قصة

القطوس

من أعمال التشكيلي علي الوكواك
من أعمال التشكيلي علي الوكواك

بينما كان سي عطية جالساً على الكرسي أمام دكان الحاج مسعود وهو يمسك بفنجان قهوته ويتبادل الحديث مع جاره سي علي، نظر إلى الحاج مسعود وقال له:

 – سبحان الله يا حاج..من قال يصير منه ولد سي علي؟

رمقه سي على بنظرة مستنكرة قائلاً:

– من تقصد يا سي عطية؟

ابتسم سي عطية وقال له:

 – ما لك يا حاج زعلان؟ ولدك ولدنا، ومش اليوم نعرف بعضنا، نحن جيران من يوم ما بدأنا البناء سوياً في قطعة الأرض هذه، والقطوس من يومه كان طفلاً مشاغباً، وقد أتعبك كثيراً، ويومك وتاليك المدرسة يطلبوا حضورك بسبب مشاكله..

هل نسيت يا سي على عندما كنت تأتيني دائماً وتشكو لي من ابنك وتقول لي إنك غلبت فيه.بل إننا منذ فترة ليست بعيدة، من حوالي ثلاث سنوات ذهبنا سوياً لزيارته بالسجن، لأنهم قبضوا عليه بتهمة تعاطي المخدرات؟

نظر سي عطية ناحية الحاج مسعود وقال له:

 – أليس ما أقوله صحيحاً يا حاج؟

تظاهر الحاج مسعود بانشغاله ببعض الأمور، وانسل داخل الدكان.توتر الجو بين الجارين؛ سي عطية، وسي علي، ولاذَ كلاهما بالصمت..أخرج سي علي علبة السجائر من جيبه، وأشعل سيجارة وأخذ منها بغيظ نفساً عميقاً: – مش عارف شني نقولك يا حاج، كان تهني روحك خير لك.

وقام سي على من كرسيه منتفضاً وهو يتمتم بصوت مسموع:

 – توا هذا شني بدّيرله؟

خرج الحاج مسعود من دكانه، وتوجه ناحية الحاج عطية، وقال له:

 – يا حاج مالك ومال هالكلام..الله يهديك.–

ولكن ماذا قلت أنا يا حاج…أليس الحقيقة؟ ألم نكن دائما نتحدث عن القطوس وشقاوته بالشارع؟ وحتى سي على نفسه كان متضايقاً من تصرفات ابنه، ويقول دائماً أن هذا الولد أخجلني أمام الجيران بتصرفاته؟  

ماذا أصابكم؟ هكذا تغيرتم وتحاولون تغطية عين الشمس بالغربال؟

ألا يعرف الجميع بأن القطوس كان ولداً مشاغباً، ودائماً يثير المشاكل مع أولاد الجيران؟

ألم تكن أنت نفسك يا حاج مسعود تنصح أبناءك بالابتعاد عنه، وعدم مخالطته خشية عليهم من الانحراف؟

أخذ الحاج مسعود ينظر ذات اليمين وذات الشمال بالشارع، واقترب من سي عطية وقال له بنوع من التحذير:

 – أخفض صوتك يا حاج حتى لا يسمعنا أحد من شباب الشارع!

وقال بصوت خفيض وهو يقرب فمه من اذن الحاج عطية:

 – كلامك صحيح، ولكن كان هذا أيام زمان، ولكن الدنيا تغيرت الآن.القطوس لم يعد القطوس الأول.إنه اليوم زعيم كبير وله نفوذ، وبصراحة هو من يحمي الحي، وحتى شباب الحي معجبون به، وقد شغلهم جميعا معه بالكتيبة.

وبينما كانا يتحدثان أمام الدكان حتى جاء رتل بسيارات تويوتا الدفع الرباعي، ووقفت السيارة السوداء أمام الدكان، ونزل منها القطوس وسلم بكل احترام على الحاج عطية والحاج مسعود، وبابتسامة قال لهما:

 – أنتما شيوخ حينا، وإذا ما احتجتم شيئاً فلا تترددوا في الاتصال بي..إنني أنظر إليكما كنظرتي لأبي، ومكانتكما عندي خاصة، وأنا في خدمتكما.

كان القطوس عند نزوله من السيارة محاطا بمجموعة من الشباب يمتشقون بنادقهم الكلاشنكوف وقد أخذوا يتبادلون الحديث الودي مع الحجاج باعتبارهم من أبناء الحي ومن المعارف.نظر القطوس ناحية أحد مساعديه وقال له:

– يا جموعه! لا تنسَ أن تهتم بالحجاج، وتلبي كل طلباتهم، فهم أهلنا، فقد أكون مشغولاً أحياناً، ولكن عليك متابعة أمورهم، ولا أريد أحداً أن يزعجهم.

