“إذا كـــان الكـــلام على الكــلام صــعـبـا فما بالك بقــول عـــلى قـــول”… جــمــلـة افـتـتـح بـهـا “الطيب الجمّازي” كـــتــابــه الذي أسماه “مغامرة السؤال حكمة الجواب”.. وهو عــبارة عـن قــراءة في الـتـجـربـة الـشـعـريــة لصــلاح عجــيـنة متـخــذا مــن الكــتـاب الجوّاني آخــر مجموعات صــلاح الشــعـريـة وأغـناها نمـوذجـا.. وحقـيـقـة أن الجمّازي قــد صـعّـب الطــريـق مــن أوّلــه حـين رأى مشـقـة أن يقــوم بقــراءة شــعر صلاح ثم الخــوض في غمـاره نـقـدا.. فكيف يكــون إذن حــال الكــلام عـلى هــذا الكــلام الذي قـيــل أو سيقال حــول الكلام نـفـسـه..! لا شك بأنها مهــمة عسيرة.. ذلك أن القــراءة ستكــون لما كتب وقــيـل عــن الشـعـر.. فهل يعني ذلك أن الشـعـر الذي قـيـل سيكــون بمــنـأى عــن هــذه الـقــراءة.. أم أنــه سيكــون هو محــورهــا وشــاعره هو فارسهـا.. فـيـمـا يكـون صاحب الكـلام ضيـف شــرف على هـذا المجلس.. أم أن القول سينالهما معا ومتضامنين في هذا الفــعل.. لقـد اختــار كـاتـبـنـا شاعـره من واقــع أنــه مـازال بين ظهرانينا وأيضا متـخذا مما قـيـل أو كتب أن مهمة الدفــاع عـن الـشـعـر ليست للشعراء.. وإنما للأدعياء.. إلا أن هذا القــول المستفز لــن يـزيـد أولئك إلا عنادا وتشبّتا بتلك الكـتـابـة.. فـأن يمـخـر شخـص مـا عـباب تجــارب الآخــرين شيء يحتـاجـه الآخرون أنفسهم.. ولا غـنى لأحــد عن الآخــر.. ومن هنا ينطــلق كاتبنا صــوب التجــربـة التي طرحها على البساط ليصـف هـذه التجـربــة أي الكتـابة عن هــذا الشعـر أو هـذا الشـاعـر بما يـلي:
“الكتابة عن صلاح عجينة لن تكون إلا مطلقة.. فيصعب بناء عناصر ومحاور أو استخراج ميزات لتكون أعمدة تحمل القراءة والتأويل”.
وهنا استنتج الكاتب أهم عنـاصر وسمات الكـتابـة عن شـعـر صلاح.. أقـول عــن شـعـر صـلاح وليس عن صلاح.. فيجب هنا التفرقة في الاصطلاح.. ذلك أن السمة المطلقة لشعر صلاح هي عدم القابلية للتأويل.. هي نصوص يجب أن تقـرأ وتفـهم كما هي.. وليس هناك داع لأي مشقة تبذل في تفكيكها.. لأنه لو حصل ذلك لضاعت نكهتها.. وقد جعــل الجمّازي كتـابـه في تقسيمات ثمان.. تناول في كل منها أبرز ما اسـتـشـفـه من التجـربـة ككل أو ما استنطقه بين السطور.. وبعد المدخل الذي كان كفصل أول سبـقـه تقديم للكتاب استهـلّه شـاعـر آخـر وصـلاح آخـر وهـو “صلاح الدين الحمادي”..بعد كـل ذلك كان الولوج لخبايا ما استنطقه الطيب من أجواء الجوّاني.. فها هـو يضع شاعــره أمــام المــرآة لـيـبـسـط هــذه المغامـرة منذ نعــومـة أظــافرهــا.. حيث رســّخ جــذور الانـتـمـاء للـكــتـابـة عــنـد صلاح منذ النشـأة الأولى.. ومن هــنـا انطلق إلى بـراح آخــر يــدمــج فــيـه ما لوّحت بــه قـصـائـد الجوّاني بما صنف عليه شـاعره.. الفلــسفــة والفــلاسفــة الذين كانوا رفقاء جوهريين لكل كتابات صلاح.. لم يكن يفكر يوما أن يكون منهم.. لكنهم كانوا يشغلونه اتـصـالا بهواتـف الخـلوة.. ولأن السؤال هـو الرفيق الدائم لكل تجارب الشـعـر والكـتابـة عـنـه أيـضـا.. فـلا منـاص إذاك مــن أن يـقـتـنـص الجمّازي جمـلـة مـن الأسـئـلـة التي ظـلت تتقـافــز مـن حيـن لآخــر عــبـر متاهــات الحــروف.. كــانت هــذه الاحتشادات في هـــذا الــركــن الذي جـعـلـه الكـاتب تحت مسمى “مغـامـرة التعـريف”.. حيث أكــد أن هــذه الـتـجــربــة تستدعي الدراســات إليــها وتستحــق الحــضـور وســط التـجــارب التي تركت بصـمـاتـهـا عــلى الـسـاحــة الأدبــيــة الـعـربـيـة.. ولا تستحق أن تكون طي الغـيــاب.. أما “مغامرة البوح” فيلج فيها الكاتب