طيوب عربية

قطّتي المفكّرة

قطة. (الصورة: الكاتب الصديق بودوارة)
قطة. (الصورة: الكاتب الصديق بودوارة)

لا شيء يؤنسني بعد غيابك إلاّ قطّتي البيضاء؛ أشعر أنّها تحبّني؛ أشعر أنّها تحسّ بغيابك؛ أشعر أنّها تفكّر؛ كثيرا ما تختار العزلة؛ ترفض الكلام معك؛ تدخل في إضراب عن الكلام؛ لا يهمّها الطّعام؛ أحسّ أنّها تحبّك حبّ الملائكة للخير؛ تجلس فوق تلك الأريكة كأنّها ملكة خرافيّة الحسن تراقب تطلّعات شعبها من بعيد؛ يهمّها رعاية مصلحة شعبها في الأجل القريب؛ لا تفكّر في تحقيق مكاسب ضيّقة؛ هي قطّة وديعة منظّمة؛ مشيتها أنيقة؛ تحافظ في سلوكها المعتاد إلى درجة غير معتادة على غرور ضروريّ؛ هو غرور جذّاب مسموح به تحتاج إليه كلّ أنثى عندما تخسر حبّها المستحيل؛ هي منظّمة في بيتها لا ترفض من ينقدها أو من يطالبها بإعادة ترتيب أفكارها داخل بيتها؛ لا ترفض أن تجلس معك إلى الطّاولة للتّفاوض عن حقوقك المشروعة لتحسين ظروف عيشك المتردّية؛ هي مع تكريس الحوار ولا ترفض مبدأ الحوار؛ هي لا تحبّ الفوضى؛ رتّبت أوراقها وأفكارها؛ كم مرّة رأيتها تكتب نيابة عنّي عدّة مقالات تنقد فيها المجتمع والسياسة؛ لا أدري من أوحى لها بأفكاري؟ من سمح لها أن تفكّر نيابة عن شخصي دون إثبات شخصي؛ لم تكن راضية على تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة؛ كم رسمت من شعارات تندّد فيها بدولة الاحتلال؛ فعلا هي قطّة ثائرة على الوضع العربيّ؛ تتبنّى عدّة أفكار قوميّة؛ ترفض أن تغادر حجرتها قبل أن أفتح لها المذياع حتّى تسمع نشرة الأخبار؛ وهي حريصة على متابعة آخر التطوّرات في العالم العربي والإسلاميّ؛ تراقب كلّ الأوضاع بحذر؛ ترفض أن تدخل مع الفأر في حرب تقليديّة خاسرة لا محالة؛ تفضي إلى انتصار القويّ على الضّعيف؛ تعطي إلى الفأر الجبان وهو يهرب مذعورا من جحر إلى جحر آخر كلّ حقوقه المهضومة ماديّا ومعنويّا؛ هي لا تعرف أسباب خوف الفأر من القطّ؛ لا تجد مبرّرا لذلك الخوف؛ حاولت بكلّ الطّرق أن أفهم أسباب الصّراع التّاريخيّ بينهما؛ لم أجد مبرّرا للخوف؛ لماذا قرّرت القطّة أخيرا أن تطرد الفأر من البيت؛ هي ليست صاحبة البيت؛ من أعطاها الأمر بمنعه من الجولان وسط البيت؟ الجميع فكّروا في قتل الفأر؛ لم أجد من دافع عن حقّه في الحياة وسط بيته؛ شدّتني حرب الشوارع الدائرة بينهما في حجرتي؛ كانت أجواء المطاردة ساخنة جدا؛ أليست قطّتي هي المسؤولة عن ذلك الخوف الذي بسببه وقع الفأر في أكثر من هزيمة وسط هزيمة نكراء؛ كلّ الحروب التي خاضها خرج منها خاسرا؛ هي من دفع الفأر إلى التّفكير دوما في الهروب؛ صار الهروب نتيجة حتميّة لتضخّم ذلك الشّعور بالخوف أو ما يسمّيه بعضهم ب” الانجراح في السّلوك”؛ إذا كنت خائفا لا تستطيع أن تبدع؛ نعم لا تستطيع أن تنتصر على عدوّك؛ فقد الفأر بموجب الخوف وسط الخوف الثّقة في قدراته الهجوميّة؛ قطّتي دون سائر القطط تعطي خصمها اللّدود الفأر بعد إعلان الحرب الشّاملة فرصة الدّفاع عن نفسه للنّجاة بنفسه؛ كما تعطيه أيضا فرصة تاريخيّة نادرة تخوّل له أثناء الهجوم المضاد بعد أن يسترجع قوّته وقد خارت قوّته أن يخرج من خوفه منتصرا عليها… هي تعطيه أكثر من فرصة كي يثبت قدراته الفنيّة وهو يقاتل؛ لكن الفأر أضاع بموجب خوفه على حياته كلّ الفرص؛ رفض أن يتخلّى عن عقدة الخوف داخل الخوف من الخوف وسط الخوف نفسه؛ هي لا ترفض أن ينتصر عليها؛ هي قطّة مثقّفة تتابع المنابر الثقافيّة على التّلفاز؛ يهمّها أن تبدي رأيها بذكاء في عدّة ملفات عربيّة ساخنة جدا.

