تحيَّةٌ واجبةٌ مهداة إلى “المؤرخ العلمي / المترجم” الدكتور عبد الكريم أبوشويرب.
الحمد لله حق حمده، وصلَّى الله وسلَّم على خير خلقه.
في المنشور السابق عن : (المستشرق الإيطالي كرلو نلّينو وكتابه – علم الفلك : تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، روما 1911)، ترد العبارة الختامية التالية : “ومن المؤمَّل في هذا المقام حقّاً، أن ينال (تاريخ العلوم) ما يستحقُّه من العناية الرصينة الجادَّة، من “منظورٍ علميٍّ نقديٍّ رصينٍ”، في الكليات والمراكز البحثية المناسبة بالجامعات الليبية، والله وليُّ التوفيق”.
ولا يخفى على بصيرٍ أنَّ الأخ الفاضل “الطبيب / المؤرخ / المترجم” الدكتور عبد الكريم أبوشويرب يُعَدُّ –دون مراءٍ– من خلال تكوينه الأساسي، أبرز المؤرخين الليبيين المعاصرين عناية “بتاريخ العلوم، وتاريخ الطب والمؤسَّسات الصحِّيَّة في ليبيا”، على وجه الخصوص. وهو الرئيس المؤسِّس (للجمعية الليبية لتاريخ الطب). كما ارتبطت تجربته التكوينية والبحثية من جهةٍ أخرى بصلته الحميمة باستانبول، وإفادته الواسعة الجليَّة من اللغة التركية، إلى جانب العربية والإنجليزية، في تغذية توجُّهه البحثي الرصين. لذا آثرت أن أتوجَّه إلى شخصه الكريم – متَّعه الله بدوام العافية، والعطاء، والسؤدد – بهذه التحيَّة الواجبة المتواضعة من خلال بعض النصوص المختارة من (يوميات استانبول 2003) التي قُدِّر لي أن أدوّنها هناك قبل عشرين عاماً، في رحلةٍ بحثيَّةٍ استغرقت نحو سبعين يوماً في تلك السنة، وقد وردت في بعض (متونها العفوية / وحواشيها المزيدة) عدَّة إشاراتٍ وإفاداتٍ متفرِّقة إلى شخصه الكريم، وعن أسماء أخرى من الأعلام الليبيين القدامى / والمعاصرين ممَّن قُدِّر لهم أن يرتبطوا بهذه المدينة التاريخية، في بعض تجاربهم الحياتية.
وتصاحب هذه النصوص بعض اللوحات المصوَّرة المتعلِّقة بسياقاتها النصيَّة، كما تليها بعض اللوحات من كتاب (التليسي مؤرخاً، دار الفرجاني 2018)، وفيها خلاصة ختامية موجزة عن منزلة الدكتور أبو شويرب بين : (أجيال المؤرخين الليبيين في القرن العشرين)، ومنها نقف على أنَّه : النموذج الرابع المختار في ختام (الجيل الثالث : طلائع الجامعة الليبية ؛ جيل الخطاب الجامعي للدولة الليبية الناشئة)، الذي كان مواكباً عمرياً له، في حين كانت تجربته العلمية الأساسية بجامعة استانبول. وقد تحقق في حراكه التطبيقي (الأفق اللغوي الثلاثي : ع . ع . غ) المشار إليه، بعد رائده الأول المؤرخ إسماعيل كمالي (1883 – 1936) الذي ينتمي إلى الجيل الأول : (المخضرمون : نهاية العهد العثماني / وبداية تاريخنا المعاصر).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] – النصوص المختارة :
اليومية (10).
(مساء الاثنين 23 – 6 – 2003).
ثم خرجتُ من المركز [مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول، المعروف باسمه المختصر أيضاً: ارسيكا]، أهبط من تلك الحديقة المنحدرة ما بين القصر، [قصر يلدز]، والجادَّة المؤدِّية إلى محطَّة بشيكطاش، وهو ذلك الحيُّ التاريخيُّ الشهير الواقع قرب القصر، وقد كان آنذاك موطن استقرار بعض الأعيان والأسر القادمة من طرابلس، وفي مقدِّمتهم الشيخ ظافر المدني صاحب (الرحلة) الضائعة المفقودة، وربَّما نزل صهره المؤرخ أحمد النائب الأنصاري بنفس الحيِّ أيضاً إلى جواره [1]. وفي العودة بالحافلة نفسها نزلتُ في المحطَّة التي انطلقتُ منها قرب الفندق ؛ لأتَّجه رأساً إلى الأرشيف الذي بلغته نحو الحادية عشر والنصف.
