بَنْداس 1927:
وصلنا واحة سيوة هاربين من الطليان، قطعَتنا الحمّى في سيوة، ماتت راضي، بكينا عليها ماتت فَطّوم، مات عيسى فَنكو، ماتو ناس عديل، حتى سيادي (اللي ربي خلّاهم سيادي) ما نجيوش من الحمّى، عبدالله خو سيدي أحمد مات، ماتت أم سيدي عبد الرحمن، وماتو جميع.. هربو من الطليان في الجغبوب وسيبو كل أملاكهم، لقيو الحمى ف سيوة.. سيدي أحمد لَمنا في السواني قال: سامحوني أنا معش عندي بيش نصرف عليكم ولا نداويكم، وماعنديش بيكم شغل، وما نرضاش نبيعكم لحد يبهدلكم.. قال سامحوني وعتقنا، عطانا حريتنا اللي ماعرفناش كيف نفرحو بيها. ليش توّا يا سيدي! أنا محتاج ليك! ليش ما عتقتني زمان وأنا صغير! ليش ما عتقتني أيام وأنا مازلت نعرف نفرح! وين نمشي؟ وين ناكل وين نشرب وين نرقد يا سيدي نا ما عندي حد! بكيت عنده حبيت ايده دخيلتك يا سيدي ما تسيبني! قال: يا بنداس أنت مؤمن، والمؤمن يرضى بحكم الله. أنا يا سيدي راضي بحكم الله خلقني بلا حريّة، طول عمري راضي أني موش متاع روحي، ليش تـمَلكوني شي في وقت معاش نقدر عليه! مس سيدي على راسي، قال الله ما يـخَلّي حد يا بنداس، عدي لعزبة العبيد.. يا ريتك متت م الحمى يا بنداس! ياريت قتلوك الطليان ولّا شالوك مع سالم داديه! ياريتك هربت وأنت صغير كيف حَوّة إسماعيل! يا ريتك يا بنداس، ياريتك!
.
بوي يادم 1918:
أنا “يادم”، أنا يخافو مني العبيد والـحَرار.. أنا من “عبيد الوقف” (ملك حبس ما ينباع لا يـمَلكوه لحد). شرونا سيادي من بَرّ العبيد ونحن صغار جابونا للجغبوب، علّمونا القرآن والقراية ودربونا ع السّلاح وجهّزونا ننشرو الدعوة في “فور لامي” و”أسمرت” و”إكو” وعقاب بلاد برّ السودان خدمة للدين. حاربنا الفرنسيس في “فور لامي” مع سيدي المهدي. حاربنا الإنجليز في “سيوة” مع سيدي أحمد الشريف اللي حطني آمر على فرقة العبيد (لاجل عارفني نحكم فيهم).. الـحَرار يشوفو فيّا قاسي وقلبي أسود سواد لوني (الـحَرار يقيسو حدّة الشرّ بغماق اللون)، لكن العبيد يشوفو فيّا بوهم.. أنا يادم أب كل عبيد الوقف، لما سيدي يوحل في العركة يستدعيني، نجيه نا وفرقتي “فرقة بوي يادم”، نشرط عليه ما نقاتل إلّا مع رجالي وما يقعد في ظهرنا حد! نلاطمو الإنجليز اصدار اصدار.. عمرنا ما وخّرنا ولا حد فينا ذَل.
.
حَوّة إسماعيل 1920:
أنا “حَوّا”، حَوّا متاع سيدي إسماعيل. ولأنّ فيه حَوَّا أخرى في حوش اسيادي فأنا يقولولي “حَوّة إسماعيل”. سيدي جاب منّي بنتين ومشا لغدامس، خلّاني نبكي في الجغبوب “يانا قليل الوالي.. سيدي رحل خلّاني في تَلتَل”.. قلتلهم سيدي الكبير سمعني وانا نبكي قال “حَوّا لا تطروها لا تزعلوها، حَوّا اللي تبي كله عطوها”. ضحكو، قالو ليش أنتِ بس سمعتي سيدك! ليش ما سمعناه معاك وهو يوصّي عليك! سيدي الكبير مات، سيدي الصغير مشا. وأنا خذيت بناتي.. وهربت.. مشيت لاجدابيا، غير من بختي مرضت بنتي الصغيرة وما عرفتش نداويها، ولقيت سيدي أحمد قدامي في اجدابيا ومعاه بَنْداس. بَلّغو عليّا حكومة اجدابيا، طاردوني طاردوني، يبو ياخذو مني بناتي، وانا نكرس ونهرب ونكرس.. ماتت بنتي.. دفنتها وهربت بخيّتها لمطروح.. هربت قبل نلحق نبكي عليها!
