتصفه ببعض الأوصاف التي تقصد بها ذاتك،والفائدة من التجريد إعطاء نوع من الاتساع والتوسع في الكلام و القدرة على الوصف وذكر بعض التفاصيل؛لأن في الظاهر أنت تتكلم عن شخص غائب ولكن أنت في الحقيقة ومن خلال خطابك تقصد نفسك،إما لموقف حصل لك أو لمشاعر شعرت بها ولا تستطيع البوح والتعبير عنها فيكون التجريد سبيلاً لك للإفصاح عنها.
في شعر ما قبل الإسلام وصلتنا الكثير من الأبيات التي استخدم فيها الشعراء التجريد وكانت بمثابة ميزة من مميزات القصيدة الطللية منها قول الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل .
فالشاعر هنا يخاطب نفسه وبالتالي جرد من نفسه شخصية خاطبها فهريرة هي حبيبته وبقوله أيها الرجل يقصد نفسه،التي جرد منها شخص آخر وهو”الرجل” وخاطبه في القصيدة وهذه صورة من صور التجريد يُخرج فيها الشاعر شخصاً آخر من نفسه ليخاطبة،ومن أمثلة التجريد ولكن بطريق الكناية قول الأعشى أيضا:
يا خير من ركب المطي ** ولا يشرب الكأس بكف من بخل.
وهنا كناية عن أنه شخص كريم لا يشرب حتى من يد رجل بخيل من شدة كرمه.
من أمثلة التجريد في العصر العباسي قول المتنبي:
و لا خيل عندك نهديها ولا مال ** فليسعد النطق إن لم تسعد الحال.
فالتجريد يُعد علامة من علامات بلاغة اللغة ؛ تطور استخدامه عبر العصور حتي أصبح ستار يتستر وراءه الشاعر خوفاً على نفسة أحيانا من حاكم ظالم أو عالم جاهل،يمكن أن نسميه تقية لغوية طاوعة الشعور لتحمي الشاعر من مقصود لا تحمد عقباه أحيانا،لذلك ساد انتشار التجريد في العالم العربي وفي ليبيا بالذات،خاصة خلال فترة الحكم الماضية، ساهم في ذلك أن فلسفة التجريد تقوم على كون التجريد إبداع وخوضُ في أعماق الأشياء فالقصيدة التجريدية هي قصيدة تهتم بالشعور وليس بالمعنى لذلك كانت تقية إبداعية رائعة بما تبعثه من رموز كأنها شفرات عذبة تخترق العقل وتحتل الروح؛ لأنها تتميز بالاعتماد على شعور عميق بالأشياء.
وفي العصر الحديث ساد تيار التجريد الذي مثل درجات عالية من الغموض والإبهام لأن الشاعر ببساطة ينحرف عن المسار المعهود في تذوق القصيدة الشعرية فأصبح التجريد يقدم صوراً تعبيرية غامضة تجعل من كل متلق أو قارئ يفسر موضوع النص الشعري بشكل مختلف عن قارئ آخر،فيصبح للنص الشعري أكثر من موضوع في نص واحد وفي كل الحالات سيصعب على المتلقي معرفة الموضوع الأصلي للقصيدة وتحديده بشكل قاطع.
في الوطن العربي يعتبر الشاعر السوري (أدونيس) رائد الاتجاه التجريدي وهناك في مصر أيضا الشاعر (رفعت سلام) اتجه للكتابة التجريدية،أما في ليبيا ومن خلال بحثي وجدت أن الشاعر (محمد المغبوب ) كتب أيضاً الشعر التجريدي من خلال مجموعتة الشعرية الصادرة عام 2004 عن الأطلسية للنشر- تونس – بعنوان ( بين المساء والسهرة ) وهذا نموذج منها:
كلما مر لصوص الوطن
من أمامنا
كي لا نتقيأ
أو تهزأ منا أونضحك علينا.
