من تجربتي مع السرطان
صفاء أبو خضرة (الأردنّ)
-1-
أتدري ماذا يعني ألّا أكتُب؟ هكذا، بلا اندفاع وبلا رغبة، دونَ أن أغزلَ الكلمات التي تتصارعُ في مُخيّلتي؟
هل تعتقد أنّكَ في لحظةٍ ما قد انتصرتَ عليّ؟ على ذهني المغموس بأحلام كونيّة، كلا. لن تجرؤ حتّى على ذلك..
كانَ عليكَ أن تعرف أنني أعرفُ أنّكَ هُناك، في تلك الزاويةِ الأقرب إلى قلبي، وقلبي معقلٌ مُسوّرٌ بإحكام، لا تقتَفي أثرهُ أجراسُ الخوف، ولا ترنّ فيهِ أنّاتُ الوهم..
كنتُ أعرفُ أنّكَ تَتجسّسُ على أحلامي، تخرجُ إليّ مثل كوابيسَ مُحمّلةٍ بالموت، وكنتُ كالريحِ أرفعُ قدماً على قدمٍ أُدخنُ الغيمَ ولا أكترثُ للعدم، أنتَ العدم، وأنا فراشةٌ شقيّةٌ وقعَ في غرامها اللهبُ ما إن غبّتْ لسعةً حتى ذابَ في رماده.
أنتَ العدم، والحياةُ دُميتي الحالِمة.
كنتُ خارجي عندما اقتحمتَ صدري ونمتَ فيه كأفعى تدسُّ السُّمَّ رُويداً رويدا، عدوي الذي ربضَ فيَّ، وظلَّ خامداً دونَ أن تظهرَ له أيُّ ملامح، أعرفُ نواياك، أردتَ أن تُرديني مرةً واحدة، لم تكن تعرف أنّ الجبناءَ وحدهم يسقطونَ دُفعةً واحدة ، لذلك بقيتُ خارجي، لتفسير ما لا يُفسر، ومعرفةِ ما لا يُعرف، وقوفاً أمام سُمِّكَ لتخرُجَ إليّ، نتصارع في ساحةٍ غامضةٍ كندّينِ مُتكافئين، أنتَ بِسُمِّكَ، وأنا بحُبي للحياة.
أنزعُ الليلَ عني وأستيقظُ فجأة، أراكَ أمامي، بلؤم المُفترسِ للطّريدة تنظرُ إلى أنوثتي، تريدُ انتزاعَ كلّ شيء، كلّ شيءٍ أُحبُّ فيَّ، شعري الذي وَهبَتني إياهُ الشمسَ، رُموشي التي قضّتْ مضجعَ الحالمين، بشرتي الصافيةِ إلا من رُتوشَ شمسيّة كأنّها حروف كنعانية، أظافري التي خدشتْ آلامَ الواقفينَ على عتباتِ الحُب، خُطواتي التي دكّتِ الأرضَ بكعبِها العالي، وجُموحي الذي ما إن دقَّ الحبُّ بابَهُ صهلتْ ريحٌ أنّى إليك.
وأكذبُ عليّ: لن تنالَ مني. ونلتْ.
الوجعُ يُفكّر، وجسدي يُصغي، وروحي تشقُّ طريقها إلى البراري السّماوية بعدما هَمَستْ لي بأنّكَ أبشع شخصيةٍ ابتكرتُها.
مشرطُ الطبيب الذي حكَّ خاصرتكَ وسَحَبكَ من جلدي همسَ بذلك أيضاً..
وعشّشتَ فيَّ دونَ إذن، فمن أين أتيت؟ وكيفَ دخلتَ مكمناً آمناً، وكيفَ عبرتَ سماواتي ونِمتْ؟
صنعتَ فِراشاً من أنسجتي وشراييني، واخترتَ مكاناً أكثر عمقاً من بئرٍ يدفنُ فيها الخائفونَ خوفهم، كيف؟
واخترتُ أن أكونَ ندّكَ، فعدوُّ جسدي عدوي.
وأصحو واحدةً أخرى، كأنني اثنتانِ في جسد، أنظرُ فتنبذُني مرآتي، من أنتِ؟ ألستِ أنا، كلا، تُشبهينَ امرأةً فقدتْ ملامحها في الحرب. أيُّ حرب؟ حرب كانت بين ندّينِ مُتكافئين.. تقولُ ساخرة..
أنظرُ إليكَ وأعرفُ ماذا فعلتَ حتى نَبذتني مرآتي وألقتْ بي خارجَها..
كانَ عليّ أن أكتب، كي أموتَ واقفةً إن انتصرتَ عليّ.
-2-
حينَ تجرِفنا الحياةُ بعيداً عنّا، نحتاجُ صفعةً قويّةً لننتبه.
وحين نفقدُ رغبَتنا في السّعي، نحتاجُ إلى خسارة لنصحو.
رُبما كنتُ بحاجة إليك، إلى سُمّكَ القاتل، لأنتبهَ إليّ، لطالما نسيتُني في خضمِّ معاركي الكثيرة، لتُذكّرني بالطفلةِ التي وقفت طويلاً على عتبات الحلمِ صارخةً في وجهِ المستحيل “سأكون يوماً ما أريد”، وحرثتُ بقدميّ وحلَ الحظّ لأنجو، لا من الموت، بل من الحياة.
وخرجتُ إليكَ بكُلّ ما أوتيتُ من فضيلةٍ وغضب، ركنتُ كتباً كثيرةً كنتُ على وشكِ الانقضاض عليها، خبّأتُ أوراقي وملاحظاتي على روايتي القادمةِ التي وُلدتْ محضَ افتراءٍ على النسيان، وكتبتُ وصيةً لإرسالها إلى أصدقائي إنْ حدثَ ولم أنجُ منكَ، عرفتُ لحظَتَها كم أنّ الحياةَ باليةٌ وعاريةٌ طيلةَ الوقت، لكننا في حضرةِ تُخمَتِنا بالهُموم والمسؤوليات لم نَرَها كذلك، ورُبّما نعرفُ ذلكَ ونغضُّ الطرفَ لأننا مثلَها تماماً.
أمامَ غرفة العمليات قررتُ أن أُعطّلَ حواسي، أن آخُذَ قسطاً من الحبّ والراحة، أجربَ الموتَ الذي لم يعُد منهُ أحد ويُخبرنا ما الذي يحدُث هُناك، وأخبرتُ الطبيبَ أنني غير مسؤولة عن أيّ ألفاظَ قد تخرج منّي دونَ وعي، كنتُ أودُّ أن أخبرهُ أن يُسجّلَ لي قصيدةً قد تعبُرُني لحظَتها لكنّ إبرةَ المُخدر كانت أسرع من أنْ أفعلَ ذلك.
صوتُ الطبيبِ الذي نادى باسمي ليتأكد من صحوتي، أنبأني بأنني خرجتُ سالمةً من تحتِ مشرطهِ بكاملِ زينتي وجُروحي، خرجتُ خفيفةً لا ظلّ لي، بلا أحلامٍ تعوي في دماغي، تحملُني أكفُّ الريحِ وتلوّحُ لي من بعيد عيون أحببتها تبتسمُ وتبكي.
وهمستُ بقلبي: كم أنتَ لذيذٌ أيُّها الموت!
آب 2021