.
بوي يادم 1920:
حطّو رواحكم مكاني!.. أنا “يادم”، أنا اللي يخافو مني العبيد والـحَرار، مانلقاش كيف نوكّل عيالي!. لما الانجليز هزمونا في الحرب، سيدي أحمد الشريف حَل جيشه وفرّق الرجال، كل حَد روّح لهله. لكن نا ورجالي ما عندناش هَل! وين نمشو؟ وين ناكلو ووين نشربو؟ انعم، غزيت البدو.. غزيت النجوع وفكّيت منهم قوت عيالي.. نكّلت بيهم وفرضت ع القبايل الأتاوة، يكرمو فرقة بوي يادم بالسيف، واللي ما يرضى يا ويله! قالو علينا قطّاع طريق، قالو حَرَابه، قالو واجد وكذبو واجد. يكذبو يقولو نسألو فيه “الشاة نقطّعوها على كم لحمة يا سي يادم؟” وأنا نقول “قطّع المعطوبة على أربعة”، يكذبو يقولو نفرض عليهم يديرو “مخارة” للسمن في وجه الرز.. يكذبو يقولو ويقولو وينسو أيام “سيوة” و”فور لامي”، يكمّل فينا الخيل والعجاج ويجي الطير ياكلنا، أيّام سيدي السنّي يعطينا فاتحة ونكرّو ع الكفّار قبل كل القوم.. يكذبو لكن صدقو في كون أني نغزي، انعم، نغزي ناخذ قدر رجالي بخشم البندقة.. البوادي شكو فينا لسيدي إدريس، قال لرجاله جيبوهم.. جونا، لكن ماجوناش صدار، نصبولنا كمين.. استضافونا وغدونا وخلونا اطامنّا واسهينا على سلاحنا، قالولنا “تعالو في البيت اللي فوق، أروَح”. مشينا حاوطونا رجال الدّور مسلّحين ونحن عزّل.. يكذبو قالو تلفتت على رجالي قلت “ضحكت عليكم البوادي يا عبيد!”.. كتّفونا شالونا لسيدي إدريس، استفتى فينا سيدي مختار الغدامسي أفتى بحَدّ الحرابة.. قيّدونا في ركن تحت تبّة، وضربونا بالمدفع.. قتّلونا!
.
بو مَسّود:
أنا بو مَسّود، قَتّال الهوايش السود.. أنا مش موجود إلا في خيال الـحَرار، اخترعوني عشان يضحّكو رواحهم على العبيد.. لكن هما يضحكو على حكاياتي وانا نضحك معاهم.. قالو مرّة أنا مشيت مع رجالي نصّيّدو لفاعي، حطيت راسي في حفرة الصلّ وقلتَليهم كرّوني مع كرعي، لكن الصّل كرّني من راسي، هو يكرّ ورجالي يكرّو، طلعتليهم بلا راس.. رجالي استغربو، قالو “بو مَسّود عندو راس ولّا ما عندو راس؟”. مشو ينشدو زوجتي الكبيرة لقوها في فَمَّ الدار، قالت “والله ما نعرف عندو راس ولّا ما عندو، يمشي كمكم ويجي كمكم!”. سمعتهم زوجتي الصغيرة طلعت مفجوعة وتحت باطها “قَنّان” (رغيف صغير*). قالت “بو مَسّود قتالَ الهوايش السود عندو راس، والراس فوقو شوشيّة، والشوشيّة فيها مَيبَرنا وما شاغلنا إلا مَيبَرنا!”، الـحَرار يضحكو وانا نضحك معاهم، قالو زوجتي الكبيرة تندب عليّا وعينها على القَنّان، تقول “اللي شاغلها بو مَسّود، ترفع باطتّا لافوق”، ترد الصغيرة “الوطا نِنُطْ عليها، والسما ما نطول ليها، وما مكتوب علينا حَيْ”.. الـحَرار يضحكو وانا نضحك معاهم.. قالو مرة هربت من اسيادي أنا ورجالي معانا صرّة زميتة، مشينا مشينا لقينا بركة ميّه صغيرة، نحسابوها ميّه مطر وهي عين غريقة.. قلنا “كان شِرِبنا ما زَمّمنا وكان زَمّمنا ما شِرِبنا!”