لماذا عرْضُ هذا الكتاب الذي يدور حول شخصية الباحث والأستاذ الجامعي غرشوم شوليم؟ يُعدّ شوليم من أعلام الفكر اليهوديّ (1897-1982)، وقد خلّفَ أثرًا واضحًا في مسار الدراسات اليهودية المعاصرة، بفضل أبحاثه التأصيلية في الموروث الصوفيّ العبريّ، وفي الثقافة اليهودية المعاصرة بشكل عامّ. لكنّ الإسهام الأكبر لشوليم في مشاركته في قيام الجامعة العبرية في القدس، وفي تمثيله للصهيونية الثقافية النقدية على مدى فترة حاسمة. نتابع مع الكاتب دافيد بيالِه، أستاذ التاريخ العبريّ في جامعة كاليفورنيا (دافيس)، إعادة كتابة سيرة الرجل، من خلال إبراز دوره الثقافي داخل إسرائيل وخارجها، وقَبل قيام الدولة العبرية وبَعده.
يوزّع بيالِه كتابه التأريخي على تسعة أقسام، تغطّي كافة مراحل حياة غرشوم شوليم، التي يستهلّها بحديث عن طفولته البرلينيّة ويختتمها بتتبّع شغفه القابالي الذي نَذَر حياته له حتى مماته. فبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على رحيل غرشوم شوليم لا زال يخيّم بظلاله على الثقافة العبرية، وقد تأتّى ذلك من سطوة معمَّقة في مجاليْ المسيحانية والتصوّف. بدا ذلك واضحا من خلال مؤلَّفَيْن مرجعيَّين: الأول تعلّقَ بحركة سابتاي زيفي زعيم الحركة المسيحانية التي هزّت العالم اليهودي خلال القرن السابع عشر إلى أنّ اهتدى إلى الإسلام؛ والثاني اعتنى بمذاهب التصوف اليهوديّ الكبرى. ناهيك عن أعمال أخرى اِعتنت بالشأن الثقافي المعاصر، وبقضايا سياسية على صلة بالصهيونية وبالدولة العبرية، مثل كتاب “من برلين إلى أورشليم: ذكريات الشباب”، الذي أبرزَ فيه رفض جذوره الألمانية اليهودية وولاءه للصهيونية، وهو ولاء نقديّ جعل منه شخصية مثيرة للجدل ضمن السياق الثقافي اليهودي المعاصر.
ففي الوقت الذي وصلَ فيه غرشوم شوليم إلى فلسطين (1923)، كان عدد اليهود في القدس حوالي 30.000، وقد تزايد ذلك العدد بشكل متسارع في المدينة المقدسة وأحوازها، وذلك جرّاء ما عُرف حينها بالعاليا الثالثة، وكذلك نتيجة لِوَعد بلفور (1917)، الذي تدعّم بالتحكم البريطاني في فلسطين، وكذلك تزايدَت أعداد اليهود نتيجة الحرب الأهلية في روسيا بين سنوات 1918 و1921. فقد كان معظم القادمين اليهود خلال الفترة المتراوحة بين 1919 و1923 من أوروبا الشرقية، في الوقت الذي مثّل فيه القادمون من ألمانيا –ومن ضمنهم شوليم طبعًا- أقلية ضئيلة.
لا بدّ أن نشيرَ إلى أنّ فكرة إنشاء الجامعة العبرية وتأسيس المكتبة الوطنية، جاءت مبكرة، فقد كان ضغط اللاسامية في أوروبا على الأساتذة والطلاب اليهود دافعًا للتفكير في إنشاء مؤسسات تربوية وثقافية في فلسطين. وبالفعل تمّ تدشين الجامعة العبرية في مطلع أبريل 1925. ومع انطلاق شوليم في مشواره الأكاديمي في الجامعة لم يكن بارزًا، ولم ينل حظّا في أوساط الطلاب. فقد أورد في إحدى مقالاته: لم يكن مسعاي لبعث نقاش فلسفيّ حول أصول القابالاه بين طلابي موفّقًا، جرّاء عجزهم الفاجع عن التفكير. ولكن ما يُلاحَظ أنّ مع مرور السنوات، غدا شوليم من أكثر الأساتذة تأثيرًا في الجامعة. وكانت تزكيته أو موافقته على انتداب مدرّسين جدد في الجامعة العبرية لهما بالغ التأثير حتى في تخصصات بعيدة عن مجاله. ولا بدّ أن نشيرَ إلى أنّ اندماج شوليم في الوسط اليهودي في فلسطين قد تعزّز عقب زواجه من إيخا بورخاردت وانتدابه في الجامعة العبرية؛ لكن ذلك النجاح كان يخفي خيبة من الأوضاع الثقافية والسياسية الصهيونية على المستوى الشخصيّ.
