حكايات وذكريات: سيرة قلم 20
ممن تعرفت عليهم أثناء دراستي بالبيضاء.. الشيخ سالم جابر.. كان وقتها طالبا بمعهد القراءات.. الذي يقع بجانب المعهد الديني الذي أدرس فيه.. وكان يجمعنا القسم الداخلي المخصص لطلاب ثلاثة معاهد هي: المعهد الديني ومعهد القراءات ومعهد المعلمين.
كنا نلتقي بالقسم الداخلي دائما صباحا ومساءً ونتسامر ليلا.. وكان أكثر ما شدني إلى الشيخ سالم.. روحه المرحة ودماثة خلقه وحبه للكتب وشغفه بالقراءة.. كنا نتبادل الكتب معا.. ومن أهم الكتب التي أهداها لي كتاب الأديب مصطفى صادق الرافعي: من وحي القلم (ثلاث مجلدات).. ولا أزال أحتفظ به في مكتبتي.
لكن أكثر شيء وطد العلاقة بيننا.. هو ذلك الوقت الذي خصصناه للقراءة الحرة.. كنا نقرأ فيه كتابا نختاره بعناية ونقتسم خلاله الوقت مناصفة.. على أن يقرأ أحدنا فقرة من الكتاب.. والآخر يتولى عملية الشرح والتحليل.
كان بحق قارئا جيدا.. وذا صوت جهوري وعذب.. ويتقن نطق كلمات العربية ومخارج حروفها على أحسن وجه.. ولم يكن هذا رأيي وحسب.. فقد تأكدت من ذلك فيما بعد.. حينما فاز في مجال القراءة الحرة بالترتيب الأول.. خلال المسابقة التي أعلنت عنها وزارة التعليم لطلاب الثانويات على مستوى البلاد وفي مجالات متعددة.. وكان ممن رافقني في رحلة أسبانيا تكريما للفائزين.. كما أشرت آنفا.
وبعد دخولي للجامعة كنا نتزاور قليلا ولا نلتقي كثيرا.. وبعد تخرجي وانتقالي للعمل برأس لانوف.. لم نعد نلتقي.. إلا لماما وفي المناسبات النادرة جدا.. واحدى هذه المناسبات هي ما دعاني إليها الأستاذ/ عبد الرحمن العريبي.. لحضور محاضرة يلقيها الشيخ بجمعية الكفيف.. في أمسية رمضانية طيبة بمناسبة ليلة القدر.. فحضرت خصيصا لأسلم عليه.. فاستقبلني بابتسامته المعهودة وسلم علي بحرارة.. وقال مازحا كعادته: بعد المحاضرة ستذهب معي (لتتسحر بازين).. وخاطب الحاضرين الذين استغربوا حرارة اللقاء بقوله: هذا الصديق تربطني به علاقة قديمة جدا.
ودارت الأيام للأسف الشديد:
دارت الأيام.. وجاءت بما لا تشتهى نفوس الأصدقاء.. وانقلب الشيخ على عقبيه.. وتغير سالم جابر الذي أعرفه جيدا وأكن له كل تقدير وإحترام.. تغير بعد تلك الأحداث الجسام التي عصفت ببلادنا مؤخرا.. وتغيرت أنا أيضا.. فلم أعد أحمل له نفس تلك المشاعر الطيبة التي كنت أشعر بها تجاهه.. خاصة بعدما سمعته وهو يقول عن أهلنا وأهله الذين عاش بينهم وترعرع معهم وتعلم في ديارهم.. سمعته يقول عنهم كلاما لا يليق به وبمكانته بينهم.. ويصفهم (برعاة الغنم).
ربما نسي الشيخ سالم – للأسف الشديد – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه كان راعيا للغنم.. وأن والده أيضا عندما قدم إلى برقة فقيرا معدما.. امتهن حرفة الرعي على أحد شيوخ قبيلة العشيبات في منطقة المقرون.. وقبل أن ينتقل إلى بنغازي ويعمل بها.. حتى تمكن ــ بعدما تحسنت ظروفه.. من افتتاح محل صغير بالفندق البلدي زرته صحبة الشيخ ذات يوم.. وهذا ليس عيبا ولا انتقاصا من قدره.. فالأعمال الشريفة ، شرف في حد ذاتها.
تحية طيبة مني إلى شيخنا الجحود.. الذي غيرته الأيام.. فرمي القلوب الطيبة التي أحبته.. وتعلقت به ذات يوم بحجر قاس جدا.. ومضى بعيدا عنها ولم يعقب.