أخذت المجموعة السابقة من الوثائق لمعاودة الاطلاع، وقد أحسستُ اليوم بقدرٍ من النشاط، خلافاً لقراءة يوم الجمعة المرهقة. كما وجدت مع المجموعة تلكما الوثيقتين اللتين وقفت عليهما من خلال فهرس الحاسوب، وتتعلَّق إحداهما بإجراءٍ قضائيٍّ يخصُّ الشيخ حمزة المدني وأحمد النائب الأنصاري، وقد وُجِّهَ إليهما الخطابُ إلى مقرِّ إقامتهما في بشيكطاش. وتؤكِّد هذه الوثيقة الجديدة، ذلك التفسير الذي حاولت تقديمه في دراسةٍ سابقةٍ لمسألةٍ (نفيهما) إلى استانبول، وواقع الآمر أنَّ حضورهما إلى هذا المهجر كان أدنى إلى (الرعاية وبسط الحماية)، منه إلى مفهوم (النفي) الذي ساد وتردَّد ذكره في الأعمال السابقة. [لدى الأستاذ علي مصطفى المصراتي، والدكتور أحمد صدقي الدجّاني …].
أحسستُ من خلال اطلاعي اليوم، في شيءٍ من التأنِّي، على مجموعة الوثائق المتعدِّدة الكثيرة التي يضمُّ بعضُ ملفَّاتها العشرات من الملاحق أو المرفقات، أحسستُ بإمكانية العمل عليها من زاوية (التاريخ الاجتماعي / السياسي) ؛ إذْ أنَّ هذه المجموعة ومثيلاتها تسجِّل الكثير من التفاصيل عن : (الظروف الوظيفية، وانقطاع العمل، ونضوب الرواتب، وصور الرحيل والنقل والهجرة)، لقطاعٍ من موظفي الدولة العثمانية بولاية طرابلس الغرب خلال السنوات الأولى للغزو الإيطالي.
لقد رأيتُ آنذاك أنَّ هذه الوثائق الأوليَّة المحدودة التي لم أجدْ بينها ما يتصل مباشرة بموضوع (المنفيين الليبيين إلى الجزر الإيطالية)، يمكن أن يتفرَّع منها شِقٌّ آخر لهذا الموضوع التاريخيِّ الذي يُعنَى المركز [مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية] بمتابعته خلال هذه الفترة ؛ بواسطة العمل الميداني في الداخل، والبحث في بعض الأرشيفات التاريخية في الخارج، هذا الشِّقُّ الجديد المقترح هو: (ظروف المعاناة الاجتماعية لتلك الشريحة من الموظفين والأهالي أو المواطنين في السنوات الأولى للغزو الإيطالي)، وأرجو أن أتمكَّن من إطالة أمد البحث والتنقيب، وأن أعثر على المزيد من الوثائق المؤمَّلة عن مجمل هذه الموضوعات.
ومن الطريف أنَّ خطأً في رمز التصنيف قد ارتكبته سهواً عند تعبئة قسائم المجموعة الثانية، قد كان عائقاً عن وصولها، فاضطررتُ اليوم إلى تعبئتها من جديدٍ ؛ وهو “عقابٌ مفيدٌ” يجعل الذهن أكثر انتباهاً خلال الأيام القادمة. وقد سألتُ عن تكاليف التصوير فأجابني أحد العاملين بركن الإشراف على القاعة بأنَّ الحجم الصغير بمائتي ألف ليرة، والحجم الكبير بمائتين وخمسين ألف ليرة، أي أنَّ المليون ليرة التي تعادل اليوم ديناراً ليبياً واحداً، تصوِّر ما بين أربع وخمس وثائق.