وفي الواقع بدأت صورة شوليم تبرز منذ تشكيل لجنة بيل التي رعاها الإنجليز للبحث عن حلّ للثورة في فلسطين إبان الانتداب. نُشر الكتاب الأبيض في يوليو 1937 وقد نصّ على تقسيم فلسطين. كان موقف شوليم مزدوجا، ورد في تصريح له: “مبدئيا أعارض التقسيم، لأني أعتبر الحلّ الأمثل في إنشاء مجلس عربي يهودي مشترك يمثّل كافة أهالي فلسطين” هكذا صرّح شوليم.
وعلى ما يرصد دافيد بيالِه في كتابه، كان شوليم في قلب الحدث الثقافي اليهودي، في الداخل والخارج. وإن هجر ألمانيا بقناعة وإدراك سنة 1923، باتجاه فلسطين، فقد تواصلت علاقته باللغة الألمانية متينة أكان عبر البحث أو الكتابة. تابع النشر في الدوريات العلمية الألمانية والكتابة في المجلات الشعبية الموجَّهة إلى الجالية اليهودية مثل “جوديش رودسخاو”. فمن اللافت استمرار تواصله مع الجالية اليهودية، إبان الحقبة النازية، باللغة الألمانية وهو ما يعني أنّه لم يُدر الظهر لمجتمع المنشأ. في واقع الأمر كانت علاقة شوليم باللغة بوجه عامّ إشكالية ومتقلّبة، ففي ألمانيا أبدى وَلَعًا مبكّرا بالعبرية وتملّصًا من الألمانية، وفي فلسطين حاول أن يجد توازنا بين اللغتين. كانت أبحاثه ومؤلفاته العلمية تُدوَّن بإحدى اللغتين، وبحسب الجهة التي يتوجّه إليها الخطاب. والطريف أنّ شوليم حين يكتب للألمان كان يوقّع مقاله باسمه الألماني “جرهارد شوليم”، وحين يكتب لليهود يوقّع باسمه العبري “غرشوم شوليم”، الاسم الذي شرع في استعماله مع رفاقه الصهاينة أثناء الحرب العالمية الأولى. حيث لم يهجر شوليم لغته الأم -الألمانية-، فقد كان مزدوج اللغة حتى في الحياة العامة، في وقت كان فيه دعاة العبرية يحرصون على نقاوة اللغة وتنقيتها من الشوائب.
وكما أسلفنا القول، كان شوليم في قلب الحدث الثقافي اليهودي، وكان له جدل واسع مع حنّة أرندت ومارتن بوبر وآخرين. فقد اِلتقى شوليم حنة أرندت أول مرة في فرنسا (1938)، وهي الطالبة التي أعدّت رسالتها للدكتوراه تحت إشراف كارل ياسبرس، وسبقَ لها أن تلقّت درسها الفلسفي على يد الفيلسوف مارتن هايدغر. وجد الثنائي -شوليم وأرندت- تناغمًا في المواقف السياسية الموالية للصهيونية وإن تباعدت المشاغل الفكرية بين الطرفين، فأحدهما يشتغل على الأصول الميتافيزيقية لليهودية والآخر على القضايا الفكرية الحديثة. تمتّنت عرى العلاقة بين الثنائي، جراء تقدير شوليم لاشتغال أرندت في منظمة صهيونية يترأّسها زوجها هانريخ بلوشر، تُعنى بترحيل الصِّبية اليهود نحو فلسطين عرفت بالعاليا الشبابية.
لكن تلك العلاقة تخلّلتها تباينات وخلافات في وجهات النظر. فخلال العام 1945 عبّرت حنّة أرندت في مقال صادر في “مينوراه جورنال” بعنوان “إعادة النظر في الصهيونية” عن انتقادها للصهيونية اليمينيّة، وهو نقد من داخل الانتماء وليس من خارجه. ردَّ حينها شوليم على أرندت بأنّه يجاري انتقاداتها الجذرية، كما أنّه بالمثل يعارض سياسات بن غوريون، سوى أنه لا يقبل بتلك الرؤية الماركسية التي تتبنّاها، فهي تستند في منظوره إلى رؤى معادية للصهيونية، معتبرا أنّ طوباوية أرندت نابعة من البعد عن فلسطين ومن نقص الإلمام بواقع اليهود في الداخل. ردّت أرندت على شوليم بالقول: إنه يرى أنّ إسرائيل هي مركز العالم، وأنّ مركز إسرائيل هو أورشليم، وأنّ مركز أورشليم هو الجامعة العبرية، وأنّ مركز الجامعة العبرية هو شوليم، فالشيء المحزن أن يرى شوليم بالفعل أنّ للعالم مركزا. في واقع الأمر لم يقف الحضور العلمي حائلا دون تقديم شوليم استقالته من الجامعة العبرية، وذلك في المرحلة الأخيرة من مشواره الأكاديمي، دعمًا للحرية الأكاديمية والمعرفية.