عــوالــم شاعـره كي يكشف عمـا يبوح بــه.. وقد كانت مضامين البوح قــد حمــلت إشكــالية فــي قــراءتــه بين ما أسماه بالحـقـائـق والاعــترافــات.. فسرد تفاصيل مـغـامــرة عاشها صاحبها بطـريـقـتـه لا يمكن بأي حــال أن يجــعـلـه موضــع الاتهام أو التشهير بما حوتـه المـغـامـرة.. إنما حـقـيـقــة الأمــر تكمن في الاعتبار من كــل مــا مــر مــن الأمــور ومحــاولـة صــياغـة مــا اخــتزلــته الــذاكــرة كنــقــاط يـتـعـين توخّيها عــنـد مجــابهة الآتــي.. وهــذا لــه مــرده ليس عــلى الصــعـيــد الشـخــصـي فحـسب.. إنما علـى الصعــيد الجمعي أيضـا.. فكــأنــه يــريــد الـقـول بــأن مــا مــر بي يجـب أن يـسـتـفـيـد منه الآخــرون عــلى غــرار مـا استشهد بــه الجمّازي من كــلام الشاعر الفرنسي “فولتير” بأن هــدف الشــاعر خــدمــة المجتمـع بكل طـواعـية.. شـأنـه في ذلك شـأن المـقـاتـل في الميـدان.. فكل له سـاحـته التي يصول ويجـول فيها.. أما “مغامرة التجاوز” فهي محطة أخــرى عبر منهـا الجمّازي صــوب دهــاليـز صـلاح الشــعـريــة.. وليـحــاول لمـلمـة شـتـات ما تنـاثر من الكـلام عـبر متاهات الـعبـارة.. لعل أهــم مـا استظـهره مـن هــــذه المـغـامـرة حـوار الشــاعــر مع الإنســان.. ويبــدو وصــف الآراء بـالنـزاهـــة كاستلهام لمكنونات بعـض القــصائـد ومدى ارتباطها بالحــس الإنســاني والــذي مــا فتئ الجمّازي يتلــمســه بـيـن قـصـيـدة وأخـرى.. وهنا يبرز سـمـة التـجــاوز عــند الشــاعــر في قـولـه:
“إن التجاوز عموما كان سمة شعر صلاح.. ولم يكن تجــاوزا حــادا أو فــيـه ما يمــس مـن حــرمــة الـشـعـر والشـعـراء.. إنما فيه دعـوة للعـنـايـة بالقــــصـيد ورجــاء منـه للشعـراء أن ينحتوا ذواتهم وأهـدافهم قبل نحت كلماتهم.. وأن يعــوا دورهـم الإنساني.. ولا يتراجـعوا في المـضي قـدمـا نحو مجـابهة مـا يمكـن أن يحـبـط عـزائمـهـم”.
ثم يعــرج الكاتب هــنا إلى أن هــذه القــراءة عمـومـا تــأتي في إطــار الاحتــفاء بعيــدا عـن شيء اسمـه المساءلـة معــللا هــنا أنــه يكفي أن يوجــد شاعــر يكتب عن المطــلق ويصـغي لصـوت متـدفق من العمــق يتردد صــــداه عبر آفــاق لا متـناهيـة في زمـن صـارت فـيه الآفـاق تضـيق بما رحبت.. وهـذا ما لوح إليـه في البـراح التالي الـذي عنونـه بــ “حـداثة الذات حـداثة الشعـريـة”.. حيث رأى أن هـــذه التـجـربـة أو تجـربـة الشاعــر في عمومها تسـعى إلى كسر حـاجـز الغــربـة الذي يعـيشـه المشهد الشـعـري العـربي بشكـل عـام.. أما المشهد الشـعـر الليبي فليس بمنأى عن شقـيـقـه العـربي.. فالغـربـة كما رآهــا الجمّازي قــد طالت النص العـربي في المطلق.. لكن أن تظهر وفي هذا الوقت بالذات تجـربـة تستحق الانكباب على قراءتها وتفصيصها فهـذا أمـر يدعو للاحتـفـاء كما سبق الإشـارة من المؤلف.. وهـا هو يسبر خبايـا هـذه القصـائد مـن سرداب الحـداثـة التي تتمخض في الشـعـر العـربي وتتراوح أشكالها دون أن تتبدى أطوارها.. وهــنـا يصف الكاتب قصـيدة صـلاح في الجانب الحداثوي بقـولـه:
“حـداثة قصيدة صلاح واضحة المعالم.. فهو بالضرورة حـداثي الوعـي.. وربما ذلك يعــود إلى طبيعة حياة الشاعر.. وهو الجمع بين النشاط الأدبي والفكري والإعلامي.. وإلى طبـيعة المـرحـلـة التي تستوجب مواكبـة الشـاعــر والمـبـدع عـمـومـا لقـضـايا مجتمـعه واستـلهامها.. وذلك قصـد المشاركة في صـنع الأجوبـة والبـنـاء.. وهذا يصعب على المبدعين العــرب.. وذلك لأن العــرب في بدايـة مشاريعهم التحديثية فرّطوا في مكاسبهم الحـضـاريـة في مختلف المجـالات الفكـريـة والعلـميـة”.
