قصة

الانتباه

(المدينة القديمة) من أعمال التشكيلي الليبي عبدالجواد المغربي
(المدينة القديمة) من أعمال التشكيلي الليبي عبدالجواد المغربي

لقد تأكد لي أن ذلك يحدث كل يوم،

أعني لم أنتبه ولم ألحظ أي شيء إلا بعد فترة من الزمن،

أحرقني الفضول تماما، وشدّني حب الاستطلاع لمعرفة ما يدور.

..

ما الذي يحدث مع هذا الرجل، وماذا يراقب تماما، ولماذا، أو لمصلحة من؟!

هل يتبع جهازا أمنيا، أم عصابة ما تخطط لسرقة أو اختطاف أو حتى تفجير؟!

هل أذهب بعيدا في تخميناتي، أم أتوقف عند هذا الحد وأشرع مباشرة في الاكتشاف؟!

*   *   *

بعد عدة أيام، بدأت فعلا في المراقبة والاستكشاف بمفردي وبدون علم أحد، عند الذهاب إلى مقر العمل في الصباح الباكر، أو العودة الروتينية ظهرا إلى البيت، أو في فترات التسوق العشوائية من المحلات القريبة، أو حتى إثناء التجوال الحر في الشارع العام.

*   *   *

من هناك،

من الزاوية التي لا مفر من الاعتراف بأنه أختارها بعناية، يبدأ في ترصّد المارّة بفضول وشغف شديدين، من أول امتداد الشارع حتى نهايته التي تبدوا من موقعه، بعيدة ويصعب رصدها بسهولة.

كانت تلك هي أولى ملاحظاتي على سلوكه المريب، الذي لم أشعر تجاهه بأي راحة أو اطمئنان، مما زادني إصرارا على المضي قدما فيما شرعت في تنفيذه والعمل على تحقيقه.

*   *   *

تلك الزاوية المريبة،

يأتي إليها بهدوء وحذر، متلمسا الحوائط وكأنه يريد التأكد من وجودها بالدليل المادي الملموس والمحسوس، وعندما يصل إلى نقطة ما يتوقف عن المسير واللمس والتحسس، يلقي نظرة أمامه وعلى الجانبين، ويخرج من جرابه قطعة قماش، يفرشها في موقعه تحت الجدار كالعادة، ثم يتكأ بظهره ويتزحلق بهدوء إلى أسفل، ناشرا ذراعيه على الجانبين، وكأنه يحاول إبعاد شيء ما، أو إسناد الجدار خلفه مخافة أن ينهار فوقه.

*   *   *

يشرع على الفور في متابعة سير المارة بحذر واحتراس، وينتبه لكل عابر بصبر وتأهّب وبلا كلل، يترصّد كل حركة غافلة أو التفاتة تلقائية، تجاه واجهات المحلات التجارية المتجاورة على امتداد الشارع، وعلى أطراف الأرصفة العريضة، حيث تتزاحم وتتلاحم الأقواس بالأكشاك وبطاولات العرض، ويرتفع زعيق الأغاني وصراخ الباعة وضجيج الأطفال وهم يتعابثون في مرح ويتشابكون بزهو ويلاحق بعضهم البعض في استماتة طفولية مبهجة.

*   *   *

هذا الدأب و الإصرار على فعل نفس الأمر كل يوم، الذي حيّرني كثيرا وأخذ حيزا عريضا من تفكيري و اهتمامي، بدون أن اتمكن من التخلص منه، لم يكن فعلا طبيعيا بأي حال، بل كثيرا ما يكون مصحوبا بتصرفات غريبة، و خارجة عن المألوف، فإذا كان النظر إلى الناس و متابعة حركتهم، يقتضي عادة الكثير من الحذر و الحرص، و عدم لفت الانظار بأي شكل كان، فإنه يمضي إلى أبعد من ذلك في متابعته المستميتة تلك، حيث عادة ما يميل برأسه باتجاه أي أصوات تتناهى إليه مهما كانت خافتة، و يفعل ذلك أيضا و هو يتابع المارّة عندما يبتعدون مسافة، و يخفت ما كان يصدر عنهم من أصوات، حتى إن كانت وقع الأقدام وهي تتلاشى و تبدو بعيدة عنه من زاويته تلك، و هو يستمر في متابعة المارّين بطريقته تلك وكأن لا أحد في الشارع إلا هو ومن يراقبهم من زاويته تلك، مع تكرار حركة الرأس و ميولها في الاتجاهين، و يحدث ذلك دون مراعاة أن أحدا قد يلحظ ذلك و يلفت نظره إلى أن ما يفعله و يقوم به، يعتبر تحرّشا بالناس و عدم احترام لخصوصياتهم في التحرك بدون مراقبة أو تتبّع من أحد.

