أحاول عبثاً نظم رياح الكلمات وضجيجها برأسي، أبحث عن عقد سلس ينظمها موضوعاً ويصيغ معناها بشكل جميل، ولكنني أفشل في مسك حبل الأفكار المبعثرة ما بين عواصف الألم والأمل، فتتطاير الكلمات هرباً من أفق مخيلتي.
أحاول بكل السبل جمع شتاتي، والتركيز على آمالي وطموحاتي، لكن ظلاً لشبحٍ كئيبٍ يحول بيني وبين ضوء المستقبل، فأستسلم لسلام ظلمات تذكرني بما يشبه النوم.
أحاول بجهد أن أتمسك بالحياة، فاستعرض سجل الذكريات ولكن الوهن أصابني والفتور نال مني. أرسل بصري بحثاً عن نجم أستدل به، فيطوف بعيني أمي، أراها تبصرني بشفقة وأسى، فاستحضر ذرات القوى بجسدي وأحاول أن انتصر في معركتي لأجلها بكل ما أحب، ولعلني أتخلص من خصمي بغتة كما باغتني بهجومه.
مر على هذا الحال ما يزيد عن ثلاثة أسابيع، كان أول أسبوع أشدها، كل يوم يمر ينتابني عرض جديد، لازلت أذكر كيف أحسست بشلل مفاجئ أعجزني عن تحريك قدامي، ولم يمهلني الصداع ثواني ريثما أحصر مسببات وأسباب محتملة لما أشعر به. فآثرت استراحة محارب لأستجمع قواي رغم شكوكٍ تداهمني وتضيق دائرتها حول ذاك المتحور الغريب. لم يمضي الكثير حتى قطع ريب شكوكي وابلٌ عوارضٍ غريبة زادت يقيني بهوية خصمي، فتلك الحمى عندما داهمتني لم تترك وراءها عظماً إلا وحاولت صهره، ولم تصمد أمامها خلية إلا وأوشكت الذوبان من شدة الغليان.
بجنون يفور جسمي محاولاً لفظ ذاك الخصم والضيف الثقيل وكأنه بذلك ينتقم من خلاياه التي استقبلته فتؤذيها نوبات جنونه. أما ساقيَّ فيعجزان عن الحركة فيتقلص العضل ليسند عظامه المستغيثة ألماً ولكن الوهن يُفشل محاولاته. ثمَّ أشعر بصقيع يلتهمني رغم النيران المشتعلة بداخلي فألتحف بلحاف ثقيل بحثاً عن دفءٍ وأسكن إلا من زفرات تخرج منغمة في معزوفة متقطعة من التنهيدات. أستكين لبرهة مختبئة تحت لحافي و مقشعرة من غول البرد الذي يريد افتراسي، وبلحافي أيضاً أحاول إخماد اللهيب المتطاير شرره بداخلي، أبقى هكذا حتى أتصبب عرقاً فيسكن الألم و الحر و البرد، تأسرني الحيرة المنكهة بما يشبه طعم السعادة وأتساءل أهذه بشارة الشفاء أم علامة الانتصار على الداء!؟
ومن أثر النشوة باختفاء نوبات الحر والبرد والألم أغط في نوم هادئ لأستيقظ مجددا على فوران بركان الحمى الهائج منذراً بتجدد سمفونية الألم والأنين، ولكن هذه المرة لا أدري كيف وصلت حممه لنسيج كليَتي. فهناك شيء يتآكل بداخلهما ولربما شيء يحاول أكلهما. أنهض من شدة الألم وأمسك بخاصرتي محاولة بشدة إيقاف الإحساس بهما فتجد بعض آهاتي صدى خافتاً خارج أركان جسدي المنهك فتلوذ فراراً وتنتهي وصلة الوجع تلك بتقاطر دمعات سخية لتمتزج بحبيبات العرق المتصبب من على جبيني، أسرتي من حولي وكل فرد منهم يخوض معركة مستقلة ولكن لكل فرد قلق يساوره حول مقدرة البقية على هزيمة الخصم وعلى سبيل التشجيع أُتهم بالاستسلام و يلومونني على ذنب لست فاعله و يعاتبونني على عدم شرب الماء بكميات كافية وقلة التمشي و كأنهم يدفعونني لهزيمة خصمي. فأهب جالسةً وأُغرق كِلْيَتَي بلتر ماء دفعة واحدة ولكن الألم حاضرٌ كما هو. عندها أدرك أن لا مفر من إدمان تعاطي بعض المسكنات. ابتلع شيئا منها بجرعات ماء كثيرة واستند على الحائط لأصل لحديقة المنزل وقد عزمت على السير حتى تصل الدماء المندفعة لتلك الشعلات المتقدة على جوانب خاصرتي فتطفئها، أسير بخطى مترنحة وجسد منهك والوجع يدفعني لأستمر.