وفي طريق الأوبة نحو بايزيد والفندق، رأيتُ أن أجوس قليلاً في تلك (المقبرة التاريخية) المطلَّة على الشارع، [وهي تربة السلطان محمود الثاني، إزاء متحف الصحافة]، وقد نُصِبتْ على قبورها الرخاميَّة الكثير من الشواهد التوثيقيَّة. وكنت منذ سنوات الدراسة أتطلَّع بشيءٍ من الشَّغَف إلى الوقوف على قبر المؤرخ أحمد النائب الأنصاري الذي كان من الشائع في الدراسات السابقة أنَّه ظلَّ باستانبول منذ رحيله إليها حتى وفاته، غير أنَّني قد وقفت خلال السنوات القريبة السابقة على ما يؤكِّد عودته إلى طرابلس قبيل الغزو الإيطالي. وواقع الأمر أنَّ تاريخ وفاته، ومكان وفاته لا يزالان موضوعَ بحثٍ وتحرٍّ، لم يُقْطَعْ فيهما بقولٍ حتى اليوم [2]. وكنتُ في فرصةٍ دراسيَّةٍ أو بحثيَّةٍ سابقةٍ قد استفدت من إشارة الأستاذ علي مصطفى المصراتي إلى وفاة العالم الأديب أحمد بن شتوان في استانبول ودفنه (بمقبرة السلطان محمد الفاتح)، فزرت المقبرة مؤمِّلاً الوقوف على تاريخ وفاته، وسرعان ما وجدته على شاهد قبره [3].
وفي هذه المقبرة التي زرتها في دقائقَ قليلةٍ اليوم أضرحةُ عددٍ من رجال الدولة العثمانية، وبعض العلماء، وقد استوقفني هذا الشاهد الذي أُضِيف على أحد الأضرحة بالحروف التركية الحديثة، وعبارته : (المعلِّم ناجي أفندي. مؤرخٌ، أديبٌ. وفاته : 1892). ولكنَّ جُلَّ الشواهد لا تزال تحمل (عباراتها العثمانية [بحروفها العربية] المنقوشة على الرخام)، والمعلِّم ناجي من كبار الكُتَّاب في القرن التاسع عشر، وهو فيما أذكر أحد أصحاب القواميس العثمانية الشهيرة.
وقد فاتني أن أذكر أعلاه أنَّني التقيتُ في الأرشيف صباحاً بإحدى زميلات المرحلة الدراسية باستانبول (؟)، وقد أنجزت آنذاك رسالة الماجستير في موضوعٍ لم أعدْ أذكره، أمَّا اليوم فهي على وشك الفراغ من أطروحة الدكتوراه ومناقشتها، وهي بعنوان (نظارة العدلية : تأسيسها وفعالياتها 1876 – 1914).
وفي الطريق، (طريق المشاة) الذي يخترقه المترو، نحو بايزيد، وقد وطَّنتُ النفس على ضرورة المشي طويلاً في هذه الفرصة السانحة، رأيت أن أقتني حذاءً صيفيّاً خفيفاً مفلطح المقدِّمة حتى يتيح للقدمين أن تستمرئا المشيَ انزياحاً بين أمواج المشاة. كما رطَّبتُ الحلق قليلاً بذلك الطَّبَق الصغير المعروف في التركية (بالسوتلاج) ؛ وهو مركَّبٌ من الحليب والأرز. وعندما حان العصر مررت بأحد المساجد التاريخية المُطِلَّة على الشارع نفسه، وتتقدَّمه حديقته الصغيرة كجُلِّ الجوامع العثمانية، وقد أسَّسه أحد رجال الدولة (Atik Ali) سنة (1497)، كما جاء على لوحته الحديثة في المدخل، أي أنَّه أُسِّسَ قبل جامع مراد آغا المعروف بتاجوراء، وهو أوَّل أثرٍ عثمانيٍّ في ليبيا، بنحو ستين عاماً.
اليومية (21).
الجمعة 4 – 7 – 2003.
