الخميس, 13 مارس 2025
قراءات

نبش الذاكرة

الدكتور عبدالمطلب الوحيشي

كتاب (ذاكرة الميدان) للكاتب والباحث شكري السنكي.
كتاب (ذاكرة الميدان) للكاتب والباحث شكري السنكي.

التاريخ لا ينسى وإن نسيناه، والوقائع والأحداث المفرحة والأليمة تختزنها الذاكرة كتوأمان لا ينفصلان مطلقاً. فلا نسيان يُجدي معها ولا تناسي ينفعها.

والذاكرة قد تكون لك وحدك، ولربما في أحيان تمنحك ملاذاً من الغبطة والسرور، وفي أحايين كثيرة توغر صدرك حنقاً فتنهك النفس وتضنيها.

لكن بعض الذاكرة ملك للكل، إذا كانت سجلاً لرصد الشواهد والوقائع لتاريخ وطن هذا الكل.

ونبش الذاكرة ضرب من ممارسة الحرية. فالذاكرة مستودع لسيادة العقل والفكر. فإن استُحضرت الذاكرة لكشف الظلم والظالمين وتبيان الحيف والجور، كانت أول الخطى في تحقيق هذه الحرية. فما بالك إن تعدّى الاستحضار والنبش إلى التوثيق والتدوين والكتابة لتكون ظاهرة للعيان.

وهذا الذي واظب عليه الأستاذ «شكري السنكي»، وإني أخاله قد نجح في كشف خبايا ذاكرة تاريخ ليبي مؤلم. فالنبش قد أثار ماض كان مدفوناً واستخرج أسراراً وحقائق دأب الجلادون والطغاة على محاولة إخفاءها وطمسها وكتم أنفاس أصحابها.

في «ذاكرة الميدان» ينسج «شكري» على نفس المنوال الذي اختاره في رحلته مع كتابة التاريخ الليبي المعاصر، ويمخر فيها عباب ذاكرة ليبية أخرى مشوبة بكثير من الأسى والألم. ذاكرة تصف وقائع جُرم الطواغيت، وتفضح مكائد الظلمة والمتجبرين، وتكشف مكر الشياطين وخبثهم في وأد حرية الكلمة وحجب الحقائق.

في كتاب من القطع المتوسط، يُجلي «الأستاذ شكري» تفاصيل أعواد المشانق في إعدامات هي الأولى في البلاد بعد استقلاله. حفلات شنق يقيمها قادة الانقلاب تحاكي في بشاعتها مجازر الغزاة الفاشيست.

يُفصِحُ الكتاب عن تأوه القلم وتوجع اليراع في وصف المجزرة التي فجعت بها “بنغازي”. ويكتب «شكري» السطور التي توثق ازهاق الضباع أرواح ثلاثة من أبناءها الخيرين في سابقة لم يعهدها الوطن بأسره. سابقة ينتشي الهمج والرعاع والعبيد فيها بسفح دم الشرفاء والأبرياء.

في شهادات موثقة من شهود عيان، يميط الصديق الأنيق في «ذاكرة الميدان» وكعادته، اللثام عن وجه نظام بائس بغيض، ويذهب في سبر غور سير الشهداء الثلاثة في الصدع بكلمة الحق عند سلطان جائر، ويقضي «شكري» ديناً عن الأمة الليبية بأجمعها كان سيطوق عنقها لا محالة.

 مصارع الطغاة واحدة، وسنة المولى لا تتبدل، وحكم الجبار المنتقم واقع لاريب.. لكن الطغاة لا يقرأون التاريخ الذي يخبرهم قائلاً: 

 «جَــوّعْ كِـلاَبك وأنشُرِ الإمْلاقَ.. وأستنفرِ الهَمَجَ المُنافقَ كلَّما لاحتْ بَوارِقَ من بعيد!

وأنفُث سُمُومَكَ، فالرُعَاعَ من العَبِــيد.. يتكفلُون الؤادَ غِيـلةَ من جديد

فـهُمُ المَطِـيةَ، مادامتْ دَرَاهِمَكَ الخَسِيسَةَ للمخْصِـي والخُنْثَى عَطِـية.

فسيُوقِدون أصابِـعَ العُهِـر شُموعاً قُرمُزية.

وسينغِضُون رؤوسهم، ويُسبِحون خُبْـثَكَ كلَّ صُبحٍ وعَشية.

لكِن تيقن يا رزية.. أن البَـوارِق تمتلي بالغيظِ يوماً بعدَ يوم.

فالسَّحْبُ حُبلى بالصواعق تنتظر وكذا الغيوم! لتحِـيلها طُوفان موسى، سيلاً عرمرمَ والمقَامِعَ من حديد.

تجتث فيه رقابكم وكلابكم وعبيدكم وسينبلج فجراً تليد.

تتكحل الأهْدابُ فيه طلاوةً، وتنتشي مُهجاً وتُوغِل في العناقش».

يمضي الأستاذ «شكري محمد السنكي» مرة أخرى ليهب بعد جهد مضني المكتبة الليبية كتاباً قيماً آخر، حري بالأجيال المعاصرة والقادمة أن يكون لها دليلاً في قراءة ذاكرة التاريخ الليبي المعاصر والمكذوب عليه، وجديراً بالباحثين أن يلتمسوا نفس الطريق في بيان جرائم الصعاليك والمجرمين.

الإثنين الموافق 2 أكتوبر 2023م

مقالات ذات علاقة

الرواية الليبية… الإنسان والحيوان والطبيعة

المشرف العام

الكلب الذهبي.. أم المسخ الليبي

المشرف العام

قراءة في كتاب «ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي»

محمد الأصفر

اترك تعليق