   تراقب نظراتك إلى السّماء؛ تقدّر شعورك بالخوف من المصير المجهول؛ تتعاطف معك في المحنة؛ تتبنّى شعاراتك؛ هي قطّة مؤمنة ترفض كلّ الأفكار الملحدة؛ تطلب الغيث؛ ترفض من يعبد النّجوم والقمر في السّماء؛ تطلب الرّزق من الله؛ مقتنعة بما رزقها اللّه؛ لا تفكر في الغنى؛ تكره الأغنياء وتحبّ الفقراء؛ ترفض من يلقي لها بفضلات الطّعام في القمامة؛ تكره الإهانة؛ تحافظ على كرامتها؛ يهمّها الفوز بالكرامة قبل الفوز بالخبز؛ ترفض من يحتقرها؛ ترفض من يشتمها؛ ترفض صدقات الأغنياء؛ ترفض العظم لكنّها تحبّ اللّحم كثيرا؛ لا تريد من يتجاهلها على مائدة الطّعام؛ لها كبرياء لا يملكها بعض الملوك؛ تريد أن تكسب قوتها اليّوميّ بعرق جبينها؛ ترفض نظرات المجاملة؛ نعم ترفض من لا يبادلها نفس الحبّ ونفس النّظرات؛ ترفض من لا يعطيها فرصة حتّى تدافع عن وجهة نظرها في عدّة قضايا مصيريّة؛ ترفض دخول الغرباء إلى بيتي؛ تؤمن بالمبادئ النّضاليّة؛ لها عزّة نفس كبيرة؛ لا تقبل الهدايا الخاصّة؛ ترفض الرّشوة مقابل أن تتنازل عن موقفها القوميّة؛ هي صاحبة مبدأ في الحياة؛ هي فريدة في سلوكها وعنيدة في تصرّفاتها؛ لا تطلب الحبّ إلاّ مرّة واحدة؛ لا تطلب المستحيل؛ لكنّها أحيانا تطلب الحبّ المستحيل؛ تريد من يتغزّل بخوفها في أشعاره؛ تريد من يضمّها إلى صدره؛ تحبّ قصص العشّاق على طريقة مجنون ليلى؛ تعرف عدّة حكايات مثيرة تستهوي الأطفال؛ تحرص في أيّام الشّتاء أن تسرد عليك قبل نومك قصصا مخيفة ومرعبة وغالبا ما تنتهي حكايتها ببطل انتصر على الوحش بأعجوبة؛ كم مرّة انتابني الخوف؛ كم مرّة تسلّل ذلك البطل الخرافيّ إلى فراشي؟؛ كم مرّة استسلمت إليه وقد أخذني نعاس خفيف؟ كم مرّة أحسست أنّي جبانة بسبب زئير قويّ كالرّعد تركه ذلك الوحش الأسطوريّ في فراشي؟ لم أستطع أن أدخل معه في مقاومة؛ فقدت كلّ وسائل المقاومة؛ لا أريد المقاومة؛ وحين اعترفت له بجبني عاث في أرضي فسادا؛ قتل كلّ جنودي وأعدم كلّ حرّاسي.