أمضيتُ طيلة ساعات العمل لهذا اليوم، قبل صلاة الجمعة وبعدها، في استكمال ما بدأتُ بالأمس من استخراج الوثائق المصوَّرة، ونظراً لتعدُّد الملاحق في جُلِّ الوثائق وضرورة تدوين الرموز والأرقام، وضمِّها بالدبّاسة كما تقدَّم، فقد انقضت الساعات … حتى الرابعة والنصف دون أن أتمكَّن من الالتفات إلى أيِّ شيءٍ آخر، ولهذا لم أملأْ قسائمَ طلباتٍ جديدة، ولا ألقيتُ نظرةً على المجموعة الأخرى التي قدمتْ بالأمس، بل اضطررتُ إلى تركها إلى يوم الاثنين، مع ما ظلَّ من بقيَّة الوثائق المصوَّرة أيضاً. ومن الطريف أنَّ هذه المجموعة تضمُّ فيما بينها منشورين مطبوعين في حجم الصحيفة (الجريدة من الحجم الكبير) بالعربية والإيطالية، وهما إصداران رسميان من الحكومة الإيطالية خلال بداية الغزو، وقد قُدِّر لهما أن يُحفَظا في الأرشيف العثماني، إذ أُرسلا آنذاك في إطار نشاط (نائب السلطان) الذي حلَّ محلَّ الوالي هناك للإشراف على بقايا الوجود العثماني الرسمي خلال تلك السنوات. وقد رأيت ضرورة تصوير كلِّ الوثائق المتعلِّقة بنيابة السلطان (طرابلس غرب وبنغازي نائب السلطانلغى) أو جُلِّها، لعلَّها تشكِّل مادَّةً جيِّدة للوقوف على مزيدٍ من التفاصيل عن حركة هذه المؤسَّسة المؤقَّتة من خلال الوثائق الرسمية للدولة العثمانية.
كان مع ذينك المنشورين المطبوعين بالعربية والإيطالية دفترٌ مدرسيٌّ (مخطوطٌ) دُوِّنتْ في عدَّة صفحاتٍ منه نصوص بعض اللوائح الإيطالية، مترجمةً إلى التركية. جلُّ وربَّما كلُّ هذه الوثائق التي أطلبها، وأطَّلع عليها، وأصوِّرها، لا تتجاوز السنوات الأولى من الغزو الإيطالي، وهي وفقاً للوثائق : (1329 – 1330 – 1331هـ)، ولا يزال أمامي الكثير، وأرجو المزيد من الصبر، والمزيد من القدرة على حسن استغلال الوقت بدقَّةٍ حتى لا تنفرط الأيام، ثم الأسابيع، دون جدوى.
وهذه الليلة رأيتُ قبل النزول من الغرفة أن أحادث بالهاتف الأخ الكريم (الدكتور محمد الطنَّاشي)، لتحيَّته / ولأرجوه أن يُتِيح لي فرصة تدوين بعض المعلومات عن تجربته الدراسية والعمليَّة الطبِّيَّة في تركيا … ربَّما استغرب الأمر قليلاً، ولكنَّني أكَّدتُ له حرصي على الوقوف على شيءٍ من الإفادة عن هذه التجربة، وعمّا يعرفه عن الإخوة الليبيين القدامى، قبل جيله، الذين قُدِّر لهم أن يعيشوا ويعملوا في المجتمع التركي، مشيراً إلى ما استفدته ودوَّنته أعلاه، من إفادات (الدكتور أورخان قول أوغلو)، وهداياه القيِّمة من المطبوعات. [: نشر حواره العفوي بموقع بلد الطيوب]. رحَّب الدكتور الطنّاشي بما رجوته، واقترح عليَّ أن أمرَّ به ظهيرة الاثنين في عيادة – أو مستشفى – الهلال الأحمر، الواقعة على مقربةٍ من الفندق الذي أُقيمُ به كما وصفها لي، غير أنَّني استناداً إلى المودَّة ورفع الكلفة من جهةٍ، وإلى ما يعرفه عن انشغالي بالعمل الذي جئتُ من أجله من جهةٍ أخرى، ضاعفتُ رجائي السابق برجاءٍ آخر، وهو أن يكون اللقاء خلال يوم الأحد، حتى أقضي ساعات الاثنين – وغيره – في الأرشيف، مع إحساسي بسرعة ما يمضي من الوقت، فوافق – وفَّقه الله تعالى – على ما رجوت، وأكَّد لي أنَّه سيزورني بالفندق عند الساعة الرابعة من مساء الأحد.
