إرنستو تشي جيفار زعيم الثوار
لا نبالغ إن قلنا ان أعظم الثوار على الاطلاق في التاريخ البشري هو تشي جيفارا، فمن طبيب في الارجنتين موطنه ومسقط رأسه الى مقاتل ثم وزير في كوبا الى ثائر بامتياز في بوليفيا حيث القي القبض عليه واعدم. ولم يكن إنتمائه الثوري يعود الى فاقة عاشها او قلة ذات اليد تدفعه الى الايمان بالمطالبة بحقوقه كانسان عن طريق الثورة. فقد كان يعيش في اسرة ميسورة، وكان لوالده ميول اشتراكية ربما انتقلت اليه فاحب الفقراء والمساكين منذ صغره، كما كان على درجة عالية من الثقافة اكتسبها من قرأته المتعددة لاقطاب الفكر، فشملت مكتبته على ما يزيد عن 3000 كتاب لأبرز كتاب العصر. ولم تشغله القراءة والدراسة على ممارسة حياته العادية كأبناء جيله فكان رياضي ممتاز، برع في كل الرياضات البدنية التي مارسها من كرة القدم الى السباحة الى الرقبي. ونال حظا وافرا من السياحة فتعرف على ربوع القارة الامريكية الجنوبية على مثن دراجة نارية، ويعتقد ان سياحته في دول امريكا اللاثينية كانت السبب في ميوله الثورية واختيارته الفكرية، فتفاوت حظوظ الناس في البلدان التي زارها جعله يميل الى الفكر الماركس واليسارى الذي كان ينادي بعدالة التوزيع والمساوة في حظوظ الفقراء والاغنياء من الثروة الوطنية.
ومن تجربتي الخاصة – رغم انها لم تجعل مني ثائرا- استطيع ان اوكد دور هذه الرحلة في صقل إنتمائه الفكري والسياسي، فحين كنت طالبا في الجامعة تسني لي مع شلة من الاصدقاء أن نسافر الى كل الامكان التي أتاحها لنا الوقت في ربوع ليبيا، فقطعنا كل المسافة بين رأس اجدير والحدود الشرقية للجبل الاخظر، وارتحلنا على طول الطريق الجبلي من مدينة الخمس حتى غدامس، وسافرنا كل المسافة بين سرت واوباري، وتسنى لنا زيارة اجزء من الصحرء الليبية، وفي رحلاتنا هذه شعرنا بسوء الحال يعم الوطن الليبي، فبمجرد الخروج من طرابلس تنتهي المدنية وتبدأ حياة تنتمي الى عصور لا يمكن ان تحسب على القرن العشرين حينها، فقد كان الفقر والاهمال وانعدام البنية التحتية يعم كل البلاد الليبية، لذلك وبعد ثورة 17 فبراير كنت استغرب حديث دعاة الفيدرالية عن التهميش واعتباره السبب الاساسي في مطالبتهم بالقضاء على المركزية والمطالبة بالحكم الفيدرالي، لان هذه تستند في زعمهم على التهميش، وكأن التهميش هو نصيب المنطقة الشرقية فقط، وقد كتبت مقالا بهذا الخصوص ردا على دعاوي التهميش بعنون “التهميش المقصود والهدم الممنهج” المهم، ما اعنيه ان رحلتي في ربوع الوطن مع شلة الاصدقاء جعلتني اشعر بتعاسة الليبين، وأتسأل عن هدر الاموال العامة في غير مواضعها.
تشي جفار يمتاز عن باقي الثورين في تقديري في فرط إنسانيته، وما فارقت عباراته التي لا اعتقد اني قرأت مثلها في حياتي تفكيري، والتي تعبر عن فرط إحساسه بالانسان والمظالم التي تمسه، تلك العبارة التي قال فيها ” أحس على وجهي بألم كل صفعة تُوجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني ” وهذه العبارة لا تختلف عن تلك التي سطرها في رسالة الى أبنائه حين غادر الى بوليفيا للإلتحاق بالثورة فيها، فكتب لهم قائلا “وفوق كل شئ كونوا قادرين دوما على الإحساس بالظلم الذي يتعرض له أي إنسان مهما كان حجم هذا الظلم وأيا كان مكان هذا الإنسان هذا هو أجمل ما يتصف به الثوري وداعا إلى الأبد يا أطفالي وإن كنت لا زلت آمل أن أراكم مرة أخرى لكم جميعا قبلة كبيرة كبيرة وحضن كبير كبير من بابا“. لقد كان تشي جيفارا يحس بأنه لن يعود لهم وإن كان يمني النفس بالعودة.
وفي الثورة يقول ” لا تحمل الثورة في الشفاه ليثرثر عنها بل في القلوب من أجل الشهادة من أجلها” وقد عاش إمانه بالثورة واقعا، ومات من اجلها آملا ان يعيش العالم بسلام بعيد عن الظلم والاستغلال. وصفه الزعيم الافريقي نيلسون منديلا بأنه “مصدر إلهام لكل إنسان يحب الحرية“، ووصفه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بأنه “اكمل انسان في عصرنا” وربما في تقديري في كل العصور.
في ليبيا، ابان ثورة 17 فبراير، كان هناك العديد من الثورين على شاكلة تشي جيفارا، لقد كان الشباب الليبي يهرب من اسرته ويلتحق بصفوف الثورة، ولا تعلم عنه اسرته شيء الا بعد ان يعلمهم بنفسه بقراره الذي اتخده حتى لا يفاجئهم استشهاده او فقدانه بعض اجزء جسده، كان الثوار الليبيون المندفعين باحساس حب الوطن الصادق يتسابقون للموت في سبيله، لم يكونوا ينتظرون جزاء من احد، وعندما انتهت الثورة عادوا الى اعمالهم ودراستهم ومشاغلهم، فلم ينتظروا الدولة ان تغدق عليهم الالقاب وتلقي عليهم العطايا، لم يكن العطاء والغنيمة واللقب هو ما كانوا يصبوا اليها، بل كان ايمانهم في تخليص وطن قد سرق، وحين ضنوا انهم استردوا الوطن غابوا عن الساحة كما جاءؤ اليها، لم يطلب احدا التحاقهم بل الوطن هو من طلب فلبوا، ولم يصر احد على بقائهم والوطن ما عاد محتاج إلي بنادقهم فتركوا ساحات القتال وعادوا الى حياتهم التي كانوا عليها قبل الثورة.
لكن للاسف، المتسلقين والمؤدلجين واصحاب الاطماع اساؤ الى اجمل تجربة تمر بالبلاد، فشكلوا المليشيات من العاطلين والطامعين واغروهم بالمرتبات الكبيرة واصبغو عليهم صفة الثورة دون حق، وجعلوا منهم قتلة مأجورين، وحولوا ساحات البناء الى ساحات هدم وخراب. واني لاتسأل كيف يقبل الثوري ان يكون اجير في ميليشيا، كيف يقبل الثأئر ان يتقاضى مرتبا ويتحصل على مكاسب من ثوريته، اليس هذا سلوك المرتزقة؟ بل المرتزقة افضل من من يسمون “ثوارا” في ليبيا الان، لان المرتزقة يعلمون جيدا انهم يحملون الات الموت وادوات القتل من اجل الكسب المادي، وثوار ليبيا الان يقتلون اناس لا يعرفونهم، وحربهم، كما يقول الفيلسوف الفرنسي بول فليري، مجزرة تدور بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض لحساب آخرين يعرفون بعضهم البعض ولا يقتلون بعضهم البعض.
والله من وراء القصد
(أميس انتمورا)