. قلنا نزمّمو خير. حليّنا صرّة الزميتة ذابت كلها في الميّه، قلنا هذا واحد كارس تحت الميّه ياكل في غدانا لازم نِأدِّبوه.. كل ما يزقب حد في البركة يغيب ما يطلع، يزقب حد يغيب ما يطلع.. نين بقيت أنا بروحي.. الـحَرار يضحكو وانا نضحك معاهم.. قالو مرة أمّي قالت ما نقعد في بلاد فيها جَبّانة، خذتني وهربت بيّا لبَرّ العبيد، دوّرنا دوّرنا لقينا بلاد ما فيها جبّانة، بلاد “يميم”، عشنا معاهم وتزوجت منهم وجبت وليد، ولما مرضت أمي قالت زوجتي “أمك تعبانة شديد، نجيبو ليها السّتّارة؟” قلتَليها ماشي ورحت الشغل وأنا في بالي ستّارة يعني طبيبة.. لما رجعتَ لقيت السَتّارة مخلصة الشغل وكل حد واكل حصّته، وأنا حصّتي – من جثمان أمي – معلّقة.. الـحَرار يضحكو وانا أضحك معاهم، يقولو كتمت كتمت لحد ما نامو، خنقتَ زوجتي قتلتها وحطيت ابني على رقبتي وهربتَ في الليل. يقولو طلعت الشمس علينا في البرّ حَمّرت وذني، شافها ولدي من فوق رقبتي يحسابها لحمة عضها. أنا قلتَ “اااه يا بو مَسّود! أنت هارب من يميم وشايل واحد منهم؟”. رفعت ابني فووووق وخبطتو طرطاااااف على حيطة.. سكت ابن الحرام ما نطق.. الـحَرار يقولو ويقولو.. يضحكو على حكاياتي وانا نضحك معاهم.. نضحك معاهم عليهم.
.
حَوّة إسماعيل 1931 – 1953:
عشت في مطروح مع بنتي، كبرَت بقت عروسة.. لكن اسيادي جو سكنو في مطروح، ولقيوني.. قالو ها الخادم تدور ببنتنا على الحيشان وطاردوني يبو يمسكوني، وانا نهرب ونكرس، نهرب ونكرس. لحد ما لقيت بابور بحر يشيل للسلّوم، حجزت وكرّست بنتي فيه.. ومشيت نتحرك في السوق عادي نعرف أنهم يتبعو فيّا من بعيد يبو يعرفو مكان بنتي. خليتهم اطامنو اطامنو وقعدت نين جا وقت طلعت البابور جريت جريت قفزت فيه وهربت مع بنتي.. العمدة بتاع السلّوم بعث جواب لسيدي أحمد، قال ان “فيه رجل ذو خلق ودين حابب يتقدم لبنتكم” (بنتي). كتب سيدي جواب من مطروح لعمدة السلّوم يقول “أنت وكيلها عنّا إن قبلت، جوزّها على بركة الله”.. زوّجت بنتي وقلبي طاير فرحة. عملنا دَنقة كبيرة يوم العرس، وفرّقنا شربات، وفرحنا. لكن بختي يا كبيدتي! ماتت بنتي بعد الفرح! حرقها بابور النار.. عشت عقاب عمري بروحي في السلّوم.. بعد الحرب مشيت لبنغازي، قعدت مع عويل اسيادي آخر أيامي. ولما حسيت ساعتي قربت قلت لقدوره ولد سيدي أحمد “قدورة، نبي نمشي للسلّوم”، شالني ركبني في البولمان.. لكن بعد يومين لقاني في بنغازي قال “حوّا! ما مشيتي؟”، قتله ما مشيت. تذكرت بنتي في اجدابيا، ما بكيت عليها. مشيت دوّرت قبرها دوّرت ما لقيته، نين واحد ولد حلال دَلني عليها. قلتَليه بنتي صغيرة ماتت أيام حكومة اجدابيا.. الراجل صعبت عليه فكّر فكّر قال اااه، شالني لأوّل قبر صغير، قال هذا قبرها.. أنا مش فاكرة القبر لكن صدّقتو وقعدت بكيت بكيت.. بكيت عليها وعلى اختها وعلى روحي، وعلى سيدي اللي مشا زمان خلّاني في تَلتَل.
