المقالة

الأولة آه!

علي فهمي خشيم

(الصورة: عن الشبكة)

الشعوب كلها تغني، والبشر جميعا يطربون للصوت الشادي الجميل بإيقاعه المنغم وجرسه المرسل الممدود، يربح الروح المتعبة ويمسح عن الفؤاد المعنى أساه. وقد يكون الغناء مفرداً يطلقه الصادح الواحد فيستولي على اللباب، وقد يكون جماعياً منسقاً يشترك فيه اكثر من فرد بتناغم يبعث في القلب النشوة، فتنتفض الروح لتحلق بجناحي الغبطة في سماء السعادة والحبور، كما يقول أفلاطون الفيلسوف.

والغناء عند العرب سليقة، ثار طبعا فيهم بحكم الإنسانية، وبحكم طبيعة الحياة الأولى، يوم كان الجمل والعربي رفيقي حل وترحال، وكان (الحداء) وسيلة العربي القديم لتسلية نفسه ورفاقه في جوف الصحراء الموحش، وحث نوقع على مواصلة السفر الطويل، كان الحداء فناً رقيقا نابعا من ندى ليل الصحراء، وامتداد المسافات، ورقرقة سراب الظهيرة، وبزوغ القمر الطالع عند الفق الشرقي اللامتناهي، وسكون الليل الشامل، وحصباء الطريق المنتشرة على طول المدى، وشجيرات الطلح المتناثرة فوق البساط الرملي الصفر.

كان الحداء تعبيراً عن القيم العربية السائدة يومذاك، ونفثاً لما في صدر الحادي، حنيناً للأهل والدار، وشوقاً للأحباب وكسرا لحدة الوحشة المحيطة.

آه!!

ولبث العرب يغنون على مدى القرون.

قاعات الخلافة في دمشق وبغداد، ومجالس الأمراء في غرناطة وفاس والمهدية وطرابلس. وساعات الطرب في القاهرة والكوفة والبصرة وحلب. والشعراء يتبعهم الغاوون، صار الغناء طرباً، في المدينة ظهر (المطربون)، عرفت القيان، وأصبح التطريب هو الهدف، يمد السماط، ويدور الساقي، وترصد القوارير، ويتكئ الدن غلى جانب السلطان، وكانت (الغاني) -للأصفهاني- تسجيلا جيا لطبيعة الغناء في تلك العصور؛ أعد.. أعيدي، اعد.. أعيدي. ويمضي الليل تلو الليل تلو الليل، ويمزق الأمراء ثيابهم من شدة الجذب والطرب، ويخلعون على المغنين الخلع السنية، ويحشون أفواه الشعراء المداحين تبراً وزبرجداً وياقوتاً، والشعوب في طرقات المدن المظلمة يقتل بعضه بعضا ويقتات بفضلات المآدب والولائم.

… آه!!

ولبث العرب يغنون.

ظهرت (الموشحات) تفاعلاً بين العاطفة العربية وأوزان الشعر الأندلسي المحلي. وصار (التوشيح) فنا له محبوه ورواده: يا زمان الوصل بالأندلس.. يا ليل يا عين.. يا قمر.. يا حلو الشمائل.

ظهرت (الموالي)، عرفناه اخيرا باسم (الموّال). تعبير من طبقة المسحوقين عن فجائعهم، واختلطت اللغة وفسدت المعاني، وحرفت الكلمات. وصار الناس اكثر رغبة في الغناء والطرب، تنفيسا عن الكظيم المطحون.

… آه!!

ولبث العرب يغنون.

في العصر الحديث عرفنا كبار المطربين بفضل الإذاعات والتسجيلات. انتشرت الأصوات من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر تلعلع بالاهات والزفرات: أنا زعلان.. زعلان ليه؟ يا سيدي أمرك.. أمرك يا سيدي، أنا حيران.. مسكين وحالي عدم.

مطرب الملوك والأمراء (تحول أخيرا بالمناسبة إلى: فنان الشعب!). كوكب الشرق، سيدة الغناء العربي، سفيرة النجوم، سلطانة الطرب، رئيس ومدير عام شاويشية الطرب العمومي.

… آه!!

وانظر إلى ماذا يغني العرب.

في مصر عرف (الموال)، نسبة إلى الموالي، طبقة المسحوقين التعساء. في ليبيا: (يا عيني يا داي). يا دائي، أيها الداء الذي لا يبرأ. أيها الرمد الأبدي السرمدي.

في الشام: (أووف)، تعبير كامل عن القرف والسخط والتململ. واشترك العرب جميعاً، بدون استثناء، في نداء الليل والعين: يا ليل.. يا عين.. يا ليل.. يا عين.

واشترك العرب جميعاً أيضا في هذه الزفرة الحري تخرج من الصدر أقوى ما تكون، يمدها احدهم ويطيلها ويمططها حتى تكاد روجه تخرج في نهايتها من بين جنبيه.. آه!!

آه على سرك الرهيب.

آه وآه ثم آه وآهة.

وبهذه (الآه) تميز العرب عن الشعوب كلها في الغناء.

هم وحدهم، دون غيرهم فيما أعلم الذين يطلقون الآه في موطن الطرب والنشوة. وحدهم يتنهدون في مجال الفرحة والحبور. وحدهم يتأهبون ساعة الغبطة التي قال أفلاطون الفيلسوف إن الروح تنتفض فيها لتحلق بجانحين في سماء السعادة.

والأولة… آه!!

__________________________

– علي فهمي خشيم (مر السحاب)، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان – طرابلس، ط 1، أكتوبر 1984. سلسلة: كتاب الشعب – 82.

مقالات ذات علاقة

الزهايمر والكُتّاب – الجزء الثاني

محمد قصيبات

الراكبون على أكتاف الموتى

المشرف العام

الفاشية والأوليغارشية وجهان للدكتاتورية

علي بوخريص

اترك تعليق