تابع الرتل مسيرته، ووقف الحاج عطية والحاج مسعود منبهرين بهذا الرتل المتكون من سيارات الدفع رباعي الجديدة، بعضها مجهز بمدافع على سطحها، ويمتطيها مجموعة من الشباب اليافعين الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرينيات وحتى أصغر من ذلك.

 –هل رأيت يا حاج عطية كيف أن القطوس قد تغير، وها أنت تراه يحترمنا ويقدرنا ويخدم أبناء حيه، فبالله لا تردد ما قلته سابقاً، والحمد لله أنه هو الزعيم الآن..تخيل يا حاج لو لم يكن لدينا القطوس، كيف سيكون حالنا وسط هذه الفوضى وهذا السلاح المنفلت؟ من سيحمينا حينذاك ومن سيشغل أبناءنا؟ ثم يا حاج هل نسيت بأننا ننتمي إلى منطقة شعبية لم يكن لها حول ولا قوة، بل كانت رمزاً للفقر والفوضى والجريمة، وانظر الآن بفضل القطوس كيف صارت منطقة ينظر إليها باحترام، وحتى كبار البلاد يأتون لزيارتها، أقصد لزيارة القطوس! وانظر إلى حالنا الآن، أصبحت من أكثر المناطق في المدينة أمنا، وكل ذلك بفضل القطوس وجماعته.ونظر في عيني الحاج عطية نظرة ملامة قائلاً:

– أليس ما قلته صحيحاً يا حاج عطية؟

ابتسم الحاج عطية وقال معتذرًا:

 – والله معك حق..يظل القطوس أفضل من غيره، وهو ابن الحي، والحق يقال إنه رغم مشاكساته في الماضي، إلا أنه كان شجاعاً ولا يهاب أحداً، وها قد جاءت لحظة الاستفادة من صفاته تلك..

الحقيقة يا حاج فعلاً الدنيا تغيرت، والحمد لله أنه لدينا القطوس، وإلا راحت ليل..القطوس هو سندنا وعزوتنا، وعلينا أن نقف معه.- الحقيقة لقد أخطأت مع جارنا الحاج علي، ولست أدرى كيف لي أن أصلح ذلك الخطأ وأعتذر له؟

ضحك الحاج سعيد وقال له:

– ولا يهمك..سيأتي الحاج علي قريباً إلى الدكان، وسوف أتولى الأمر، ونحن جيران وأصحاب يا حاج..إنها عشرة عمر.استمر الحجاج في حديثهم عن حال الدنيا، وكيف تغيرت، ولا شيء يبقى غير وجه الله.

كان يا ما كان..كما قال الحاج سعيد – عندما تمر من أمامنا الشرطة كنا نصاب بالهلع خشية من الحكومة، أما الآن..فلا شرطة، ولا حكومة..كل حي وحكومته، وايدك وحديدك كما يقولون.وابتسم وقال:

– انظر حال الدنيا اليوم، تلك الأحياء التي كانوا يطلقون عليها الأحياء الراقية، هي اليوم تحت سيطرة أبناء الأحياء الفقيرة.- دنيا لا تبقى على حال؟ – أقول لك شيئا يا حاج عطية…أنا لست ضد أحد، والدنيا أقسام من الله، ولكن الحقيقة إنها دائماً هكذا.–

ماذا تقصد؟ قال الحاج عطية متسائلا؟

– يعني وقت الشدة…الذين يسيطرون على الوضع عادة هم أبناء البسطاء، فهم المحاربون، وهم الجند منذ بداية التاريخ، وعندما تستقر الأمور يستلمها الآخرون.- كلامك صحيح، ولكن يا حاج هؤلاء الآخرون الذين تتحدث عنهم هم هؤلاء الذين كانوا بسطاء…هكذا حال الدنيا.

 كيف؟ تساءل سي سعيد متعجبا.

– هؤلاء البسطاء الذين تتحدث عنهم، بعد أن يستمتعوا بالسلطة وتجري في أيديهم الأموال يصبح مثلهم الأعلى هؤلاء المرموقين، ومن هنا يبنى تحالف قوي…تحالف المال والسلاح، فكلاهما محتاج للآخر لتعزيز نفوذه.–

– والله يا حاج تعجبني تعليقاتك…أنت تفهم في السياسة…منذ زمان كنت تحب قراءة الكتب، وخاصة كتب التاريخ.

