رافد علي
نالني وافر الحظ بالحصول على رواية نهارات لندنية وكتاب يد التاريخ عن دار الفرجاني للكاتب جمعة بوكليب.
نهارات لندنية رواية قصيرة كُتبت علي شكل “سيرة ذاتية ممزوجة بالخيال” أكملتها في جلستين لسلاسة تدفقها وأسلوبها الرشيق، ومطعمة بعنصر الإثارة من خلال الأشخاص المذكورة فيها، ولطريقة إقفال فصولها التي تأتي في جملة مقتضبة تغرس حالة اقتناع بالانتهاء، ولكنها تحرضك علي الاستمرار. شخصيات الرواية حبكها الراوي بمنحها أبعادا وتفاصيل تقحم القاريء بمواصلة القراءة لإرضاء فضوله عبر الظفر بالمزيد، وضمن “هوس” الكاتب، الذي يفرشه بسرديته، بأنه مشغول بترتيب أفكاره لأجل أن يكتب رواية مختلفة عن غيرها من روايات عديدة معروفة، أو اطلع عليها واستخدمها لتعزيز مونولوجه الذاتي لمنح دقة لوصف ما يأتي به، أو للتشديد على ما يحاول إقراره.
شخصيات نهارات لندنية من الجنسين، محمد وأحمد ومجيد وسعيد. ومن الجنس اللطيف، تأتي حسيبة وسالي والسيدة الليبية الفارة بطفليها للعيش مجدداً ببريطانيا، كما لوالدة الكاتب حضور في صفحات الرواية، عبر ترديد أقوالها اللصيقة بذاكرته، وفي ثنايا الحنين واللوعة اللتين تتواشجان بلا انقطاع.
محمد الذي يفتتح به الكاتب روايته عبر نصية لرسالة يكاشفه فيها بأنه صار مستعداً نفسياً لخوض تجربة كتابة رواية، ويوضح له، بذات الرسالة، بأنه مهتم بمعرفة رأيه عنها. الصديق محمد، الذي يعيش بليبيا، يمنحه الراوي لمحة عن المواطن الليبي الذي يرقع ايامه ضمن مشاغل الحياة ونمطية الأحوال، إذ صار البشر يحكمهم منطق المنفعة الآنية في تسليك أمور حياتهم، كما تبيّن ذلك لاحقاً في فصل “نهار للبوح“.
أحمد، الليبي العنيد بشكل مبالغ فيه مما “ينفخ قلب” الكاتب عند اللقاء به. أحمد، كمهاجر ليبي، يمنحه بوكليب نمط شخصية ليبية مألوفة بسبب عدم منطقيته وتشبثه بالمعزة ولو طارت.
مجيد الشاب الليبي الذي هاجر لبريطانيا يافعاً، بعد أن صدمته الأحداث ضمن لحظة الحقيقة، بتفاصيل الحياة والبطالة والشعارات ومغامرات السياسة وحتمية الضحايا فيها، إلا أن معدنه الأصيل بقي طيباً، بما يكشف أن ما حصل له كان انجرار مراهق لتيار مسيطر ويتغلغل في مفاصل المجتمع.
سعيد، يمنح الراوي عبره صورة اللحمة الاجتماعية، مالم نقل العصبية، ويتبيّن ذلك عبر اهتمامه الشديد بالانخراط في قصة فرار زوجة ابن عمه رمضان بأولادها، لتعاود العيش بمدينة الضباب، لأجل ضمان مستقبل أفضل لأبنائها، بعدما ملت من زوجها الطبيب المقصر في رعاية بيته بسبب الغياب المستمر. سعيد، الشاب الطموح لخلق حياة أفضل، والذي يعيش علاقة في بدايتها مع شاعرة برتغالية، بانت نعرته الليبية بإصراره على الوقوف على معرفة رأي الليبية الفارة لأجل رفع الملام الاجتماعي عليه بين أهله بالبلاد، أو على وجه التحديد أمام ابن عمه رمضان الذي يظل مشغولاً على ذريته، ومعلناً بأن زوجته لم تعد تعنيه في شيء. أعتقد أن السيدة الفارة حالة رمزية يقدمها المؤلف لمدى الضجر والقلق الذي يسود المجتمع عموماً، فالمرأة، الطرف الضعيف في المجتمع الليبي، جاءت كصورة للتوضح بأن ما يجري بالبلاد من أمور وتوابع المحنة فيها، لم يكن من اليسير التكيف معها، خصوصاً وأنها سيدة متعلمة وتجيد الإنجليزية وتملك فرصة للفرار نحو غربة أخرى.