.
بو مَسّود:
أكيد حَكُو ليكم حكايات القرقيري، واليميم اللي ياكلو لحم البنادم، أكيد سامعين بالعبد “بو مَسّود” اللي محتج في الجبّانة “معقولة يا اسلام الله، لحم حلو تَدفِنوه في التراب!”.. أكيد خوّفوكم وانتو صغار من العبد و”الرقيق سَفّافين الدقيق”، أنا نضحك ونتخيل حكاية الخادم الجديدة اللي قالتليها ستها “تعالي يا دَرمة مرسيني”، تمت تمرس فيها تقول “كرعيكي سمااان أمّي جلّول، كرعيكي سمان”، خافت العجوز قالتليها “الله يربحك جيبيلي نشرب”، خلّتها طلعت سكّرت على روحها الدار بالمفتاح نين جا ولدها. نا نضحك ونتخيل حكايات العبيد اللي يشّقلبو، قالو وحده شاكّة في خادمها أنها “شقليبة”، راقبتها في الليل لقتها في المطبخ تسلح في دبشها، تعرّت ومرمدت روحها على العوين وانقلبت ضبع.. نا نضحك، مش على الحكايات، نضحك ع اللي صدقوها.. قالو صاحبة البيت قالت لسايس عبيد يشيل الخادم يبيعها، روّح يجري مفجوع قال “اشقلبت عليّا في الطريق، جت عند حفرة نملة قالت “نبّي نصّيّر”، عطيتها الاذن لومينها متمرمده ع الحفرة واشقلبت ضبع”.. أكيد خوّفوكم واجد، وضحكوكم على بو مَسّود العبد العطشان الكسلان، اللي دزّه سيده يجيبليه شراب، شرب وجاب لسيده قال “الله تربّح سيدي دزّني يشرب، شربت حتّى نا”.
.
بَنْداس 1954:
أنا بَنْداس.. اسمي “مرسال”، والناس ينادوني “بَنْداس”. كبرت وضعفن عظامي وعيوني، ولما انتهت الحرب الناس رجعو أنا ما مشيت للجغبوب.. عدّيت للمرج القديم، سيدي طاهر ولد سيدي أحمد لقالي خدمة في البلديّة، خدمت عامل نظافة.. بقيت سنين، نين في يوم خذيت إجازة مشيت للبيضاء لرفيقي القديم “ريـال”. كان عند سيدي إدريس، يخدم سايس خيل.. شافني سيدي إدريس: “أوو بَنْداس، فيش تدير هنا!”، قتله أنا نسكن في المرج، نخدم في البلدية، قاللي “لا، تعال عندي. اقعد مع ريـال”.. قعدت مع ريـال وارتحت في البيضاء.. لما قربت ساعتي تاقت روحي لتراب اسيادي، قلت لسيدي إدريس نبي نمشي للجغبوب، قالي مربوحة يا بَنْداس.. مشيت ما لقيت حد نعرفه، لكن حسيت ونَس، طافت أرواح “راضي” و”فطّوم” و”حوّة إسماعيل”، تخيلت “سالم داديه” و”عَشتَه” و”تحاقن” و”عيسى فنكو”، تخيلت سيدي إسماعيل صوابع دين سيدي أحمد يعطي فيّا الفاتحة ونطع كرسي سيدي الكبير.. أنا بَنْداس، توفّاني ربي في الجغبوب… ترحّـمُو عليّا وما تنسوني.
……..
6. أكتوبر. 2021