تمر الدقائق ببطء وأنا أترنح جيئة وذهاباً تحت شمس الصيف المحرقة فيسكن الألم وينسدل جفناي ليغطيا عيني المرهقتين. فأُسرع لأريح جسدي وإن كنت لا أعرف أي الراحات سأنال، راحة الموت أم استراحة الحياة. وما يريحني ان أحبتي يبلون بلاءً حسناً في حروبهم المستقلة. أما أنا لم يعد بمقدوري الاستمرار في تحمل المواجهة ولهذا أغط في نوم متقطع صخب يعج بكوابيس ومنامات بعضها أضغاث أحلام ولربما هُيئ لي أنها رؤى أو تنبؤات.
ثم أحاول فتح عيني بسرعة لأتخلص من تلك الفوضى الدائرة بمخيلتي وذاك الثقل الجاثم على صدري، أبذل جهداً كي أزحزح جفناي لكنهما لا يطيعاني، أشعر كأن الزمن يأسرني في عالمٍ لا محسوس وأحس أنني مكبلة ولا أستطيع فرارا من وضعي ذاك. استسلم بهدوء وأحاول استكشاف ما أنا فيه، أحافظ على بصري غائبا في ظلمة اللاوعي وأشعل فتيل بصيرتي لأشخص حالتي ومصابي فأدرك أن شيئا ما يسد رئتي ولا أدري ما هو ولكنه لم يكن كنوبات الربو التي اعتدتها منذ طفولتي. فلا صوت صفير ولا وشيش ولا خرير.
أدرك أنني بالكاد أتنفس ويكاد قلبي ينفجر محاولاً أن يستمر في أداء وظيفته رغم ضعفه. حينها فقط تمنيت ألا استيقظ وأحاول أن أنام لعل كابوس ما ألم بي يصل لأي نهاية.
لم أعد أبذل جهداً كي أفتح عيني وأرى من وما حولي. فقط أريد أن أصل لنهاية ما بعد هذا كله وإن كانت غرقا فحتى الغرق قد يكون نجاة. ولكن لكِلْيَتي رأيٌ آخر فالألم الذي ينهشهما جعلني أستفيق من هذياني على سمفونية أخرى من الألم والأنين لأدرك أن ما أنا فيه واقع له تفاصيل سأعايشها بكل فصولها إلى أن يأذن الله أمراً كان مفعولاً.
فاليوم العاشر أصبحت أقرب لعالم الأحياء، بدأت أشعر بتحسن واستشعر الحياة تدب مجدداً في عروقي المتيبسة من شدة التعرق. وفي الأسبوع الذي يليه كانت هجمات غريمي أخف لكنها احتفظت بجنونها وظهورها المفاجئ وتناوبها بين الحرارة والبرودة والألم والوهن وسكرات النوم المفاجئ أما فقدان حاسة الشم كان أقصر درس ٍ تلقيته عن أن الله ما خلق شيئا باطلاً.
لم تكن الأجساد فقط منهكة، كان أثر ذلك ظاهرا بعواقب نفسية جسيمة على كل منا. تلك الآلام الشديدة كانت علامة معركة قاسية مع خصم متوحش، لو كنت تخوض المعركة لوحدك مستفرداً عن البقية ما كنت لتتأذى بنفس القدر ولكن ما يؤلم أكثر أن تدرك قساوة المعركة وتعيشها وترى أحباباً يصارعون ذات الخصم المتوحش في معركة مستقلة وتعايش معاناتهم، كان ذاك أقسى ألم. حينها ستذرف دموعاً وستفقد أعصابك ولن تستطيع صبراً ولربما افتقد، ولن تستطيع صبراً ولربما افتقدت الأمل ومهما حاولت التخفيف عنهم ستحس احيانا بعجزٍ و لن يبقى أمامك سوى الرجوع لمن لا يكشف الضر إلاه.
علي أن اعترف أن لم يكن الحذر ليغني عن قدرٍ ولكن لطف الله كان حاضراً فخفف عنا الضر، رحلة قصيرة مدتها أسابيع أدركنا فيها أن صحة المرء لا تقاس بأي ثمن، وأيقنا اعتيادنا نعمًا ربانية حتى أبخسنا من غير قصد قيمتها وكان زلزال المرض ذاك كفيلا بإحياء ما قد أماته الاعتياد.
حفظكم الله جميعاً وأحبتكم وشفى الله كل مرضانا