على مسافة قريبة رأيت قطّتي تعتني بأزهار الحديقة؛ تقتلع الأعشاب الطفيليّة بحرص كبير؛ ترفض دخول الأعشاب الغريبة إلى أرضي؛ تريد أثناء دفاعها عن أرضي من يلاطفها كأنّه يلاطف وردة؛ تريد الغناء تترنّم بصوت فيروز” سألوني النّاس عنّك يا حبيبي…سألوا المكاتيب عنّك” ترفص رفضا قاطعا من ينتهك حدود حديقتي؛ هي قطّة حسّاسة ترفض من يجرح مشاعرها ولو بنظرة…ولو بكلمة؛ تحبّ الأغاني الثّوريّة؛ تحبّ الشّعوب الثّائرة من أجل الحريّة؛ تواسيني في وحدتي بعد غيابك عن فراشي؛ كم مرّة قاومت خوفي من المجهول وقد غبت في المجهول؛ هي شاهدة على غيابك وسط غيابك المتكرّر؛ ترفض الاعتراف بأيّ سبب يدلّ على سبب منطقيّ يبرّر غيابك وسط غيابك عنّي إلى الأبد؛ هي شاهدة على نظراتك نحوي بإعجاب مفرط فيه؛ تراقب الطّيور العائدة من بعيد تحمل الحبّ البعيد من السّماء البعيدة؛ لا يسكن  حبّي وسط حبّي لك إلاّ وسط عشّ بنيته في السّماء؛ أشعر أنّي ولدت في السّماء؛ أشعر أنّ الطّيور لا تريد فراق ذلك الحبّ في أعماق السّماء؛ هي تهاجر تحت ضغط ذلك الحبّ في السّماء؛ المهمّ أنّها طارت إلى مكان بعيد لا يسكن فيه إلا العشّاق في آخر المطاف؛ تحرّكت القطّة شرقا أعطتني من خلال تصرّفاتها التي تدعو إلى الشّكّ والرّيبة شعورا أنّها ربّما تكون على موعد سريّ مع قطّ ادّعى فجأة دون نظرات أنّه عاشق؛ نعم بمرور الوقت وتعدّد الزيارات حتّى دون موعد سابق أدركت أنّها وقعت في قصّة حبّ من نظرة واحدة جعلتها تفقد أعصابها؛ هي قطة عاشقة تخفي في قلبها تفاصيل حبّ وهميّ عصيّ كالدمع؛ تحبّ أن تجلس آخر اللّيل على طريقة العشّاق في تلك الشّرفات وهم يراقبون تناثر النجوم كالأزهار في السّماء؛ تحبّ الهدوء فوق السّطوح؛ ترفض التّوتّر النّاجم عن القلق النفسيّ؛ تسهر إلى ساعة متأخّرة من اللّيل دون سبب واضح وقد علّلت ذلك بأن النّوم هرب من فراشها وهي تشعر بالقلق داخل القلق النّاجم عن طرحها لعدّة أسئلة لم تجد لها إجابة مقنعة؛ ومن تلك الأسئلة التي نشرت فيها الرّعب حسب دلالته الفلسفيّة: متى تطيب الدّنيا؟ متى تعود النّشوة إلى فراشها؟ متى تعود الطّيور إلى أعشاشها؟ هي شاهدة على خروجك من بيتي العتيق في ساعة متأخّرة من الذكرى؛ هي شاهدة على حبّك إلى ساعة متأخّرة من الحبّ؛ هي تفهم ما لا أفهم؛ هي تحبّ ما أحبّ؛ رفضت الإقلاع عن التّدخين؛ هي تفكّر فيما لا أفكّر فيه؛ تطرح عليك عدّة مسائل غيبيّة تتعلّق بالقضاء والقدر والمنطق والحساب والخير والشرّ؛ هي تشعر بما لا أشعر؛ تضمّني إليها برفق…بعطف…. ترقص معي رقصا خفيفا؛ تغنّي معي أغنيات حزينة؛ تطرح عليك السّؤال؛ ولكن لا تعطيك الجواب؛ لا تعطي الأسرار الدّاخليّة وسط بيتي؛ تنظّف الغرف من الأتربة تحرص على فرض النّظام وتطبيق القانون حتّى بالقوّة؛ ترفض من يخالف أوامرها؛ هي التي نظّمت أفكاري وأدباشي بعد غيابك وسط غيابك؛ هي التي ملأت غرفتي بالجرائد المقروءة بعد غيابك؛ بعد حبّك؛ ملأت قلبي بالفرح يتخلّله الفرح بعد هروبك أو عزوفك عن فراشي؛ تعطيني ما أحبّ؛ تعطيني ما ينقصني من الحبّ؛ تذهب إلى فراشي في ساعة متأخّرة من الذكرى؛ تستقبل حزني؛ تسرد عليً أجمل القصص الغراميّة؛ ترسم لي أجمل اللّوحات؛ تختار أجمل الألوان؛ تشعر بما أشعر إلى ساعة متأخّرة من الحبّ؛ كم مرّة قاومت هجوم اللّصوص على بيتي في ساعة متأخّرة؟ انتصرت على خوفها؛ لم تعطيهم فرصة حتّى يشعروا بخوفي؛ كم مرّة قتلت ذلك الفأر الملعون تحت سريري يبحث عن نشوة ضائعة وسط سريري؟ كم مرّة غابت عن الوجود تبحث عن تفاصيل حب ضاع في أعماق الوجود؟ هي قطّة وجوديّة تحمل عدّة أفكار وجوديّة؛ هوايتها المفضّلة العزف على البيانو أو الرّسم على الماء؛ تحتجب أيّاما عن أنظاري… لا أدري أين تذهب؟ لا أدري أين تختفي؟ ثمّ مع الفجر والفجر لا يشعر تعود كما تعود الطّيور إلى شرفتي؛ ترفض الإجابة عن سؤال أين ذهبت؟ المهمّ أنّها ذهبت وعادت؛ ترفض من يتدخّل في حريّتها الشّخصيّة؛ تكره الإلحاح في السّؤال: لماذا خرجت دون إذن رسميّ من صاحبة البيت؟ لماذا خرجت من فراشي أصلا؟ لماذا تركت فراشي دون غطاء؟ صارت مع الأيام تخرج متى تشاء وتعود متى تشاء؛ لم تعد تخاف من الأحلام المزعجة في فراشي؛ بعد أخر معركة خاضتها مع العفاريت صارت هي صاحبة البيت أو صاحبة القرار في غياب القرار وسط القرار؟ كثيرا ما ترفض الامتثال إلى أوامري؛ كم مارست العصيان المدنيّ ضدّي؟ كم عاقبتها؟ كم سجنتها؟ كم وضعتها تحت الإقامة الجبريّة؟ كم رفضت أيّ وساطة للإفراج عنها وقد عاقبتها أشدّ عقوبة حين حرمتها من مشاهدة التّلفاز وقراءة الجرائد؛ رغم تلك العقوبات الصّارمة لم تغيّر من مواقفها العاطفيّة المتشدّدة؛ ترفض من يدخل معها في حوار عقيم لا جدوى منه؛ ترفص أن تبوح بأسرارها الشّخصيّة؛ تحبّ الألوان السّوداء؛ والأشكال الجوفاء المنحرفة؛ أصبحت تختار ملابس سهرتي كما تتصرّف في مكياج سهرتي؛ بعد غيابك عن تلك السّهرة في رأس السّنة الميلاديّة؛ فرضت عليّ عدّة عقوبات متعنّتة لأنّي خرجت من البيت دون استشارتها؛ فرضت اجراءات صارمة منها أن أرتدي خمارا أسود اللّون؛ كم دخلنا معا في حداد طويل حزنا على فراقك؟ أعطتني شعورا قويّا بأنّي أصبحت أرملة لا تحمل سوى ذكرى حبيبها وقد هاجر مع تلك الطّيور؛ كم مرّة انزعجت قطّتي لأنّّ حركة المرور التي تفضي إلى بيتك مباشرة معقّدة مزدحمة جدا؛ الجميع أهملوا إشارات المرور في حياتي؛ كما أهملوا علامة “قف” في حياتي؛ الجميع رفضوا أن يعطوني الأولويّة في حبّك وقد أزعجني تصرّفهم كثيرا؛ أزعجني أنّ الوقت ضاع ولم تعد قطّتي بعد  إلى البيت؛ هي تكره الازدحام؛ تكره الانتظار؛ كانت ترفض التّفكير في مدّة غيابك؛ تحبّ كثيرا قراءة جرائدك المبعثرة بمفردها؛ تكره الاختلاط ببقيّة القطط السّائبة؛ تحبّ من يقرأ ولا يكتب؛ تحبّ تقليد عارضات الأزياء؛ تحبّ الأغاني الشرقيّة الملتزمة؛ تكره الأغاني الغربيّة الصّاخبة؛ تكره الخروج بلباس محتشم يتنافى مع عاداتنا وتقاليدنا؛ تحبّ الأدب وخاصّة الاتّجاه الذّهني في الرّواية؛ تحبّ من يكتب السّيرة الذاتيّة؛ تحبّ من يعطيها أكثر تفاصيل عن قصّة غيابك؛ عن قصّة اختفائك دون سبب؛ هي تحّب أن تسمع عنك أجمل القصص؛ سألت عنك كلّ الجيران؛ سألت عنك كلّ العشّاق؛ منهم من عرفك ومنهم من ادّعى أنّه لا يعرفك؛ مازالت تنتظر عودتك بعد الفجر؛ بعد الحبّ؛ مازالت تتفحّص تفاصيل تلك اللّوحة المعلقة على الجدار تحمل عدّة تفاصيل مبهمة؛ هي آخر لوحة تركتها في غرفتي؛ تركتها بعد صمت عنيف؛ أعطتني اللوحة شعورا بالخوف احمرت ألوانها تتضمّن أجسادا دون رؤوس احتلّتها أفعى نفثت سمّها في أشكال جوفاء دون روح؛ اقتربت من الصورة وقد هجم على الجدار عنكبوت نسج فوق اللّوحة فسيفساء غريبة جعلت اللّوحة تفقد كلّ معناها؛ صارت بلا معنى تبحث عن معنى في غياب المعنى؛ لعنت ذلك العنكبوت لأنّه عبث بأجزاء مهمّة من تفاصيل حياتك في تلك اللّوحة؛  تحبّ قطتي العناكب؛ لا تريد من يؤذيها؛ هي تعتقد أنّ ذلك العنكبوت يحمي تلك اللوحة من أيّ اعتداء خارجيّ قد تتعرّض له صورة قديمة لم يعد لها معنى بمرور الزّمن؛ أجبرتني بمرور الوقت داخل الوقت على معاملة العنكبوت باحترام وتقدير؛ هي ترفض بعد اختفائك المفاجئ من البيت أو من الحياة أن تختزل علاقتي بك في غرفتي في  مجرد صورة قديمة اصفرت كالذهب معلّقة على جدار هجم عليه العنكبوت حتّى يحمي حبّي لك من اعتداء اللّصوص؛ يرفض العنكبوت أن يخرج من اللّوحة؛ تشبّث بالألوان؛ دافع عن الأشكال؛ رفض خروجك من اللّوحة كي تقول: أنا عدت…أعتذر عن مدّة غيابي؛ رفض العنكبوت ايهامي بأنّك عدت ولم تعد؛ وبقي ينسج خيوطه الدّقيقة دون هدف واضح؛ لم تفهم قطّتي من قطع الرؤوس في تلك اللّوحة؟ وكيف تسلّلت الأفعى إلى غرفتي؟ دخلت معها في مواجهة عنيفة أجبرتها على الانسحاب إلى وكرها في أقصى الجبال؛ أحسّت أنك يمكن أن تكون صعدت دون إذن منّي إلى أعلى قمّة فوق تلك الجبال؛ تجنّبت في أكثر من مواجهة وهي تحاربني بنظراتها أن تتكلّم عن أسرارك؛ أنت تركت في لوحتي مجرد شكل لا يدلّ على شكل بعينه؛ هي لم تجد صورتك وسط صورتك في مرتفعات الجبال؛ لم تجد نظراتك وسط نظراتك تحلّق مع أسراب الطّيور تحلّق فوق تلك الممرّات الجبليّة الضيّقة؛ لكنّها وجدت مقابل ذلك حبّا بريّا جبليّا له شميم حلوّ كالعطر يتركه الشّيح والزّعتر والإكليل؛ ربّما أخذها ذلك العطر الجبليّّ النّاعم له أثر عميق كالجرح إليك؛ لم تجد أقلامك الزرقاء لكنّها وجدت وهي تمرّ على جرحها صدفة وسط تلك الأدغال الجبليّة رؤوسا تيجانيّة كأنّّها أقلام رصاص تحثّها على الرّسم؛ هي أقلام منكسرة تركتها عاشقة أدركها العنكبوت وهو ينسج على فراشها غطاء من حرير؛ حتّى الممحاة رفضت الاستجابة إلى طلبي؛ لم تمسح حبّي لك يصعد إلى تلك الكهوف الجبليّة؛ أرادت أن ترسم وجدت اللّون لكنّها لم تجد الشّكل؛ وجدت الشّكل لكنّها لم تجد المضمون؛ أخيرا لم تجد تلك الموءودة وقد سئلت بأي ذنب قتلت ما وعدتها به تلك الطّيور الجبليّة؛ لم تجد ما تقرأ؛ لم تجد ما تكتب؛ لم تجد ما تحبّ؛ أحيانا تفقد قطّتي الإحساس بالحبّ؛ أحيانا تفقد القدرة على التّفكير؛ ولكنّها في الأغلب تحسّ أنّها تريد التّفكير فيك؛ تحسّ أنّها تطلب منك صعود تلك الجبال؛ نعم طلبت مني أن نلتقي في تلك الممرّات الجبليّة الضيّقة؛ حيث تسكن الأفاعي وهي تطارد البقر الوحشيّ؛ هي ليست أنانيّة في تمسّكها بتحقيق النّشوة في تلك الكهوف أين يسكن الحبّ الأزليّ؛ لكنّها صارت تحبّك بأنانيّة مفرطة؛ ألا تحتاج الأنثى إلى حبّ مفرط فيه تتورّط فيه إلى درجة الإحساس بالتوحّش والأنانيّة؟؛ ألا تحتاج الأنثى إلى شكل في غياب الأشكال في لوحتك؟ هي تحتاج إلى وقت طويل حتّى تستعيد ذاكرتها وقد فقدت ذاكرتها؛ هي تحتاج إلى وقت طويل حتّى تعرف هويّة الشّخص الذي أضاع محفظته؛ وقد سقطت منها دون علم منه نقود كثيرة أصبحت تحمل عنوان نقود ضائعة؛ كم وجدت في طريقي من نقود ضائعة كأنّها تدلّ في حياتي على أكثر من علامة على حبّ ضائع؟  اخذتني النّقود الضّائعة في الأرض إلى حبّي وقد أضعته في السّماء؛ نعم فقدت في حقيبتي أوراقا هامّة تثبت تورطك في عدّة قضايا مصيريّة؛ تمسّكت قطّتي بحقّها في تلك النّقود كأنّها تتمسّك بحبّ ضائع يمكن أن يعود؛ حسب تجربتي قد تعود النّقود ولكنّ الحبّ لا يمكن أن يعود وإذا عاد اعترضته تلك الوحوش في الجبال.