للمرأة العربية المهاجرة مكانة في رواية نهارات لندنية، يعكسها بوكليب من خلال شخصية حسيبة، المرأة الجزائرية المتزوجة من إنجليزي، وتعمل محررة أخبار في البي بي سي العربية. والتي كانت تعايش العشرية السوداء بالجزائر بكل توابعها المخيفة. حسيبة صورة للمرأة المثابرة والمثقفة، المقتحمة للغربة بانفتاح “لا ينظر للماضي” في رحلة الهروب من “حريق أوطاننا” كما يصف الراوي. التقي السارد بحسيبة في دار الكوفة، النشطة ثقافياً بالعاصمة لندن، ويبرز الكاتب مدى ثقافتها من خلال حوارية عن وضعية الرواية الإنجليزية المعاصرة في فصل “نهار غير عادي جداً”. إذ أوضح الكاتب لحسيبة بأن الرواية الإنجليزية فقدت بريقها عنده، مقارنة بالرواية اللاتينية في أمريكا الجنوبية، أو الأخرى القادمة من آسيا، إلا أن حسيبة عارضت بشدة موقف الراوي ودافعت عن الرواية الإنجليزية بأسلوب المحافظ. تجدر الإشارة هنا إلي أن الرواية الإنجليزية بالقرن العشرين عند مارتن غرين غير رواية إنجلترا اليوم، التي اقتحمتها رواية الشباب و “الكرافيك نوفل”، بعد تطورات كثيرة قادها كُتاب مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ انحصرت قضاياهم في البطالة والفقر والبطولة والجنس والشذوذ.
الحنين، أو النستالجيا، يظل عنصرا مترامي الأطراف في نهارات لندنية، يشع أنينهُ عبر كل صفحات الرواية القصيرة. “آه يا بلادي البعيدة”، عبارة كان يرددها الأستاذ جمعة بوكليب في سنوات التسعينيات الماضية حينما تعرفت عليه في لندن. أذكر أنه قال لي حينما نظرت إليه مستعجباً تنهدته حينها أنها “بلاد بالمعنى الشعري” بينما نحن نحتسي فنجان شاي بمقر عمله بمؤسسة صحافية بشارع انسمور جاردن. “آه يا بلادي البعيدة”، أجد لها تفسيراً يأتي في “نهار مخاتل جداً” وعلى لسان حسيبة حينما قالت إنها “تحمل وطنها في قلبها كحلم”، فـ “وطن حسيبة يسمى حسيبة” كما تقول العراقية دعد، إحدى الشخوص العابرة التي قابلها صاحب السرد.
بوكليب بكل واقعية يحاول أن يفك غربته من خلال أبجدية المنفى وأحكام الغربة، إذ يضع على لسان حسيبة، مرة أخرى في “نهار مخاتل جداً” بقولها: “وأبجدية منفانا تبدأ بأن تدوس بقدم صلبة على قلبك، ثم تمضي للأمام قدماً…”.
السجن، ذاك الجرح الذي لازال ينزف في دواخل الكاتب، لا يغيب كثيراً في صفحات الرواية، فقد باح به حتى لسالي، تلك المرأة الجميلة والذكية والمثيرة والغامضة، والتي تعرف عليها بطلنا بلا إدراك كامل، واستوعب لاحقاً تفاصيل الحدث معها برأس “مكفوخ”.. من أولى الأشياء التي قرأت للأستاذ بوكليب كان مقالاً بصحيفة القدس العربي اللندنية في التسعينيات الماضية، تحدث فيها عن جلسات دعم وإرشاد نفسي كان يواكب عليها للتخلص من توابع تجربته في السجن، إذ كانت الكوابيس لازالت تلاحقه، رغم العفو وخروجه مبتعداً عن ليبيا لغربة يشتري فيها ذات لحظة “هذا الكتاب سوف ينقذ حياتك”، والذي سيسخر منه أحمد العنيد لأنه اقتناه، فيرد الراوي ساخراً “إن الكتب، دائماً، كانت السبب وراء خراب بيتي”، فالسجن، كتجربة قاسية وعنيفة، لازالت وشماً على جذران قلبه الذي لازال يحن لوطن يلقي بأبنائه في عباب بحور وغربة عنيدة.
نهارات لندنية رواية شيقة، يقدم فيها الكاتب نفسه بثوب جديد يخالف كتابته للمقالة والقصة، عبر إفراغ شحنة كـ Therapy، وليس هروباً إلى الأمام كما يعتقد محمد. لندن حاضرة في الرواية، من خلال الغيم والمطر والمعطف- داكن اللون- والمواصلات العامة وأسماء المحطات والأماكن، لكن أوتار كاتبنا قد تهتز وبلا مخاتلة، حتى بمجرد لمحه لمحبس ورد شبيه لمحبس نوار بيتهم في الظهرة بطرابلس فـ “آه يا بلادي البعيدة” مجدداً.