كان شوليم يرى نفسه معنيّا بالحفاظ على الذاكرة اليهودية، وقد قاده ذلك الشغف إلى العمل على لَمْلَمة تلك الذاكرة. انطلق على إثر هزيمة النازية في عملية ترحيل للأرشيفات والمخطوطات والمدوّنات اليهودية التي صادرها الألمان من مكتبات أوروبا. جمع الأمريكان على إثر احتلال ألمانيا كمًّا هائلا من الوثائق في أوفينباخ في أحواز فرانكفورت، وعلى الفور تشكّلت لجنة في الجامعة العبرية في السادس من مايو 1945 تولاها شوليم، لمتابعة المسألة والسهر على جلب تلك الوثائق إلى القدس. تولى حينها شوليم مهمّة نائب الرئيس في لجنة إعادة البناء الثقافي اليهودي وشغلت حنّة أرندت منصب السكرتيرة.
فيما تتمثّلُ الإضافة البارزة لشوليم في الدراسات الدينية اليهودية؟ تتلخّصُ جذور الرؤية اللاهوتية لشوليم في الفكرة القابالية، حول تواري الإله وحول باطنية التراث الدينيّ، وهو ما يلتقي في جانب منه مع الرؤية الدينية لموسى بن ميمون، الذي كان شوليم يدرّس أطروحاته في الجامعة العبرية ضمن درسيْ الفكر القابالي والفلسفة اليهودية. فابن ميمون والقاباليون كلاهما يرى الألوهية غير قابلة للإدراك المباشر والاستيعاب بوساطة العقل البشري، وإن قال القاباليون بمفهوم الفيض الإلهي باعتباره البعد الذي يتيح للمرء الوعي بالألوهية. ولعلّ تلك المواضيع الكلاسيكية والمنبعثة مع القاباليين، هي التي أوحت لشوليم بإمكانية عرض تصورات الألوهية في العالم الحديث. كما طرحَ شوليم فكرةَ الخلاص عبر الخطيئة، وهو موضوع أثير في لاهوت الحركة السابَتية لدى شوليم، لا سيما بعد اهتداء الزعيم سابتاي زيفي إلى الإسلام (1666م) وهجرانه اليهودية.
لعلّ الانشقاق الأكبر في اليهودية القابالية، وهو ما تمّ مع اهتداء سابتاي زيفي إلى الإسلام وتحوّل جاكوب فرانك نحو الكاثوليكية، وإن تمايز وزن الانشقاقين لكون اهتداء سابتاي زيفي مثّل زلزالا حقيقيا هزّ العالم اليهودي واختبارا عسيرا لليهودية على أبواب العصر الحديث.
ومن جانب آخر ما الذي أضافه شوليم بالفعل لدراسة التصوّف العبري من خلال كتابه ذائع الصيت “المذاهب الكبرى للتصوف اليهودي”؟ تبدو مقدّمة الكتاب تأمّلات في العشرين سنة التي قضّاها في دراسة التصوف اليهودي، والتي يظهر فيها بمثابة الباحث الأثري أمام ركام هائل من المخلّفات الأثرية، تطلّب عملا مضنيًا لإخراج ذخائر خفيّة من تحت الركام. القسم الأول من الكتاب هو عبارة عن مدخل عامّ طرح من خلاله شوليم أسئلة متنوّعة، محاولا الإجابة عنها على غرار: ما التصوف؟ وما الذي يميز التصوف العبري عن غيره؟ وما هي أطوار التصوف العبري؟ وعلى ما يخلص إليه شوليم، لا يصوغ المتصوفة العبران نصوصًا وسِيرًا خاصة، يعرضون من خلالها تجربتهم مع الألوهية، بل يضعون سيرهم جانبا ليدوّنوا نصوصا ثيوصوفية يبحثون من خلالها في الديناميات الداخلية للألوهية. تتواصل متابعة دقيقة للمدونات الباطنية اليهودية عبر أقسام الكتاب الأخرى، وفي القسم الأخير يركز شوليم على الهاسيدية خلال القرن الثامن عشر وعلى الأحبار الكاريزميّين وأتباعهم، وهو ما يشكل حسب نظره المرحلة الأخيرة من التاريخ القابالي.