ولم يتوان الكاتب عن إلحـاق صـفـة الحـداثـة بـهـذه النـصـوص مؤكــدا بــأن الحــداثــة تـنـبـع مــن تـحــديث الــذات.. ولـيـس بـالضــرورة أن تـعـني هــذه الحــداثــة الثــورة عـلى الـمــورث أو نثــره في الطــرقــات.. لكنها أيضا يـجـب أن تكتسي الخـصــوصـيـة وأن تعــبّـر عـن طـموحـات وأحــلام هــذا الجـيـل.. بل وعــن آلامــه أيضــا.. فلا يمكن اعـتـبـار منـّة الجـيـل السابق أو الذي سبقـه أن هــذا الجــيل يتنـعم بالاستـقـرار والسكينة بعــد انقــضـاء رواسب الهيمـنة الاستعمارية وتسلط الغـريب.. لكن في بعض الأحـيان يكــون تسلـط القريب يحــمل من القســوة ما يدمـر حيـاة بأسـرها.. فقد ينشأ جـيل تــائــه لا يعــرف طــريقـه ولا يتلمس خطـاه جـرّاء إبـعـاده عــن سـبل المحـاولة لإثبات ذاتــه.. وهــذا بالضبـط ما رمى إلـيـه الكاتب في البـراح الذي كـان تحت مسمى “مضامين متوتـرة” ويكشـف النقـاب عـمـا اسـتـشـفـه مـن إحسـاسـات الشـاعـر بـالـغـبـن والانتكاسات التي خالجت جـل مراحــل كتاباته.. جــاء ذلك في :
“حتى أنه يفصح أن الشـعـر يجــعـل مبـدعـه في لحظة إحساسه بالغـبن الاجتماعي مرغما على مواصــلـة الإطـاحــة بـالسـائـد والمقـدّس عـنـد المحيطين بــه.. وذلك بابـتــداع لــغــة لا تـحـتـرم إلا الحـقـيـقـة ولا تلين ولا تنحني إلا لمن يعــي أن الشاعــر يدفع خـبـزه اليومي لأجــل اقتطاع هــذه الكلمات السحرية من ضجيج وعــواء البشرية الجــائعــة للحب والاطمئنان والفهم”.
وقد خلص الجمّازي قبل أن يرسم خطـوطـه الختامية لهذه القــراءة إلى أن الشـاعــر كـانت لـه محـاولاته الجـادة للخـروج بكـتـابـاتـه مـن النمـط المستطرد إلى النمط الإبداعي ليشكّل ترياقا خاصا يبسط فيه رؤاه الشعـرية بنسق يستمد أنفاسه من براحات الوجدان ومن خيوط الأمل المتجدد الذي يدك صفوف الانتكاسات المتحشرجة جــرّاء رواسب عـالـقـة من زمـن انتـحـار الكلـمـة.. وفي هــذا الروق يحلــو للكاتب أن يشارك الشـاعـر هــذه الجلسة ويبسط معــه بعــض القصائد من كتابه الجوّاني.. وليحتسيا معا أكوابا من القهوة “نص نص” على إيقاعات المعاني المختلجة والأحاسيس المختبئة بين ثنـايـا الحــروف.. فيستشـف روحـا نقــديـة للقـصــائـد ذاتـها وللشـعــر عمومـا كــانت تتسربــل بين الكلــمـات وتطــفـو عــلى الســطـور مـن حـين لآخــر.. وهــذا مــا أكــده في الخـاتـمـة التي جـعـلـهـا الجمّازي سـابقـة لبعـض النصوص التي انتـخـبها من الديوان محــل الدراســة.. فكانت قصــائــد.. عمارة الباطن.. هامش ملحق بنص.. لك مثل الإجابة.. أمازال الحنين يكتب.. فانوس لأول النهار مظلم.. ترائب في مستقبل كسول.. شعر الحكمة والأيقونات.. مقاطع من سيرة التعب والكلام.. هامش.. كأجــمل ما أتحــف بـــه الجمّازي كتــابــه ليكــون ختامـهـا شــعــرا موقّــعــا بـاســم شـاعــر يستنطـق الـكـــلام.