نوع التجريد هنا تجريد بحرف (من) هذا بالأضافة إلى أن القارئ لم يستطع أن يفهم ويحدد من الذي مر من أمام الآخر ومن المار أصلاً.؟ حسناً الآن نعتبر أن المار هو لص نحدده “عضو في مليشيا ما”، يمر بين الناس قاصداً مكان يرفض الناس تواجده فيه، وهم لا يستطيعون التعبير بصراحة عن رفضهم لوجوده بينهم خوفاً منه،فلا يعرف الواحد منهم أيتقيأ من شدة اشمئزازه منه ورفضه لوجوده أم يدخل في حالة هيستريا لا يعرف فيها أيضحك أم يبكي من عجزه! حسناً هذا افتراض للموضوع المقصود من خلال هذا البيت، ولكن ربما الشاعر يقصد شخصا من عائلته مثلاً أو جارا له؟ أو ربما يقصد إنساناً سرق فرحته يعني ليس لصاً بالمعني المعتاد. النص يحتمل كل هذه الاحتمالات .!!
النموذج السابق يتحقق فيه ما قلته في بداية هذا المقال: البلاغة في اللغة والغموض وظهور واضح للمشاعر أكثر من ظهور للمعنى، وتقية إبداعية لغوية، فالشعر التجريدي من الصعب جداً أن تحدد موضوعه بل والمقصود منه ؛ فلهذا يحتمل النص أن يحمل عدة مواضيع، هذا من وجهة نظري قمة الإبداع. فالنص التجريدي يستطيع المبدع من خلاله التحرك بحرية وخفاء ولا يحتاج فيه للمفردات بقدر ما يحتاج فيه للمشاعر الصادقة.
نـمـاذج أخرى من الـشـعـر الـلـيـبـي:
النص الأول: نص بعنوان (أقلام) للشاعر (عمر عبدالدائم ) ضمن ديوانه الذي يحمل عنوان (يسكنني) يقول فيه:
في عقود الظلام..
سكنت أقلام..
ونطقت أقلام..
انكفأت وغبت،وصودرت أقلام
وطابت وزمرت أقلام
في عقود الظلام..
قُصيت أقلام
الغموض يجتاح هذا النص، فإذا ما نظرنا للنص من زواية العنوان نجده محدد في القلم ضمن ديوان يحمل عنوان واسعاً “يسكنني”، القلم في النص سكت وسكن ونطق،ولكن قلم من؟ هل قلم القاضي أم قلم العاشق،وهل هو قلم العاشق المجروح أم قلم العاشق الفرح بعشقه.؟ أم قلم الصحفي،أم قلم من؟ لايمكن تحديد الموضوع هنا،فالذات المتمردة حاضرة ولكن عما تتمرد هذه الذات هذا ما لا يمكن تحديده من خلال هذا النص.
لنقوم بتفسير للنص: سكتت الأقلام ؛لأنها سكنت رفوف المكتب ولم يستخدمها صاحبها للكتابة والبوح والتعبير على ما يجوب في خاطره،نطقت أقلام هي أقلام شخص آخر قرر الكتابة والتعبير عما لم يستطع الأول التعبير عنه.أما عقود الظلام لنفرض أنها المنطقة التي يوجد فيها الخوف في نفس كل إنسان، الأول لم يستطع التصريح والكتابة والثاني استطاع إنارة هذه المنطقة والنطق بحقيقة مشاعره،لذا قُضيت أقلام الأول؛ لأنه خاف البوح ولم يمتلك الجرأة له. هذا تفسير محتمل لموضوع القصيدة ولكن ليس تفسيرا نهائيا! فقد يقرأ النص قارئا آخر ويصل لموضوع آخر بتفسيرآخر،وهذا دليل على تجريدية هذا النص.
النص الثاني: بعنوان الحكاية للشاعرة الليبية (سميرة البوزيدي) ضمن ديوان صدر لها بعنوان (جدوى الموارية) في طبعته الأولى في يوليو عام2003 تقول في هذا النص:
نضرم الحكاية
في بياض الليلة
ونتبادل كؤوس
الابتسامات الغابرة
فمن يعيرنا
سمع قلبه؟!
نسير أو نتوقف..لا فرق
يفيض فينا ملح الشواطئ
ويقوم ألف جدار
ويسيل النهر بعيداً
عن ظمئنا
وتمشي الحكاية الجميلة
غموض النص واضح،المشاعر تصل للقارئ دون أن يصل المعنى،فإذا ما حاولنا فهم حكاية “الحكاية”سنجد ألف تفسير وألف معنى وألف حكاية هذا هو التجريد يبدأ من عنوان واسع وينتهي لمقصود وموضوع يصعب تحديدة؛ إنه الإبداع الشعري والفلسفة التجريدية.فمن خلال الحكاية تستطيع أن تفسر وتتوقع ألف حكاية وحكاية.