*   *   *

هذا الفعل اليومي المتكرر، الذي أنا مجبر على ملاحظته ومشاهدته يحدث أمام عيني بكل وضوح، بحكم مروري اليومي من أمامه، للذهاب إلى مقر عملي في الصباح الباكر والعودة ظهرا عند انتهاء ساعات الدوام الرسمي، حيث لا يوجد منفذ آخر بديل، أستطيع من خلاله الوصول إلى مقر العمل أو العودة منه إلى البيت.

لذلك، بعد تفكير وترو، وتقليب الأمر على مختلف الأوجه، قرّرت المواجهة وإنهاء هذا الوضع المتوتر الذي يكاد يفقدني السيطرة على برنامج حياتي اليومي.

*   *   *

لم أعد أستطع الاستمرار، فقررت تفجير الموقف وليحدث ما يحدث، إذ يكفي هذا التوتر المضني وذاك الإرهاق المؤلم، وتجمّع لدي فعلا، إحساسا بأنه لم يعد هناك مفر من المواجهة مهما كانت نتائجها، وهكذا قرّرت جادا الذهاب بالموقف إلى آخر ما يمكن أن يصل إليه.

*   *   *

أجل، لابد من الذهاب إلى الرجل ومواجهته وجها لوجه، وسؤاله بشكل مباشر عما يفعله في هذا المكان، وعما يبحث، ومن يراقب، ولمصلحة من؟!

كل ذلك دفعة واحدة، للتخلص من هذا القيد المقيت الذي بدأت أحس به يلتف حول رقبتي، ويصيبني بالاختناق ويضيّق تنفسي، ويجعل الهلع يرافقني في كل حين !

*   *   *

كنت قد قدّرت و استرسلت في تقديري، أنه في نهاية المطاف و دون استعجال، أن ما سأقوم به تجاه هذا الرجل من مواجهة أو مجابهة و معرفة حقيقة ما يجري، سوف يجعلني أشعر بالارتياح و الراحة، بل و الرضى، و الرمي بثقل هذه الحالة جانبا، و العبور بعد ذلك إلى مرحلة أكثر صفاء، إذ سوف أركن و يركن كل شيء معي إلى الهدوء، بعد معرفة حقيقة ما يجري، و سيمضي تيار الحياة اليومية باتجاه ما تشتهيه النفس القلقة، المتطفّلة، و التي يحرقها الفضول، و يجرّها في كثير من الأحيان إلى الاعتداء على حرية الآخرين و خصوصياتهم و التدخّل في شؤونهم الخاصة، و التي لا تعني أحد غير صاحبها.

إنه صراع النفس الحائرة، التي تعرف إلى ما تقود إليه حالة اللا معرفة واللا ثقة واللا يقين، وإلى ما تبعثه اللحظات السادرة في الثبات من التكرار المقيت، والملل الممزوج بالكآبة، ذلك ما تخلفه عادة، التصرفات التي تفصح عن شذوذها وعدم منطقيتها وتماشيها مع ما يتعارف عليه الناس من سلوك، والتي قد تبدو منطقية عند صاحبها في كثير من الأحيان، وذلك ما لا بد من إجلاءه ومعرفة كنهه وما يدور خلف ظاهره الذي لا ينبئ عن شيء حتى الآن !

*   *   *

استيقظت مبكرا صباح اليوم التالي، لم استعجل الأمر، وتمهّلت في تناول إفطاري وشرب قهوتي وارتداء ملابسي، وتعمّدت مراجعة بعض الأوراق التي تخص العمل ومراجعتها باهتمام مصطنع، وعندما حان موعد تركي للبيت ككل صباح تقريبا، ضممت الأوراق المبعثرة أمامي على طاولة الإفطار، وضعتها في الحقيبة، أقفلتها، أخذتها معي وغادرت البيت واحتضنني الزقاق، كما تعوّد أن يفعل كل صباح !

*   *   *

حثثت الخطى،

لم انتبه كثيرا لما كان يدور في الزقاق على الجانبين،

ركّزت تفكيري على ما سوف أقوم بفعله، وترتيب خطواتي القادمة في القول والتصرّف، بدا لي أمرا جنونيا ما أنا مقبل عليه وما سيحدث بعد قليل، وحاولت بإصرار عجيب وتعنّت لم آلفه من قبل، تجاهل التساؤل الملح والذي يريد إجابة شافية ومقنعة في نفس الوقت، ألا وهو، لماذا أنا بالذات دون غيري، من يجب أن يواجه هذا الموقف، ويعرض نفسه إلى حرج كبير ربما، خاصة إذا تجمع الناس وتجمهر عابرو الزقاق في فضول لابد أنه سيستوقفهم لمعرفة ما يحدث، ولماذا !

