الثلاثاء, 8 أبريل 2025
طيوب النص قراءات

على هامش كتاب المذهب الظاهري والمنطق .. للدكتور عبدالقادر الفيتوري

كتاب (المذهب الظاهري والمنطق عند أبي حزم) للمفكر الليبي د. عبدالقادر الفيتوري
كتاب (المذهب الظاهري والمنطق عند أبن حزم) للمفكر الليبي د. عبدالقادر الفيتوري

لا استطيع الانتظار حتى الانتهاء من قراءة كتاب (المذهب الظاهري والمنطق عند أبن حزم) للمفكر الليبي د. عبدالقادر الفيتوري. كنت قد أرجأت قراءة الكتاب إلى حين حصولي على نسخة ورقية، لكن أعياني الانتظار فآثرت الاستعانة بالنسخة الالكترونية للبدء في مشروع القراءة.

عوامل شتى كانت دافعي لقراءة هذا الكتاب، بل اكتشفت جملة من المصادفات الفريدة شكلت لدي رغبة جامحة لقراءته قبل كتب المؤلف الاخرى. ولعل أقوى دوافعي كانت نزعات فكرية محلية ومغاربية نفثتها في وجداني قراءات ومواقف قديمة. نزعة تنحو الى خصوصية الفكر والثقافة والتدين المغاربي مقارنة بما هو شائع في المشرق العربي. ففي المرحلة الجامعية شعرت بالاستياء من هيمنة الادباء المشارقة (من مصر والشام) على المقررات الادبية الشائعة في ليبيا. هذا الشعور جعلني شديد التعلق بالبحث ومتابعة كتابات شعراء وادباء ومفكرين من ليبيا، بل ذات يوم سألت استاذي في مادة اللغة العربية حول مبرر عدم تدرسينا مقرر الاب الليبي. فأجابني ان مواضيع الادب الليبي تُدرس ضمن مقررات الادب عموما. لم انتبه يومها إلى أن سؤالي ذاك كان ضمن قائمة الاسئلة المسكوت عنها، فالشجن القومي بشقه المشارقي كان هو الخطاب الطاغي، حتى لو كلف ذلك الذوبان في محيط هويات مستوردة.     لاحقا تطور اهتمامي إلى شغف بالفكر المغاربي، غدته قراءاتي للمفكر محمد عابد الجابري وبصورة اقل لمحمد اركون. ولقد تابعت بشغف حوارات “المغاربي” محمد عابد الجابري و”المشرقي” حسن حنفي حول هذا الموضوع . الحوارات التي دونت لاحقا في كتاب عنوانه (حوارات المشرق والمغرب).

تلك الحوارات جعلتني متيقناً بحجج الجابري الدامغة حول فرادة مغاربية في الفكر والادب عربيا واسلاميا. لا اقول ذلك من قبيل التعصب بل من قبيل فرادة لها شواهدها في الانتاج الفكري منذ عهد الغزالي وابن رشد ومن تلاهم. فرادة شكلها الاختلاف والتنوع المغاربي البعيد عن مناطق الفتن المذهبية. فالفكر الاسلامي المغاربي يؤمن بالاختلاف الذى تحتمه الظروف الاجتماعية والثقافية للأقوام، ولهذا تجد ان العديد من تلامذة الامام مالك المغاريين خالفوا مالكاً في العديد من القضايا. لكنها مخالفة لا تخطئ احكام الامام مالك بل لا تنزلها في ذات السياق للقضايا الحادثة في بلدانهم. مثال ذلك أنه يُحكى ان رجلاً قال لابي زيد القيرواني. ( لُقِّب بـ “مالك الأصغر”، توفي سنة 386 هـ) ، لما تتخذ كلباً للحراسة وانت مالكي المذهب؟ فأجابه ابي زيد، لو عاش الامام مالك الان في القيروان لأتخذ أسداً لحراسة بيته. قال ذلك كناية عن انتشار السطو في مدينة القيروان حينذاك.     

لن ألصق نزعة الشغف المغاربي بالمؤلف الدكتور الفيتوري، لكنني صنعت له في نفسي شيئا من ذلك، فأستاذه الدكتور نبيل الشهابي عاش في المغرب وعاصر الفيلسوف المغربي الكبير الدكتور طه عبدالرحمن، والذي أشاد بكتاب الدكتور الفيتوري حسب ما افاد به المؤلف نقلا عن استاذه الدكتور الشهابي.    

عامل آخر شكّل مبرراً قويا لقراءة هذا الكتاب في هذا الوقت بالذات، وهو ظاهرة تصدير التوجهات الدينية المشرقية لمنطقة المغرب العربي ، وبفاعلية اكبر في ليبيا وتونس. كارثية الفكر القومي بشقيه العروبي او الاسلامي انهما يصنعان ثوبا ذا حجم ولون وحيد لارتدائه من قبل الجميع، ودون النظر للفروق السياسية والثقافية والاجتماعية للمجتمعات الحاضنة. فمع انحسار التيار العروبي منذ سقوط بغداد وانتهاء بثورات الربيع العربي، اعقب ذلك نهوضاً طاغيا لتيار قومية اسلامية مشوهة، قومية شكلت ملامحها تاريخ الفتن في الدول التي اشار إليها المصطفي صلى الله عليه وسلم تجاهها بإصبعه الشريف وقال ” الفتنة هاهنا”. تياراً يريد الحكم وهو قابع بزنازين القرن السابع كما يصف مؤلف الكتاب، ويغفل تماما اي خصوصية تاريخية للبلدان التي اكتسحها مؤخراً. بل جاهر بالعداء السافر والرفض لأغلب الهويات المحلية بمظاهرها الاجتماعية والدينية. وعودة لموضوع الكتاب، يشكل ابن حزم ومذهبه الظاهري ( موضوع الكتاب ) مادة شهية للهجوم من قبل احداث السن الذين قذفتهم خطوط الانتاج للتيارات المأزومة دينيا.    

أثناء قراءتي للكتاب برزت لي الكثير القضايا التي آمن بها ابن حزم ، منها اهمية ضرورة الاحاطة بأنواع مختلفة من العلوم. فالتنوع المعرفي يوسع مدارك المرء، وقد يفضي به لاستكشاف جوانب مذهلة في المناطق المتداخلة من العلوم. في مواضع كثيرة من الكتاب وجدت نفسي اتوقف وهلة لاستكشف هل انا اقرأ كتابا في مجال الحاسوب (مجال تخصصي) أم إننى اقرأ كتاباً في الفقه او المنطق. شرح المؤلف لموقف ابن حزم من “القياس” كأداة استنباط للأحكام، وتبريراته الملفتة للانتباه جعلت قدرا من معارفي في علوم الحاسوب تكون حاضرة ايضاً، والمذهل انها في صف وجهة نظر ابن حزم. فأحد اهتماماتي التخصصية في علم الحاسوب هو موضوع الاستدلال القياسي في آلية عمل الحواسيب. وهو طريقة بحث عن المعلومات المخزنة بالحاسوب وفقا للقياس بمعلومة مشابهة. لكن مسألة التشابه القياسي هي معدومة بالفعل كما نص بن حزم. وهذا ما جعل المختصين في الحاسوب يجعلون الاستدلال القياسي هو عملية جزئية ينبغي التدخل البشري لتأكيد او رفض نتائجها.      بدأت القراءة هذا الصباح ولم لم اتجاوز منتصف الكتاب لكن الدكتور الفيتوري عرض جملة من القضايا التي جهلتها عن ابن حزم. بعضها مثير للنقاش والاسئلة ، خاصة ما يتعلق بابن حزم من حيث نسبه وسلوكه. ولم يهمل المؤلف ايراد ما يلزم مبررات شكلت سلوك ابن حزم وقناعاته التي عكستها آرائه الفقهية وكذلك آدابه التي صاغها في بعض كتبه الادبية.    

