عائدة الكبتي
هذه صورة لأجمل سينما رأيتها في حياتي تقع بين شارعي الاستقلال و24 ديسمبر بطرابلس، سينما صيفية مفتوحة يستطيع السكان الذين يسكنون أمامها مشاهدة الافلام المعروضة مجانا، ومع ذلك فهي دائما ممتلئة بالمتفرجين، سينما “لارينا جاردينا” (أحالها القذافي الى محطة لوقوف السيارات!).
كنت وأنا صغيرة اعتقد ان الممثلين يختفون خلف الشاشة الفضية الكبيرة فنقوم بالبحث عنهم صباحا ، أمام تلك السينما وبداية زنقة “حسونه باشا” التي كنت أسكنها وعائلتي يقف بائع بطيخ (دلاع) وكان من النوع الكبير حجما، يغلب على داخلهُ شدة الاحمرار دلالة النضج وحلاوة الطعم، وبذوره شديدة السواد، عادة ما يتم بيعهُ بالكيلو، أو مقطعا حسب طلب المشترين (يسمى شعبيا: ابراجا)، أتذكر أن امي – رحمها الله – تقوم بغسل البذور، ووضع القليل من الملح عليها وتجفيفها وتحميصها، ثم حفظها في (فازوات) اي برطمانات حيث يقع وضعها في صحن أثناء تسامرنا العائلي لنتسلى بها قضما في سهرات ليالي الشتاء الباردة، كذلك فعلت مع بذور الشمام (القلعاوي).
بيت عربي أقامت عائلتي وسكنت، وهو عبارة عن دورين وصالة (وسط حوش) من الطراز التقليدي حيث لا سقف (مفتوح من اعلي للتهوئة)، حجرات النوم في الدور الثاني، وحجرات الاستقبال في الدور الاول، ولا اتذكر عدد الحجرات لصغر سني وقتها فقط، لكني اتذكر الجيران الذين كانوا خليطا من العرب واليهود والطليان، قُبالتنا سكنت عائلة الفساطوي الذين لم أعرف انهم من الجبل (جبالية أمازيغ) الا الان بعد خروج هذه النزعة الجديدة، انت من وين؟
ولانهم لم يتحدثوا امامنا بلهجتهم أبدا حرصا منهم علي اللحمة الوطنية، ايضا عائلة الحاج العكرمي الزمرلي الذي لم يكن لديه ابناء، و عائلة بريون بمحاذاة بيتنا، وكانت ابنتهم أسيا في مقاربة لسني تقريبا، وفي نهاية الشارع عائلتي المنتصر والبدري، وفي زنقتنا وأمام منزلنا أيضا منزل من دورين الدور الاول يسكنه “النونو والنونا” أي الجد والجدة كما كان يناديهم احفادهم، وكنا نناديهم كذلك، الا انني كرهتُ “النونو” الذي كان يُحضر الدجاج ويضعه علي حجره، ويقوم بلوي رقبة الدجاجة حتي تختنق! كم استشعرت وتخيلت أن تلك الدجاجة المسكينة تتألم وتصرخ بين يديه القاسيتين، ومن طرائقه أيضا أن يضع الدجاجة في الدرج ويقفل الدرج علي رقبتها، وما اكثر ما كان مُحبا لأكل الدجاج حتي جعلني اكره تناوله لانني اتذكر تلك الصورة الاليمة، كانت هذه العائلة التي كنا ملزمين بالمرور فهم بالدور الأول وإلزاما كنا سنمر بهم ونرصد تلك المشاهد!، وفي الدور الثاني كانت تسكن عائلة السنيور ديدو وزوجته السنيورة روزا، واختهُ فيتوريا وابنهم راولينو وهم من اليهود، اما السنيور ديدوريعتبر من احسن التارزيات في طرابلس ومحله بالقرب من سكنه وهو يقوم بخياطة البدل لوالدي -رحمه الله- وتبعث له والدتي بأحد “تايراتها” او بدلها ليفصل لها واحدا مثله بدون بروفة او اخذ مقاس كانوا جيراننا ولهم طقوسهم ومناسباتهم منها “يوم الشبات” اي السبت لايقربون الكهرباء ولا النار بل يطلبون منا ذلك، وكم كنا نتدلل حتي نذهب ونُشعل لهم الضوء، وعندما يعطونني المكافأة وكانت الحلوى، أعاجل بتركها لهم علي السّلم، فقد شاعت مفاهيم بين السكان ووصلت الى أسماعنا أطفالا، أنهم يؤذون الكتابيين وأننا يجب أن لا نمنحهم كامل الثقة !، وكم كانت السيدة روزا تبكي وتشتكي لوالدتي صدى تلك التعليقات، وأنها تعتبرنا كأولادها، ما جعل والدتي تبادر بنصحي مراعاة لمشاعرهم ان ارمي مكافأتهم لي بعيدا عن أعيونهم.
