قصة

سلطان الأمل

محمد الطيب الهرام

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

يشق الطريق مارً بين السيارات المتراصفة عند الشارة الضوئية، ملوحا بعلب المناديل وبعض اكسسوارات السيارات، وحفنة من الادوات المدرسية وألعاب الاطفال، يعيد تكرار ذلك ذهابا وايابا في كل مرة يكون فيها ضوء الاشارة المرورية باللون الأحمر، آملا في أن يُنزل أحدهم زجاج باب سيارته ويشتري ما تيسر من بضاعته المتواضعة…

سألته ذات يوم لماذا يعمل بهذا؟ فأجاب مع ابتسامة عريضة قائلا: لأنه الحلال الوحيد الذي بإمكانه أن يشتغل به. معللا ذلك بأنه يعاني من آلام مزمنة في الظهر بسبب إصابة تعرض لها في تفجير إرهابي، وليس بإمكانه العمل في الاشياء التي تتطلب جهد كبير، كما أنني لاحظت جسده الهزيل النحيف، فهو طفل صغير لا يملك من القوة الجسدية ما يمكنه بأن يعمل بأعمال الاشداء من الرجال.

بائع ليس ككل الباعة، طفل رغم أن الحياة تقسوا عليه وتطحنه كطحن الرحى للشعير، إلا أنه دائم الابتسامة صاحب وجه بشوش، يقبل على ذلك المفترق من الصباح بابتسامة، ويغادر إلى البيت بابتسامة وقلب أبيض وكثير من الحلال…

الطفل سلطان أصبح صديقا لي فلقائي به يكاد يكون يوميا، فهو يسعى لكسب رزقه عند الشارة الضوئية المقابلة للجامعة حيث أدرُس، وعند خروجي من الجامعة في كل مرة ووقوفي عند الشارة الضوئية في انتظار مرور سيارة أجرة، أو من يوصلني في طريقه، كان سلطان يُقبل إليّ مع ابتسامته المعتادة، أحيانا يفشي السلام ويصافحني ثم يذهب، ومرات أخرى يفتح حديثا سريعا ومختصرا عن الدراسة والجامعة والكليات، فهو يطمح بأن يعود لمدرسته ذات يوم، ويكمل تعليمه ويدخل الجامعة ويصبح دكتورا، قالها لي مع الكثير من الآمل وبكل ثقة وفخر:

– حلمي أن أكون دكتور وأعالج كل أطفال السرطان وجرحى الحرب.

لقد أقشعر جسمي لهذه الجملة، وصمت كلانا للحظة، ثم واصل حديثه قائلا:

– لأن أختي الصغيرة مصابة بسرطان وليس هناك من يعالجها، ووالدي مبتورة رجليه بسبب تفجير المسجد القريب منا العام الماضي.

لقد تجمدتُ في مكاني على وقع تلك الكلمات التي نزلت بمسامعي وافاضت بكل ما بداخلي من المشاعر المختلطة ما بين الحزن والأمل والسعادة…

تعلمت من ذلك الطفل الصبر على الشقاء، تعلمت منه الابتسامة رغم الابتلاء، تعلمت منه أن أجمل شيء في هذه الدنيا، هو القناعة والرضى، بلقمة العيش الحلال وإن كانت قليلة، لقد علمني أمورا لم أتعلمها في المدرسة والجامعة… مضى الآن على غايب سلطان عن الشارة الضوئية وعادته في توزيع الابتسامة على سائقي السيارات، ما يقارب العامين، وأوشكت أنا على التخرج من الجامعة… وتستمر عيني تنُبش ببصرها تلك البقعة المقابلة للشارة الضوئية حيث كان يجلس ويستظل سلطان بالأشجار ليستريح من معركة الحياة…

ذات يوم بينما كنتُ واقفاً كالعادة على جانب الطريق عائد من الجامعة، وقفت بجانب الطريق الأيمن حيث أقف شاحنة متوسطة الحجم نوع ميتسوبيشي، وصاح منها طفل قائلا:

– هيا ي مجتهد!

أقبلت إلى الشاحنة، وركبت بالمقعد المحاذي للسائق، وما أن وقع بصري على السائق تفاجأت!! أنه سلطان بائع المناديل والابتسامات، مد يده للمصافحة، مع ابتسامته المعتادة قائلا:

– مرحبا بالمكافح!

فسلمت بكل ود ورددت عليه:

– الكفاح نفسه، في حضرتك يستحي أن يقال عنه كفاحا.

تجاذبنا أطراف الحديث في الطريق… لقد تبدلت أحوال سلطان فمنها كثير إلى الأفضل وأخرى ليست كذلك، منّ الله عليه، فقد وظفه رجل طيب الأصل، في مصنع رخام وأوكل إليه مهام قيادة أحد شاحنات النقل الداخلي، وتحسنت أحواله المادية، ويجني من هذا العمل الكثير من الدنانير الحلال التي تكفيه بأن يعيش في كرامة رفقة أسرته، أخبرني سلطان أنه عاد للمدرسة وهو الآن في الصف الأول ثانوي، وحمل الحديث مع سلطان خبر محزن، مفاده أن أخته المريضة بالسرطان قد وافاها الأجل، وكذلك والده…

أوصلني لمحطة السيارات حيث سأغادر من هناك إلى مدينتي، لوح من بعيد قائلا:

– مع السلامة في أمان الله ورعايته.

وأتجه بشاحنته رفقة ابتسامته والأمل نحو المصنع، يعيد بدأ معركة جديده مع الحياة من آجل أسرته وأخوته وذلك الحلم.

مقالات ذات علاقة

شو قالوا يا عمر حلو وما ذقتك

المشرف العام

من حصاد ذلك الزمان – بزنس

يوسف الشريف

الكهلٌ والمطر

محمد دربي

اترك تعليق