أعترف بقصور معارفي لمناقشة ماورد في سياق عرق (عربي ام إسباني) ونسب ابن حزم لكن جرأة الباحث الاكاديمي تفتح امامي باباً للسؤال حول غياب ذلك حول عالم له مصنفات في انساب العرب كما اورد المؤلف. وزادت حيرتي حول غياب نسب أمه وعدم تعرضه لها في حديثه حول نفسه. الفيتوري يعزي ذلك الى نشأة ابن حزم في محيط الجواري وخدم القصر. لكن التجارب التاريخية تؤكد فعلا ان وراء المميزين أمهات عظام. فكيف تكون والدة ابن حزم شيئاً مجهولاً.  

تابعت ايضا ملامح المذهب الظاهري كما عرضها المؤلف، والذي لا اجد ما يكفي لتحيته حول طريقة عرضه التي تلائم غير المتخصصين امثالي. ما سأقوله من فهم سقط في مداركي قد يورطني مع انصاف المتعلمين، لكن لن اتردد في القول بإن ما يمثله المذهب الظاهري هو الانسب اصطلاحا عند الحديث عن “السلفية”. فنفي ابن حزم للتقليد يضع المسلم امام مسؤوليته الشخصية في الفهم والاستنباط، تماما كما كان ذات النص (القرآن والسنة) في مواجهة فهم السلف. فالسلفية المعاصرة شديدة التحميل بتأويلات وافهام فقهاء وأئمة ليسوا من الصحابة ولا حتى التابعين، في حين ان الشعار المرفوع للسلفية المعاصرة هو العودة لفهم الرسول والصحابة!!. اعتقد انه بإتباع المذهب الظاهري ربما ستختفي ظاهرة “خطوط الانتاج” لمخرجات الظاهرة الدينية. لان نظرية خطوط الانتاج تعتمد على التشكيل القياسي الذى عماده “التقليد” الذى ينفي ابن حزم صحته. كما ان عبارة الاسلام صالح لكل زمان ومكان لا يمكن فهمها الا من خلال اتباع ما يعكسه ظاهر النصوص لمعاصريه، الافهام لا يمكن ان تكون صالحة لكل زمان ومكان وهنا يكمن اشكال التجديد مقابل التقليد.    

هذا التعليق ليس مرافعة لنصرة المذهب الظاهري لابن حزم، بقدر ما اريد به التقديم لكتاب مُلح، ومحاولة لإرشاد التائهين من شباب شوهتهم ماكينات الايديولوجية الدينية المصنعة. ولكي تعرف رداءة انتاج تلك المخرجات المؤدلجة اصطناعياً، تراهم يستوردون من المشرق قضايا لا وجود لها في اقاليمهم ويحذرون الناس منها بخطاب بالغ التشنج، كمحاربة التشيع في ليبيا مثلا. لقد قرأت وسمعت خطابات تهاجم ابن حزم ومذهبه، بل وتصفه بالميوعة، خاصة عند التعرض لرأيه في الغناء أو آدابه التي اوردها في كتابه (طوق الحمامة).    

شخصيا سعدت جداً بما قرأته حتى الان من فصول الكتاب، ولا ادرى كيف لا تقتلنا قيامة الدهشة، ونحن نشهد صبية، يكفرون ويفسقون العالم الفقيه الذي ألف 400 مجلداً، وصنف واستوعب مختلف العلوم كالحساب والمنطق والفلك والمساحة والبصريات، عالماً هو اكثر سلفيةً من مدارس فقهية شائعة الان، فمدرسة ابن حزم برزت في القرن الرابع الهجري، في حين ان المدارس الفقهية للسلفية المعاصرة مرجعيتها القرنين السادس والسابع، وبالتالي فالظاهرية اكثر قرباً لعهد الصحابة بحساب الزمن. فكيف يتم تجاهل مدرسة هذا العالم الفذ، ويمضي صبية في التقمص المطلق لمدارس فقهية تنكر –الى وقت قريب- الصعود للقمر او الشاب الذى ظهر مؤخرا على شاشة التلفاز ليُنكر دوران الارض في عام 2017.

مقالات ذات علاقة

الجامعة العربية تكرم الليبي إبراهيم الشريف في يوم الوثيقة العربية

المشرف العام

فيزياء الشهوة والانقراض

سراج الدين الورفلي

المقالة التي أصبحت كتاباً

المشرف العام

اترك تعليق