فرحتي الكبرى كانت بعيد يسمي “عيد الجريد”، يقومون فيه بجلب جريد النخل ليصنعوا منه خيمة او (براكة)، ما جعله لعبتنا التي ندور حولها أونختبيء عندها. ايضا فرحنا بالنتالي أو راس السنه كان احد الجيران وزوجته من كبار السن، ولم يكن عندهم اولاد، ويملكون مكتبة، وبهذه المناسبة يُحضرون لنا أقلام الالوان، والمجلات، والقصص التي عندما نتصفحها تبزغ لنا مُجسمة بارزة نتحسسها بأصابعنا، وكنا نعتبرها (وقتها) قمة التطور بما يضاهي عمل التكنولوجيا في يومنا هذا.
كانت فرحتنا كأطفال وذات الخصوصية عندما تاتي “حني حليمة العالم” جدتي (ام والدي) وهي المرأة الصماء (لا تسمع) ولم تدخل المدارس، ولكنها ذات مخيلة ثرية آسرة، تحكي لنا اجمل الحكايا، كما لو أنها حكايات ألف ليلة وليلة إذ تستمر حكاياها اسابيعا متلاحقة، ولا ادري هل هي واسعة الخيال الي هذا الحد أم أنها تحفظ كل تلك الحكايا عن ظهر قلب…، ما أحلي تلك الليالي، هكذا ونحن نفترش الارض في مُستراح الدور الثاني، بعد عشاءٍ خفيف مكون من خبز ودلاع او خبز وعنب، ومنتهي الرفاهية والبذخ ان تضاف بعض قطع الجبن لذلك.. بعدها نسترخي ونلتحف السماء التي تزينها النجوم ونتخيل السحب شخوصا ومناظر، بل ونحيل كل شخوص حكاياتها الى كائنات من لحم ودم، توجه كلامها إلينا، تفرح، وتحزن، تضحك وتغضب ووو…
كم كانت حياتنا جميلة وبسيطة وسهلة، لم يكن الشتاء قارصا ولا الصيف شديد الحرارة زمن جميل بكل مافيه من براءة ورضى بالقليل، والعطاء، والتالف، كنا كالاسرة الواحدة بيوتنا متراصة بجانب بعضها، عدا الايطاليين الذين يتعاملون معنا بصفة المستعمر، كما ما شاهدته من اطفالهم كانوا يتعالون علينا، وكم كان يغضبني ما يصل أذني، عندما يسبون العرب ويقولون: “اراباتشي ماليديتو” فأتحول وأنا الطفلة الهادئة الطيبة الي نمرة شرسة، ارفع يدي لاضرب من يقول ذلك، والطريف انهم يسرعون بالشكوى لأهلهم فيستبعدون أن ذلك التصرف بدر مني!!
تحياتي لكم والى لقاء اخر في خربشات من الماضي.
___________________
عن موقع ليبيا المستقبل