وقد علمت منه خلال هذه المكالمة بوجود الأخ الكريم (الدكتور عبد الكريم أبو شويرب) في استانبول، وهو قد علم بذلك أيضاً سماعاً من (السيِّد ناجي بن غرسة) المقيم باستانبول منذ سنواتٍ طويلةٍ، وربَّما وُلد بها أو جاء إليها صغيراً … لا أذكر الآن، ويُعرَفُ هنا أيضاً باسم (ناجي طولاي)، وقد تعرَّفتُ عليه مبكِّراً خلال سنوات الدراسة وزرته في بيته، وهو الآن في نحو السبعين من العمر فيما أقدِّر [4]. أمَّا الأخ الكريم (الدكتور عبد الكريم أبو شويرب) الذي أسمِّيه دائماً (بمؤرِّخ الأطبّاء / وطبيب المؤرِّخين)، فهو نموذجٌ طيِّبٌ من الجيل الأوسط بين هؤلاء الإخوة الثلاثة الذين قُدِّر لهم أن يعيشوا سنواتٍ متفاوتةً، وتجاربَ متنوِّعةً، من أعمارهم في المجتمع التركي. جاء الدكتور أبو شويرب بعد المرحلة الثانوية لدراسة الطبِّ في تركيا في أواسط عقد الخمسينيات، أو أواخره، فيما أذكر نقلاً عنه، وعاد إلى وطنه في العقد التالي، وقد دفعته معرفته باللغة التركية الحديثة، ثم بالعثمانية إلى تنمية ميوله نحو البحث التاريخي الذي غلبتْ عَلَيهِ / لَدَيهِ العنايةُ بتاريخ الطبِّ في ليبيا – على وجه الخصوص – تأليفاً وترجمةً عن التركية والانجليزية، فضلاً عن بعض الالتفاتات البحثيَّة / التحقيقيَّة إلى التراث الإسلامي في هذا المجال [5].
فاتني أن أذكر في السياق أعلاه أنَّني فضَّلتُ العودة من الأرشيف مشياً على الأقدام أيضاً، رغم ثقل الحقيبة وظرف النايلون الذي اصطحبته للوثائق المصوَّرة. وفي بايزيد دخلتُ السوق التاريخي المسقوف (كابالّي تشارشي) الذي يعجُّ بالمواطنين والسائحين، وبلغتُ طرفه الأقصى لأصل أيضاً إلى ذلك السوق المعروف بشارع (محمود باشا)، وهناك اقتنيتُ بعض قطع الملابس، وأحسستُ بقدرٍ من الحنين إلى الأسرة التي صاحبتي فيما مضى في بعض الجولات هناك.
وبعد جولة الليلة القصيرة في الشوارع القريبة إزاء الفندق، اتَّجهت نحو الكافيتريا المعتادة القريبة منه، وما إن رآني النادل المشرف على خدماتها أجلس إلى إحدى المناضد في الركن القصيِّ الذي اخترته سابقاً، حتى طلب لي قهوة (شكارلى) ؛ [حلوة، سكر زيادة]، استناداً إلى ما كنتُ أطلبه في الجلسات السابقة، فأمَّنتُ على قوله بالتأكيد، وبعد مراجعة صفحاتٍ من الكُنَّاش القديم، تبيَّن لي أنَّني نسيتُ القلم في الغرفة، فلم أجدْ بُدّاً – بعد حينٍ – من طلب قلمٍ من أحد العاملين في خدمة الرواد، حتى أُسارع إلى تدوين جُلِّ هذه اليوميَّة هناك على ضوءِ مصباحٍ خافتٍ، وقد انصرف الآخرون، يأكلون أو يحتسون، إلى ما بينهم من الحديث والنجوى، وانصرفتُ إلى قهوتي التي (أُصحصح) بها هذه الأسطر.
اليومية (23).
(الأحد 6 – 7 – 2003).
صباح الأحد، كنت أنوي التوجُّه نحو ذلك المقهى الصيفيِّ الظليل إزاء جامع بايزيد عند الضحى، للجلوس وتدوين بعض الصفحات هناك، غير أنَّني في الطريق غيَّرت اتِّجاهي نحو الحافلة المُتَّجهة إلى ميدان تقسيم. جلست بالمقهى الصيفيِّ هناك، ثم مررت قبيل الظهيرة بالقنصلية الليبية، ولم أجد الأستاذ حسني صالح [القنصل]، إذ أنَّ اليوم عطلةٌ بالطبع، ولكنَّني كنت أتوقَّع وجوده، للاستفسار عن أخبار المركز المحتملة، مع انشغالي بالتوجُّه نحو الأرشيف في بقيَّة الأيام. وعند الظهيرة كنت حريصاً على العودة نحو الفندق بالحافلة، لأتناول شيئاً من طعام الغذاء بالكافيتريا / المطعم الصيفي إزاء الفندق، ولأستريح خلال القيلولة في انتظار موعد اللقاء بالأخ الكريم الدكتور محمد الطنَّاشي في الرابعة مساء.