*   *   *

عندما وصلت، لم أجد الرجل،

تفحّصت المكان بنظرة شاملة،

لكن لا أحد،

انكسر تفاؤلي السابق بوجوده كالعادة،

لم أيأس، فالرجل لم يتعود على الغياب أو ترك المكان،

ربما يكون في الجوار في مكان ما،

ربما تأخر في القدوم قليلا لظرف طارئ،

فكّرت في التراجع والعودة إلى البيت والانتظار هنا لبعض الوقت، ولا ضير في تأخري عن العمل هذا اليوم، لكنني عدلت عن الفكرة ولم أجد لها مبررا مقنعا وفضّلت عليها الذهاب مباشرة إلى مقر عملي، بانتظار نهاية الدوام التي ستجرني حتما وكالعادة إلى المرور من نفس المكان، وعند إذ سأجده وسأنهي المسألة معه في دقائق وينتهي كل شيء !

*   *   *

عند نهاية الدوام،

لم أتصنّع الاستعجال، بل تمهّلت وأنا أغادر مقر العمل لحين انصراف أغلب الزملاء، حيث انطلقت عائدا إلى البيت، وفي الاتجاه الذي سيقودني إلى المكان المعتاد لتواجد ذلك الرجل الغريب والمحيّر، وللمرة الثاني في نفس اليوم، لم يكن الرجل متواجدا في مكانه ولا في الجوار، رغم البحث والتدقيق معا !

*   *   *

وأنا أقف في المكان حائرا، لا أدري ما سأفعل وما هي الخطوة القادمة،

فكّرت في الأمر مليّا وأنا في حالة من الاندهاش،

تساءلت،

كيف له أن يترك موقعه في هذا اليوم الذي أردت أن أواجهه فيه بالذات،

بل كيف عرف بأنني سأواجهه في هذا اليوم،

أم هي مجرّد صدفة عابثة،

ومن جهة أخرى، وكخيار آخر، تساءلت،

هل حقا ترك مكانه بمحض إرادته،

وهل عرف حقا بقدومي إليه في هذا اليوم،

وإن كان كذلك،

من أخبره، وكيف عرف الذي أخبره، وأنا لم أخبر أحدا قط؟!

*   *   *

وأنا أقلّب الأمر هكذا،

فاجئني أحدهم بالوقوف أمامي تماما، ووجّه إليّ، بدون حتى أن يطلق التحية، سؤالا مباغتا مفاده :

– عما تبحث هنا يا رجل؟!

وأجبته باستسلام كامل، بدا لي غريبا في لحظتها :

– أنني أبحث عن الرجل الذي تعوّد الجلوس يوميا في هذا المكان !

وأضفت بأريحية لم آلفها في نفسي من قبل، وكأن تحقيقا بوليسيا يجرى معي، وكأنني مجبر على الإيضاح، مخافة العقوبة أو التعذيب أو السجن أو أي إجراء مخيف آخر، فقلت له بنفس اللهجة المستسلمة :

– كنت متعودا على رؤيته كل يوم، واليوم لم أجده في مكانه كالمعتاد، هذا كل ما في الأمر، أيها السيّد !

هكذا قلت له، فطأطأ رأسه قليلا، وأشار بيديه متأسّفا وقال وعلامات الأسى بدأت تظاهر على وجهه :

– لقد علمت أن ذلك الرجل نقل إلى المستشفى مساء أمس، لأن سيارة صدمته وهو يسير محاذيا لذلك الرصيف، ولكنني لا أعرف ما حدث له بعد ذلك.

وأشار بيده إلى الرصيف المقابل.

صدمني الخبر، ووجدتني أسأله بحمق وبدون تفكير أو ترو :

– ولكن كيف، ألم ينتبه وهو يسير محاذيا للرصيف؟!

ففاجئني مرة أخرى بإجابة صادمة، لم أكن لأتوقعها قط :

– ماذا، ينتبه، كيف ينتبه، إنه أعمى؟!

*   *   *

وأنا في طريقي، عائدا إلى البيت، فكرت في كلمة واحدة، جاءت ضمن إجابة الرجل المستنكرة، شعرت بها كسكين يخترق جدار الجسد.

فكّرت في كلمة ” ينتبه ” وكيف جاء الرد سريعا، ومفاجئا، وصاعقا :

– ماذا، ينتبه، كيف ينتبه، إنه أعمى؟!..

وللحظة مؤلمة وموجعة تماما،

وخزني سؤال أرعن، عمّن هو الذي لم ينتبه، بل ومن هو الأعمى حقا؟!

..

وكان البيت، على بعد خطوات !


من المجموعة القصصية (مقتطفات من سيرة الوجع) 2006-2008م التي لم تطبع بعد.

مقالات ذات علاقة

رومـــــــــاتـــيــــزم

محمد ناجي

تدريب إجباري

رشاد علوه

الرغيف

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق