كانا على متن إحدى الحافلات المنسابة ناحية الفويهات. كان ذلك أثناء شتاء 2007. البلاد في انتظار عاصفة هائلة. عطلت خلالها المدارس، المؤسسات والدوائر الحكومية. أخذتْ الأضواء تنساب بوداعة. الليل الهادئ، الأضواء والموسيقى المروكية مع همهمات الركاب الذين كانوا يتحدثون عن الطقس والأعاصير الوشيكة. تطلع إلى المسن، لم يكن يبتسم. لم يفهم سبب التصميم على هذا الاستجواب. بدا له مرعباً كفاية أن يكون الإنسان واثقاً من رأيه. الفرملة الحائلة، الذقن النابت منحاه مظهر شخص يمتلك تجارب كافية.
“كل ما يجب أن يحدث، يجب أن يحدث”.
“يحزنني أن تحدث مراراً، الأخطاء لا تكف عن الحدوث”.
“هذا تصرف مزاجي، لابد أن تمتلك مزاج فنان كي لا تتأثر مجاناً”.
ضحك المسن.
“تمر عليه الأيام على نحو بالغ الصعوبة”. كتب الشاب هذه الملاحظات ضمن يومياته “حيث يفتقد الرؤية الكاملة للأشياء من حوله، وإلا فالضحكة العادية يجب أن تحتوي على خلفية تاريخية شاملة مليئة بالتفاصيل”.
“ما أعرفه أن التفاصيل تحمل كل الحقائق، لا الحقيقة”. قال الشاب.
“أنت تعرف القليل حتى اللحظة، بوسعي منحك حقيقة واحدة، ستقودك حتماً إلى متاهات لن تقدر على العودة منها”.
“منذ سنوات، أعبر متاهات مماثلة، لا فرق”.
“لا تحاول فهمها مطلقاً، أنت تسعى إلى وضع دقائق تاريخية على ما أعتقد”.
“لا أعرف”.
“عملك يتحدث عن التاريخ، أنت تضع ماو تسي تونغ بجوار آتاتورك، أي شيء يدفعك لفعل هذا غير التاريخ”.
“الفن؟”.
“لكنه يظل تاريخاً”.
“خيال، أعتقد”.
“التاريخ المتخيل فن تاريخي”.
“تجعل من عملي كله تفسيراً فنياً للتاريخ”.
“فانتازيا بدلاً من الاستغراق في وضع لوحة كبيرة عن القادة”.
“إنها ليستْ عن القادة”.
“حسناً هذا الجانب الذي رأيته”.
“أظننني أعمل على أكثر من خمسمائة صورة”.
“معرض كامل”.
“ربما سأحتاج إلى أكبر جدارية في التاريخ”. قال الشاب شبه مازح، لكن المسن علق بجدية: “أرأيت، أنت بنفسك تعود إلى التاريخ”.
“لا تجعل من التاريخ مبرراً”.
“إنه كذلك، أنت تفعل، عن قصد”. فكر بهدوء، كانتْ الحافلة تنعطف ببطء.
“تتمسك حتماً برؤيتك، أنا مختلف جداً، ما أفعله يقترن عادة في ذهني بما سعى إليه بطرس الأكبر مثلاً، إيفان الرهيب في روسيا، الأيقونات الكبرى في الكنائس، ما قدمه رامبرانت، تلك العاطفة الجياشة والموزعة في صور فان غوخ، إنها معقدة، أفتقد السلاسة”.
حك المسن ذقنه ثم قال: “أعتقد إنك تفتقد نفسك”. نظر إليه الشاب، فأضاف المسن: “إنها متاهتك، أظن أنك تتخطاها بكتابة اليوميات”.
“حتى إنني توقفت عن كتابة يومياتي، أظن إنني سأحرق دفاتري الباقية، إنها ليست سوى إعلانات كاذبة وتهم جاهزة، إنها تحبس الروح، لا أظنني قادراً حتى على التحرر بوجودها، اليومات حبس للروح، ألا ترى معي هذه الناحية المعتمة من وجودها؟”.
“أدرك إنها تغدو معقدة بمرور الزمن، منذ وأنت تكتبها؟”.
“منذ زمن طويل، إنها عادة ورثتها عن والدي”.
“مع ذلك، هذه الرغبة لا تمنع وجود شخص يستمع بها”.
