الشقيق الأول توقف عن دفع صخرته الى أعلى وقال لشقيقيه: سأتوقف هنا غير بعيد عن الشاطئ حيث سيكون بإمكاني ان اصطاد السمك واعيش، لست بحاجة للقمة حيث بإمكاني ان ارى العالم، سأكتفي برؤية البحر والعيش، ليواصل الشقيقان الاخران دفع صخرتيهما الى اعلى.
كانت الصخور ثقيلة وصلدة ودفعها الى اعلى يتطلب جهدا كبيرا فالجبل كان شديد الارتفاع، لذا توقف الشقيق الثاني عند منتصف الجبل وقال لشقيقه الثالث سأتوقف هنا لأعيش فالفواكه وفيرة والطيور لا تتوقف عن التحليق والغناء والشقشقة، لا اريد الوصول الى القمة ورؤية العالم من هناك، سأعيش مكتفيا بما اراه حولي.
الشقيق الثالث وهو الاقوى جسدا والاكثر حيوية وطموحا واصل دفع صخرته الضخمة الى اعلى رغم عذابات الصعود حتى وصل بصخرته الى قمة الجبل حيث كان بإمكانه ان يرى العالم تحته بكل ما فيه من خيرات والآم، واسعده ذلك بالتأكيد فأن ترى العالم وتراقب تفاصيله هدف يستحق دفع صخرة صماء ثقيلة الى اعلى.
الشقيق الثالث وبعد ان رأى العالم اولا، التفت حوله ليرى القمة التي بلغها بعد جهاد والتي سيعيش فيها متأملا العالم فوجدها جرداء لا حياة فيها، لا شيء عدا الصخور، لأشجار ولا اعشاب ولا حيوانات ولا طيور تطير، لا حياة سوى نباتات طحالب قليلة ولا مياه، وأدرك مصيره في قمته التي بلغها بجهاد شديد “ان يأكل الطحالب الباردة المرة وان يلعق الثلج من على صخور قمته ليشرب، وان يتأمل العالم من قمته تلك.
يروي هذه الحدوثة شاب ياباني لفتاة يابانية في مطعم بعد منتصف ليل ياباني في رواية “موراكامي ” “ما بعد الظلام”، ربما لا يكون هؤلاء الاشقاء الثلاثة الا النفس البشرية وحالاتها او مكوناتها من “هوها ” و”ذاتها” و”ذاتها العليا” حسب التقسيم الفرويدي وربما تكون ايضا امة وهويتها المتناقضة والمتصارعة والقاتلة والقتيلة في نفس الوقت. فالهوية ظلت ككل شيء في هذا الكون يولد وينمو ويموت، تولد من موتها المتواصل كل لحظة عناصر حياة جديدة قد لا تشبه الاولى “وان ولدت من رحمها وخرجت حية مما يموت “.
هوياتنا التي تقتل كل لحظة ونقيم لها مراسم العزاء ونكتب في موتها الشعر والنثر وحتى التفلسف ونظل نحن الى زمن ميلادها ونموها وشبابها وتألقها، نحنطها بشعرنا ونثرنا وأدعيتنا لتظل بيننا فاعلة فعلها فينا.
ولكن ما الذي ستفعله بنا هوايتنا المحنطة؟ لا شيء بالتأكيد غير افعال “الزومبي” ذلك ” الميت الحي” الذي يقتل الاحياء ليسود الحياة “زومبي” الموت ويظل يسعى بيننا جاعلا من حياتنا موتا ومن اوطاننا مقبرة.
لن تكون حياة زمن الزومبي هذا حياة كالتي عرفنا وجربنا، لن تكون الا حياة المقابر حيث يتعفن كل شيء ويتحلل كل شيء ويسود رغم ضجيج الزومبي واناشيده صمت المقابر وهسهسة الدود.
الهويات الميتة التي لا يتم دفنها لن تنشر الا الاوبئة والموت، ولن يكون الحفاظ عليها الا انتحارا جماعيا.
نحن جميعا والان مالم ندرك “وسط هذا الدمار الذي يجتاح كل شيء” ان اول مهامنا للبقاء على قيد الحياة هو دفن جثت هوياتنا التي بدأت تسود الشوارع والعقول بعد ان نبشنا قبورها واخرجناها زومبيات قاتلة تلتهم ما تبقى لنا من عناصر البقاء والحياة.
لقد تعلمت الامم الاخرى من غربانها “دفن الموتى” وظللنا نلعن الغربان وننظر تشاؤما من سواد لونها، لندفع ثمن ذلك هذه الاوبئة التي شرعت في الفتك بما تبقى لنا من حياة وامل.
“يخرج الحي من الميت” تلك قاعدة التجدد في الحياة التي لم ندركها، لم ندرك ان ما يموت من هوياتنا كل يوم تولد منه الهويات الجديدة القادرة على البقاء والتجدد ليس بالخلود “التحنيط” بل بالتجدد والسير الى الامام.
الهويات المقتولة بفعل قانون الحياة وتجددها لا تستحق منا الا الدفن كي لا تدفننا احياء.
لا اعتقد الا ان جوهر ما نعانية من خراب ودمار هو فعل “زومبي ” هويات ماتت ولم ندفنها، هويات قبيلة وطائفة ومذهب وعرق و”دوجمات” نصر على الاحتفاظ بها رغم موتها منذ قرون خلت.