طيوب عربية

سلام هي حتى مطلع الفجر

نورالدين بن بلقاسم ناجي (تونس)

بورتريه صخري – من أعمال التشكيلي الليبي محمد بن لامين

دخلت الى المقبرة؛ ما أكثر القبور؛ كل هؤلاء الموتى؛ هم شهداء؛ قاتلوا ما قاتلوا من اجل نشر كلمة الحب؛ مازالوا احياء رغم موتهم؛ رغم حبهم؛ ماتوا مبكرا قبل ان يدركوا عشقهم؛ قبل ان يدركوا قصص حبهم، نبت الربيع على قبورهم؛ لماذا وضعتني في القبر ثم رحلت؟؛ لماذا تخلصت من جسدي؟ لماذا تعلقت روحي بجسدك؛ أكره جسدي؛ اريد روحي؛ صرت اشعر أنك تتخلص من نشوتي؟ لماذا خلعت ملابسي؟ لماذا تركتني احلق مع الطيور وحدي؟ صرت احلق مع طيور اخرى فوق قبرك؛ بعد صراع عنيف من اجل البقاء على الفراش فارقت الروح الجسد؛ صارت الروح معك؛ بعدك على هيأة حمامة برية؛ طارت نشوتي؛ اخذتها الرياح؛ هطلت الامطار؛ سقت كل العشاق في القبور؛ سقت كل الازهار فوق القبور؛ بالأمس رايتك تقرا علي قبري سورة الفاتحة؛ انشرحت لذلك كثيرا؛ ولكن لم اتوقع انصرافك قبل الفجر؛ قبل صلاة الفجر؛ كنت اريد الصلاة معك؛ وقفت بجانبك في نفس الصف؛ في نفس اللحظة؛ في نفس الحب دون ان احقق معك الحب؛ وحين دخل الامام انصرفت؛ رفضت صلاتي؛ رفضت السجود معي؛ موحش غيابك عني؛ اعيش في ظلام دامس لا اعرفك فيه؛ صرت اراك ولا اراك؛ صرت أحبك اكثر حين لا أراك أكثر؛ وحين رأيتك تزورني اردت ان ارفض موتي؛ اردت ان ابقى معك؛ مع انفاسك؛ مع احلامك؛ مع سيجارتك؛ دفنوا احلامي معك في القبر؛ وضعوني في التراب؛ نهش الدود جسدي؛ طلبت من الله؛ بعد الموت بساعة؛ بعد الحب بساعتين ان اعود اليك؛ اشتقت الى حديقتك؛ الى جنتك؛ جنة عرضها السماوات والارض؛ لا اتحمل النوم وحدي؛ لا اتحمل صمتك وحدي؛ انت مسؤول على صمتي؛ ارجوك افتح في قبري ثقبا أو ثقبين حتى اراك؛ ارجوك اترك على جسدي زهرة او زهرتين حتى اشم رائحتك؛ ارجوك اترك على قبري جرائد حتى اقرأ اخر اخبارك؛ اخر حبك؛ ارجوك خذ حبي وضعه فوق حبك؛ انت وعدتني بأنّ اخر حبّ لك هو اول حبّ لنا؛ نحن فقط من احببنا؛ نحن فقط دون غيرنا من تعلقنا بالأرض والسماء؛ لم يخلق في الارض مثلنا؛ وصيتي لك؛ بعد موتي ان تسقي كل زهرة تفتحت على قبري؛ وصيتي لك؛ بعد حبي ان تضمني في قبري؛ احيانا ليس دائما؛ يخرج كل العشاق من قبورهم؛ يستعفرون ويسبحون ويصلون؛ ارفع يدي بصعوبة؛ ابحث عنك بين الجثث؛ لم اجدك؛ كان الصف طويلا؛ اريد الخروج اليك، لكن الارض الملعونة تنطوي على جسدي؛ تشدني الذكرى الى الاسفل؛ افكار بحجم الجبال؛ احلام بحجم النشوة على فراشك؛ صرت ارى في قبري اشباحا مزعجة؛ طيور بيضاء دون اجنحة تزقزق على قبري؛ تمنيت ان ارتدي اجنحتها حتى اطير اليك؛ تمنيت ان ارتدي ملابسك الجديدة؛ اسمع احيانا اصواتا تناديني الى الصلاة معك؛ اصوات رقيقة مثل خرير الماء؛ اريد الاقتراب منها لكنها تفلت من ذارعي كالأمواج؛ اسمع اصوات احدهم ينادي على القبر؛ هو يطلب ان اسامحه؛ هو يطلب ان اغفر له عدة اخطاء؛ توسل كثيرا؛ تسول قليلا؛ ردد عدة ادعية مفهومة الى درجة غير مفهومة؛ قبلت دعاءه؛ لم ارفض طلبه؛ فقط؛ حين خرج من المقبرة نسي ان يأخذني معه؛ نسي ان يضمني الى صدره؛ نسي اني احبه؛ عدت الى قبري ابحث عن فراشي؛ ابحث عن احلامي؛ ابحث عن جنتي؛ لم اصدق ان الفجر طلع؛ لم اصدق ان الروح طائر في السماء؛ لم اصدق ان الروح تخرج في الصباح؛ ثم تعود في المساء؛ لم اصدق انى صرت اراك من خلال الثقب تنام معي في نفس المكان والزمان.