“إنها بلادة، غير صادقة على الإطلاق وتقود إلى الأوهام حتى إنني أستمتع بقراءة تاريخ هيرودوث”.
ضحك المسن وقال: “أنت تكره التاريخ فعلاً”.
“أحياناً أحب أن أحاكم التاريخ بلا سبب وبلا منهج، يحق لي هذا، أظنها مادة لاختراع أفضل كذبة”.
“يجب أن تقول هذا لتوينبي”.
“ما كتبه يشابه ما سطره هيرودوث”.
“سمعتُ بأن الفنان يعمل على قتل التاريخ لينتج عملاً يحوي التاريخ بحسب طبعه الشخصي، جيمس جويس فعل هذا، بورخيس فعل هذا على الدوام متكئاً على أسماء مثل ستيفينسون وجورج برنارد شو وبيركلي”.
“تستهويني فكرة القتل في التاريخ”. كانت تستهويه فكرة القتل السياسي في التفاصيل التاريخية، لم يتكلم بوضوح، قبل هذا. كان اعترافاً هائلاً ومجازفة كبيرة أمام مخبر أمني، أن يتحدث عن القتل السياسي، في لحظة سهو. لم تعد الأفكار المهمة غامضة مثلما كانتْ في السابق.
“هل ترى للقتل أهمية؟”.
“إن إدعينا أن ما نفعله هو مجرد حديث، فالقتل بالنسبة لي هو تعبير عن أفكار قصوى حين يتعلق بالعشق مثلاً، أن تكون قادراً على سحق الأعداء الذين يودون أذية من تحب، هذا أمر تنويري على نحو بالغ الجنون”.
“العشق، الجنون، التاريخ والفن، عناصر تفتقد القتل”.
“كما أنها تفتقد عنصراً آخر”. قال الشاب منبها، في حين ظل المسن يحدق فيه منتظراً العنصر المفقود، ابتسم الشاب ثم قال: “الشرارة”.
“أوه نعم، الجزئية المفتعلة في كل قصص التاريخ”.
“لا يُمكن لشيء أن يقع مصادفة”.
“هذه أجواء سياسية”. قال المسن بأستاذية: “أجواء تصاحب عدم الثقة وسوء الطوية، هل تجد في نفسك شيئاً منها؟”.
هز الشاب رأسه موافقاً ولم ينبس بكلمة.
“هل هذا مهم؟”. تساءل المسن.
“لا يتعلق كل هذا بالأهمية”. قال الشاب.
“بماذا يتعلق؟”. سأل المسن.
“بالأفكار ربما، بكون هناك سبب أخلاقي يدفعك للقتل”.
“حماية الدولة؟”. تساءل المسن، فكر الشاب لثوان ثم أجاب: “ربما، لكن ماذا لو نجح المقتول المفترض في تفتيت الدولة”.
“أوه، نعم إنها البهجة القصوى”. بدا المسن متحمساً.
“حقاً؟”. استغرب الشاب هذا.
“إنها أفكار تراو الشعب، إسقاط الدولة”. قال المسن مقللاً من أهمية المسألة وأضاف: “لذا نحن على هذه الحافلات الشعبية، لنسمع المويد منها، أعرف ما تفكر فيه، كل هذا الدوران حول التاريخ والعشق والقتل، أنت تعاني الكثير أيها الشاب، تعاني الكثير”.
“ليس بالقدر المناسب”.
“بتقبلك هذا تبدو مختلفاً”.
“ليس كثيراً، تعلمتُ أن الناس يتقبلون المعاناة لأسباب دينية”.
“تماماً كما يتقبلون القتل لأسباب دينية”.
“أن تقتل بحد يمنحك النظام في المجتمع، أظن أنه من هذه الناحية حتى علماء الأديان يتساهلون مع الحكام. الدين نفسه يمنح هذه الميزة، إن كان يعني بحثاً عن النظام”.
كان الشاب يُفكر على نحو عاصف، مشاعر جياشة، استغرق في التفكير. كتب في يومياته رأيه حيال القيادة السياسية أو الأمزجة الديكتاتورية، فهي تمنح الكثير من القدرات لمعرفة ذوات الآخرين، في حين تلغي إمكانية معرفة الذات. عندها سيكون على “الديكتاتور–الضحية” التفكير في تحقيق الرغبات على أنها وسائل لمعرفة الذات.
في ذهن الشاب ازدحمت صور غير مكتملة عن المسألة، لم يكن يعرف سبب تحول الفن في حياته إلى مضاد دائم للتاريخ والرغبات السياسية، ساحة لتوضيح عدم اعترافه بأحداث وقعتْ فعلاً بحسب الجميع. كان يجهل الكثير مما يدور حوله، لم يكن يمتلك أي مراجع، يجهل أنه يظل يدور حول موضوعات أساسية في حياته، يُدرك ماهيتها أثناء لحظات الصفاء التي لا يتتحقق إلا في كوابيسه كما يسميها بين صفحات يومياته لمجرد إنه لا يفهمها.
هل هذه تعتبر لحظة صفاء؟
“كل شيء متعلق بالرؤية، وأظن أنك تمتلكها”. قال المسن.
“ليس بقدر ما تظن”.
“صورك التي تتحدث عن تحطيم البوارج، سخريتك من القادة، قدرتك على خلق مثل تلك الصورة، تعني أمراً واحداً بالنسبة لي، إنك قادر بالفعل على تحقيق تلك الرؤية الكاملة التي تسعى إليها”.
“مع ذلك لا ينقذني من السجن إلا جلاد سابق”.
“ألا تعقد أن صورك هي التي أخرجتك”. سأل المسن بغضب.
“لا أعتقد أن سبب سجني هو ذاته سبب إطلاق سراحي، كما أنني لا أخشى أن أقتل، كان يجب أن أقتل بدل حسان، كان يجب أن أكون مرتاحاً داخل مقبرة في هذه اللحظات”.
“أو، أيها الشاب، إنني متأسف بالفعل”.
لحظة صمت.
“أظنني أخشى منك”. قال الشاب هذا وقبل أن يجيب المسن. زعق سائق الحافلة بأنها المحطة الأخيرة. نزلا من الحافلة، شاهداها تعبر بهدوء نجو الجانب الآخر من الشارع. العتمة الشفافة كانتْ تكتنف كل شيء.،بحنان بالغ. سارا بهدوء وبلا كلمات. سمعا نباحاً من بعيد، عبور السيارات بسرعة، عبر الشجيرات شاهدا قططاً مجتمعه، وهي تحدق بفضول وحشي.
“قلت لك إنه لا خوف مني”. طاف صوت المسن حوله للحظات، قلت خلالها حركة السيارات.
“ما لا أفهمه هو لماذا تصر على محادثتي”.
“أشعر بأني أرغب في الحديث معك”.
“تظن أنني ضالع في مخطط ضد الدولة”.
“لا، أنت فقط تتحدث عن تفتتيها”.
“تعرف جيداً أنني أعجز إلا عن الحديث، ثم إنه بوسعك فعل ما تشاء، أدرك أن حياتي غدتْ مهددة، لم أعد أحتمل الانتظار، أعرف إنني نقطة حمراء”.
بعد عدة خطوات، قال المسن: “لن على شيء ضدك، أنت لست في خصام شخصي مع أحد، ثم إنني اتلفت كل الملفات المتعلقة بك، تلك التي وضعتْ بسبب أحداث السفارة الإيطالية أو التي وضعتْ قبل ذلك، أنت نقطة بيضاء ضمن فحة بيضاء، لن يلاحقك أحد، لا تقلق”.
“دائماً ما يفعلون”.
“لا لن يفعلون معك”. لم يكن بقادر على تصديق المسن، الذي أضاف: “خوفك غير مبرر”.
“لم يعد يهمني هذا”. قال الشاب.
“لكني يهمني أن ترتاح من ناحيتي”.
حين أشارت إحدى الحافلات بأضوائها الأمامية، أوقفاها واستقلا عائدين إلأى المحطة الرئيسية حيث نزل بصمت ومن دون وداع. استقل حافلة أخرى إلى منطقته السكنية، وأتخذ المسن طريقه مشياً بين المباني، شاهده يغرق في الظلمة، بدا مثل شبح لا مكان له إلا عقله، تساءل إن كان حقيقياً. كانت تلك آخر مرة يُشاهد فيها المسن طوال خمس سنوات أخرى.
المرة الأولى كانتْ مختلفة بعض الشيء.
من رواية (توقف نمو)