حكايات وذكريات: سيرة قلم 17
في اليوم التالي استلمت مقررات الصف الثاني الثانوي من التعليم الديني.. وتصفحت الكتب المقررة التي يغلب عليها اللون الأصفر.. وكان من بينها (بلغة السالك إلى مذهب الإمام مالك.. والتحفة الشنشورية في علم الميراث.. وشرح ابن عقيل في النحو.. والمنهاج الواضح في البلاغة.. وتفسير النسفي للقرآن الكريم.. والسلم في علم المنطق.. وشرح الورقات في علم أصول الفقه.. وشرح الحديث) وغيرها من الكتب الغريبة علي في ذلك الوقت.
في ذلك اليوم الذي استلمت فيه المقرر المشار إليه.. ظللت إلى ساعة متأخرة أطالع تلك الكتب متنقلا من كتاب إلى آخر.. وقد خيل إلي أنه منهج صعب جدا.. وفي ذاكرتي تتردد عبارة السيد عبد السلام الوسيع يرحمه الله: (أنا أخاف عليه من الفشل).
ذهبت إلى فراشي وقد عقدت العزم على إعادة الكتب إلى المعهد والعودة إلى بنغازي.. كنت بالفعل خائفا من الفشل.. وقد تأكد لي بعد مطالعتي للكتب المقررة.. صحة وجهة نظر السيد عبد السلام.
قلت لنفسي وأنا أغالب النوم: فرطت في عملي وسيارتي.. وتركت أهلي ومدينتي.. وأعود في النهاية وبعد طول غياب راسبا وفاشلا.
رؤية منامية:
في تلك الليلة أيضا.. وبوحي من هذه الهواجس التي كانت تضطرم بداخلي.. رأيت فيما يرى النائم رؤية مباركة طيبة.. كانت كما يقال كفلق الصبح ولا تزال بوضوحها وشخوصها نقية صافية.. كأنني أراها اليوم رأي العين.
رأيت في المنام.. كأنني وستة آخرين نقف بأحد الفصول المدرسية.. وعلى السبورة التي أمامنا، وضعت خريطة كروية للعالم.. كان الستة الذين معي قد انقسموا بين فريقين.. يختصمون حول زلزال قيل إنه سيضرب الكرة الأرضية.
أحد الفريقين يقول: بأن الزلزال سيصيب هذا الجانب ويشير إلى الخريطة.. والآخر يعارضه بشدة ويقول: بل سيصيب هذا الجانب.. واحتد النقاش بين الفريقين.. وكنت طرفا محايدا.. أقف صامتا أسمع وأرى.. ولم يكن لي دور يذكر.
فجأة سمعت من يقول: مهلا يا جماعة.. لماذا لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهدأت حدة النقاش.. وسكت الجميع.. ونزلوا عند رأيه.. واستدرنا إلى الخلف.. فرأيت رجلا يضطجع على سرير من خشب.. يرتفع عن الأرض قليلا.. ومغطى بغطاء إلى نصف صدره.. وبجانبه يجلس رجل أسمر البشرة متربعا.. (كأنه بلال أو هكذا خيل لي).. كان يطرق بنظراته إلى الأرض، وتتحرك شفتاه.. وكأنه يقرأ في سره.
قال أحدهم.. انتظروا قليلا.. ها هو الوحي يتنزل الآن على رسول الله.. سيخبرنا عن الزلازل بعد أن يكتمل نزول الوحي.. وعم السكون المكان.. وسكت الجميع في انتظار اكتمال نزول الوحي.
في تلك اللحظة بالذات.. تذكرت أنني قرأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ينزل عليه الوحي.. يصاب بقشعريرة ويتفصد جبينه عرقا.. فتوجهت ببصري إلى وجهه الشريف.. فرأيت جبهته تتلألأ من أثر العرق الذي يتصبب منه.
وحدثت نفسي قائلا: نعم إن الوحي ليتنزل عليه الآن.. وها هو الرجل الأسمر يتابع آيات القرآن الكريم.. والدليل أن شفتيه تتحركان بفعل القراءة.. وقفت صامتا ومنتظرا مع بقية المنتظرين.. ولف المكان سكون مهيب.
فجأة ووسط ذاك السكون.. انطلق صوت المؤذن في المسجد المجاور.. مناديا لصلاة الفجر:: (الله أكبر.. الله أكبر…).. فاستيقظت على صوته.. استيقظت وأنا اشعر بسعادة غامرة، لم أشعر بها قط في حياتي.. فاستبشرت بتلك الرؤية خيرا.. وتخلصت من كل الهواجس المثبطة.. استبشرت خيرا وتوكلت على الله.. وعقدت العزم على مواصلة دراستي.. وبلا تردد.
ولم تكن الدراسة صعبة كما تصورت.. كان أصعب شيء بالنسبة لي.. هو حفظ حزبين من القرآن الكريم.. في كل سنة عن ظهر قلب.. وكتابتهما في الامتحان بالتشكيل.. نعم.. ذلك كان أصعب شيء بالنسبة.. لأن ملكة الحفظ عندي كانت ولاتزال.. ضعيفة جدا.