 في طريق عودتي وقد ضاعت أقلام الرّصاص وجدت طفلا ضائعا يرتعد خوفا من كلب سائب نشر فيه الرّعب؛ يبحث الطفل عن حبّ ضائع؛ أخطأ طريق عودته؛ نسي مكان بيته وسط بيت العنكبوت؛ لم يعرف الاتّجاه؛ ذهب غربا ثمّ عاد شرقا يبحث عن مكان بيته؛ اعترضته قطّتي؛ أعطته حنانها؛ هي بحاجة إلى طفل ضائع يعطيها حبّا في براءة الأطفال؛ هي بحاجة إلى حقيبة  أوراقك الضائعة؛ رفضت الاعتراف أمام الكلب المنحرف بأنّها وجدت محفظة ضائعة؛ أخذت الطّفل إلى بيته بعد محاولات بحث عسيرة؛ أخيرا تفطّنت إلى أن البيت يقع بين قريتين جبليّتين خياليّتين؛ المهمّ أنها وقعت على الخيال الذي تبحث عنه؛ أعطاها الطّفل التّائه عن بيته شعورا بأنّ الحبّ حتّى إذا كان خيالا وسط خيال يمكن أن يتحوّل إلى واقع وسط واقع متخيّل وقد تمسّكت قطّتي وهي تفكّر…. بذلك الواقع رغم ما فيه من ايهام بالواقعيّة التّخييليّة النّاجمة عن الإفراط في الاستعارة والمبالغة؛ كلّ الجرائد في الصّباح تبحث عن المبالغة في نقل الأخبار؛ كلّ المجلّات عرضت استعارتك…. صورك …افكارك؛ …فلسفتك… بين الصّباح والمساء؟ أنا أحتاج إلى قطّتك وهي تفكّر وهي تغنّي وهي تسمع عبد الحليم حافظ” عاشق ليالي الصّبر مدّاح القمر…عشق العيون السّود غوّاني طول السّهر”؛  أغلقت المذياع ودون تردّد أعطّتني محفظة نقودي و أوراقي…عاد الطّفل إلى ببته مسرورا ….عدت إلى فراشي دون نشوة أبحث عن نشوة ضائعة ….أشعلت سيجارتي وترشفت بهدوء قهوتي…قفزت القطّة من الشّرفة؛ ضاعت الافكار؛ اقتحم اللّصوص بيتي؛ سرقوا نشوتي…أخذوا مفتاح خزانتي…أخذوا أدباشك…أوراقك…؛ لم أجدك معطفك الرماديّ؛ لم أجد منديلك البنفسجيّ؛ لم أجد الأغنام وقد تركتها ترعى بطمأنينة  في لوحتك؛ نامت القطّة بعد هجوم اللّصوص على صدري؛ لم يبق ما اقول؛ لم يبق ما افعل؛ أطفأت ضوء غرفتي؛ أخذت معي كل احلامي؛ أخذت معي كل فجري؛ أخذت معي كل نشوتي.  

مدينة بنقردان جنوب تونس.

مقالات ذات علاقة

المـــــــــــاردو…

حسين عبروس (الجزائر)

الإيقاع الداخلي بقصيدة النثر، مِعيار أم مِهذار؟

المشرف العام

حوار مع الفنان الكوردي مروان شيخو

المشرف العام

اترك تعليق