في مؤلّف “سابتاي زيفي”، وهو العنوان الإنجليزي لكتاب شوليم عن هذه الشخصية الإشكالية، الصادر سنة 1973، مجهود كبير. حقّق المؤلف رواجًا منقطع النظير في الأوساط الأنغلوفونية وعبر الترجمات أيضا. فقد عدّ البعضُ الحركةَ السابَتية حركة هامشية وعديمة الأهمية ضمن مسار تطور الفكر الديني اليهودي، في حين مع شوليم مثّلت الدراما الرئيسة في تاريخ اليهود على أعتاب العصور الحديثة. بيّنَ شوليم كيف تمدّدت حركة سابتاي في أوساط يهود العالم، ولم تنحصر بتركيا العثمانية. بَيْد أنّ دراسة شوليم للسابَتية لاقت انتقادات من قِبل العديد، أبرزهم باروخ كورزويل، وهو أستاذ أرثوذكسي يهودي درّس في جامعة بار إيلان في تل أبيب. اعتبر كورزويل أبحاث شوليم حول السابَتية هي مجرّد محاولة تفسير لائكية لليهودية. عرض كورزويل شوليم ليس كمؤرخ، بل كأحد المدافعين الذين شايعوا السابَتية نظرًا لخاصياتيها العدمية، مرتئيا كورزويل أنّ السابَتية هي بالنهاية رفضٌ للخطّ التقليدي وتنكّرٌ لسلطة الحاخامات. الواقع أنّ كتابة سيرة سابتاي زيفي قد دعمت شهرة شوليم، وجعلت منه أبرز الدارسين لليهودية في الحقبة المعاصرة.
وفضلا عن حضور شوليم الأكاديميّ، كان شخصية ثقافية عمومية أيضا، لها تأثير واسع حتى خارج تخصّصها العلميّ. فغالبا ما كان شوليم يُستشار في القضايا الدينية والاجتماعية للمجتمع الإسرائيلي، حتى وإن كانت رؤيته لائكية للمسائل. يورد دافيد بيالِه عديد الأمثلة عن ذلك الدور: مع العام 1970 أُثير الجدل مجدَّدا في المجتمع الإسرائيلي بشأن قضية من هو اليهودي؟ وقد سبق أن أقرّ قانونُ العودة حق ّالجنسية للعائدين اليهود مباشرة، ولكن هل اليهودي هو وفق التعريف الهالاخي، أي كلّ متحدّر من أمّ يهودية أم ذلك المتهوِّد المعتنق للدين اليهودي، أم الأمر وفق التعريف النازي، كل من له جدّ عبري. وأثيرت كذلك قضية الجهة التي تتولى مراقبة التحول الديني. عندما أثيرت المسألة أدلى شوليم بدلوه معتبرًا اليهودية تجمّعًا مفتوحًا حيّا، وليست منحصرة في شكل بعينه، فاليهودية ظاهرة متحولة عبر التاريخ. رفض شوليم حينها التعريفات الدوغمائية لليهودي وانحاز إلى تعريف مفتوح.
وبخصوص الجدل الدائر حول حربيْ 67 و 73 كان لشوليم حضور مؤثّر في الساحة، ففي أعقاب حرب 67 التي تسنى فيها لإسرائيل تحقيق نصر قام نقاش في المجتمع الإسرائيلي دارَ حول ما الذي نفعله بالأراضي العربية المحتلة؟ وانقسم قادة الجيش والساسة إلى تيارين: أحدهما يميل إلى الضمّ والآخر يرفض ذلك الخيار، بدعوى أنّه يدمّر صورة إسرائيل الإنسانية والديمقراطية أمام العالم. كان شوليم حينها من أنصار الخيار الثاني، ووقّع عريضة إلى جانب مجموعة من الشخصيات البارزة بعنوان “أَجَل للأمن والسلام.. ولا للضمّ”. وفي السابع عشر من أكتوبر 1973، في وقت كانت الحرب فيه مستعرة في الشرق الأوسط، أرسلَ شوليم رفقة مجموعة من الأساتذة في الجامعة العبرية رسالة استغاثة إلى “نيويورك تايمز” ناشدوا فيها الرأي العام الأمريكي بأنّ العرب بصدد تدمير إسرائيل.
آثرنا عرْضَ هذا الكتاب الذي يدور حول شخصية غرشوم شوليم لندرة الكتابة عنه في العربية ولانعدام الترجمة بشأنه، رغم الدور المحوري للرجل في الثقافة اليهودية المعاصرة.
الكتاب: غرشوم شوليم معلّم القابالاه
تأليف: دافيد بيالِه.
الناشر: دار كاروتشي (روما) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 211 ص.