نفضت ما بقي من احلام في حجرتي؛ تخليت عن ملابسي الثقيلة؛ عدت يا سادتي بعد غيبة طويلة؛ عدت من احلامي ابحث عنك في احلامي؛ عدت بعد حب جميل؛ عدت اليك اطلب ما بقي من نشوة لم احققها في غيابك؛ كان الحلم طويلا ثقيلا لا يسكن الا فوق  الجبال؛ شدني الثقب في القبر الى اكثر من رجل يمر بين الاجساد؛ يمر بين الذكريات؛ يمر بين الارواح لا  تنام الا في أقصى الجبال؛ بصعوبة عرفت ملامح وجهك الجبلي؛ عرفت انك جئت كي تخلصني من عذاب القبر؛ جئت كي تخلصني من عذاب الحب؛ وفي قمة الجبل بوم يغرد اغنيات حزينة؛ اعترفت امام كل الجبال وامام كل الغربان بموتي؛ بحبي؛ اعترفت بان الغربان نهشت جسمي و التهمت حلمي؛ اعترفت بحبّ لا استطيع ان اتحمله وحدي؛ لا استطيع ان اتذكره وحدي؛ فتاة تنام في القبر ثم تعود الى الحب من جديد؛ فتاة تحب شخصا راته امام القبر؛ وحين قررت ان تخرج من القبر حتى تعترف له بحبها رفضتها الجبال؛ لم تعترف بها؛ نصحني الغراب ان أعود الى النوم من جديد؛ همس الغراب في اذني: عودي الى قبرك؛ عودي الى أحلامك في المساء؛ ركضت وراء ذلك الغراب اريد قتله؛ ركضت وراء ذلك النداء؛ ارتطمت بأحد القبور؛ جذبتني الارض نحوها؛ دفعتني الى اكثر من سقوط؛ اخذتني الى اكثر من حب؛ حاولت اثناء سقوطي امام قبرك ان أتخيل ملامح وجهك؛ ملامح موتك؛ ملامح فجرك؛ ملامح قبرك،؛ وحين فشلت ولم اجدك؛ عوت الذئاب؛ طارت الغربان؛ نهض كل العشاق من قبورهم مذعورين؛ لم تكن عليهم ملامح وجهك المعتادة؛ هم يسمعون ولا يتكلمون؛ هم يتكلمون ولا يسمعون؛ طلبوا مني ان ارش الماء على قبرك؛ طلبوا مني المغفرة ثم انصرفوا؛ رفضوا كل دعواتي لهم بالبقاء معي؛ حملوا حبيبي معهم ؛ اقنعوه بأن يهجر غرفتي؛ اقنعوه بان يتمرد على فراشي؛ اقنعوك بان حبيبتك لا توجد في الارض؛ بل توجد في السماء. قامت الساعة؛ انتفض الكون بما فيه؛ رياح عاتية؛ انهار جارية؛ سلام هي حتى مطلع الفجر.        

مقالات ذات علاقة

لنتخيل هذا المشهد لنفكك هذي الصورة

حواء القمودي

أسرار البحتري

زيد الطهراوي (الأردن)

أم الفحم تُكرّمُ الكاتبة عايدة نصراللّه!

آمال عواد رضوان (فلسطين)

اترك تعليق