ضحك الحاج عطية، ونظر ناحية نهاية الشارع حيث يقف بعض الشباب متأهبين بسلاحهم وقال للحاج سعيد:

– الحقيقة ليس هذا قولي، ولكن قاله ابن خلدون رحمه الله.

بينما كانا منسجمين في حديثهما لاح لهما سي علي في أول الشارع، فاستدعاه الحاج سعيد للمجيء، وعند وصوله سلما عليه، وابتسم الحاج عطية، وقال له:

– سامحني يا سي على لو غلطت معك.

هنا تدخل الحاج سعيد، وقال:

– الحقيقة أن سي عطية تأسف، ولا يريدك أن تزعل منه، فنحن عشرة عمر.وابتسم سي عطية وتابع:

– الحقيقة القطوس ولدنا، وبارك الله فيه إنه يحمي حينا، ويشغّل أبناءنا، وجعل لنا مكانة وهيبة في المدينة.

هنا انطلقت أسارير سي علي وقال له:

 – ألم اقل لك يا حاج أن القطوس ولدكم ويخدمكم، خير من أن يأتي واحد آخر براني ويتعبكم، وأنت ترى حال البلاد وما هي فيه.

ساد الجو الودي بين الجيران الثلاثة، وواصلوا حديثهم عن آخر الأخبار الاجتماعية بالحي، وكيف أن الأمور تحسنت كثيراً بعد عمليات الصيانة التي قامت بها البلدية من إصلاح الطرق، وعمليات التنظيف، وكل ذلك بفضل تدخل القطوس وكتيبته. لحظة.. وانطلقت أصوات أزيز الرصاص، وبدأت جموع الشباب المسلحين يجوبون شوارع الحي ممتشقين بنادقهم، وبعضهم يحمل على كتفيه قذائف أر بي جي. خرج كثير من شباب الحي يستطلعون ما جرى، فقد تعودوا على أصوات إطلاق الرصاص، ولم يعودوا يهابونه مثل السابق، وفي هذه الأثناء مر القطوس بسيارته ومعه رتل من حراسته وطمأن سكان الحي بألا ينزعجوا.. فالأمور تحت السيطرة. جمهورية القطوس صارت جمهورية قوية لها مكانتها، ولابد أن يحسب لها كل حساب عند اقتسام المناصب العليا، وكل طامع في السلطة لابد أن يبني علاقة تفاهم وتحالف مع القطوس حتى يعزز مكانته، ويحافظ على موقعه.

القطوس لم يعد كسابق عهده رجلاً بسيطاً على قد حاله، بل أصبح يملك أجهزة تخدمه، وله أعوان ومستشارين متخصصين يرسمون له الخطط، ويساعدونه في إدارة سلطته. هكذا هو الحال السلطة، عندما تصلها تنفتح أمامك كل الأبواب، وكل الأجهزة مستعدة للتفاني في خدمتك، وأغلب خبراء البلاد سيتقربون منك، وسيكونون سعداء بتقديم كل خبراتهم لك.

مع مرور الزمن تغيرت عادات القطوس السابقة، فلم يعد ذلك الرجل المتواضع الذي تراه يجوب الحي كل الوقت ويتحدث مع الناس بأريحية، بل أصبح من المتعذر مقابلته، فقد أصبح مشغولاً بأمور كبرى تعدت مسؤوليات الحي، فقد لاحظ سكان الحي بأن القطوس لم يعد كما كان مواطناً بسيطاً مثلهم يقابلونه متى شاءوا، ويستمع إلى شكاويهم وطلباتهم، بل أصبح كل ذلك يتم عن طريق أعوانه، وليس معه مباشرة’.بعض سكان الحي انزعجوا من هذا التغيير الذي حدث للفطوس، ولكن مشايخ الحي كانوا خير مدافع عنه وقالوا بأن هذا لا يعد تكبراً كما يزعم البعض، ولكن لأن اهتمامات القطوس كبرت، ومسؤولياته أصبحت مسؤولية البلد بأكملها.

أحد الخبثاء ضحك وقال:

– حتى الزعيم الأول كان هكذا، انشغل علينا باهتماماته الدولية الكبرى.

مقالات ذات علاقة

1969… الجواد

المشرف العام

بسمة مغتالة

سعاد الورفلي

تَحَرُّر .. أَم خيانة؟

عبدالحكيم الطويل

اترك تعليق