***
جولةٌ لطيفة صحبة الدكتور الطنَّاشي في أطراف استانبول:
منذ أن طلبتُ من الأخ الكريم الدكتور محمد الطنّاشي إتاحة هذه الفرصة لتدوين شيءٍ عن تجربته الدراسية والعمليَّة الطبيَّة المعاصرة في تركيا، كما تقدَّم أعلاه، كنت أُعِدُّ العدَّة، في واقع الأمر، لإجراءِ حوارٍ مدوَّنٍ، مثلما تمَّ تدوين تلك الصفحات في صياغةٍ عاجلةٍ مضطربةٍ، تحتاج إلى التنقيح، مع الدكتور أورخان قول أوغلو، غير أنَّني اضطررت بعد طرح الفكرة إلى أن أترك القلم والكُنَّاش جانباً ؛ لأستمع إلى الدكتور محمد الطنّاشي وهو يروي تجربته العلمية.
جلسنا أولاً قليلاً من الوقت بصالة الفندق، ثم تحوَّلنا إلى الكافيتريا المجاورة لمواصلة الحديث. وسأحاول هنا أن أقدِّم خلاصةً وافيةً، أرجو ألَّا تكون مُخِلَّةً، لمجمل حديثه.
ولد الدكتور محمد الطنّاشي الذي ينتمي إلى (الشويهدات) بمدينة مصراتة سنة (1952)، ثم انتقل في طفولته مع عمِّه إلى مدينة بنغازي التي درس بها حتى أتمَّ المرحلة الثانوية، والتحق بكلية الاقتصاد مدَّة سنةٍ دراسية أو سنتين، ثم أعدَّ العدَّة للدراسة في إيطاليا، وكان على وشك السفر إليها، غير أنَّ لقاءً عابراً بأحد أصدقائه وزملائه القدامى قد أقنعه بتحويل وجهته نحو تركيا. وبدأ دراسته الجامعية على حسابه الخاص في (كلية الطب – تشابا) نحو سنة 1974. ثم ضُمَّ إلى البعثة الطلابية الليبية واستفاد من منحتها ولكنَّها قُطِعَتْ فيما بعد. وأتمَّ مرحلة التخصُّص في (الأمراض الباطنية) بكلية جرَّاح باشا باستانبول أيضاً، التي تمكَّن من الحصول على موقع (معيدٍ) بها حتى أتمَّ دراسته. وقد عمل في بعض العيادات والمصحَّات الخاصَّة، لكنَّه اليوم يعمل منذ سبعِ سنواتٍ بإحدى عيادات (الهلال الأحمر)، قرب جامعة استانبول، كما يقوم بالإشراف على مرضاه في الجناح المخصَّص له بالمستشفى. ومن المحقَّق أنَّ رحلته الدراسيَّة والعمليَّة هذه لم تكن سهلةً ميسورة، حتى تمكَّن من أن يشُقَّ طريقة وأن يحتلَّ موقعه في إحدى المؤسَّسات الطبيَّة العريقة.
تزوج الدكتور الطنّاشي خلال دراسته الجامعية، وهو اليوم أبٌ لابنةٍ وابنٍ في أول الشباب. (تخرَّجت الابنة من كلية الاقتصاد في السنة الماضية، والابن في السنة الأخيرة من إدارة الأعمال). واستقرَّ بهذه المدينة العريقة المتعدِّدة الأعراق واندمج في حياتها.
وقد آثر بعد الاستماع إلى حديثه أن نخرج بسيَّارته إلى بعض أطراف المدينة، إلى أحد أحياءِ مدينة استانبول المعروفة باسم (قرية علي بي)، قرب ضريح الصحابي الجليل (أيوب الأنصاري) الذي اعتاد الأتراك على زيارته عموماً، كما يزوره الأزواج (العرسان) الجـُدَدُ، ضمن مراسم يوم الزفاف للتبرُّك. وفي قرية علي بي، بعد ضريح الأنصاري، تستقرُّ عائلةٌ تركيَّةٌ وافدةٌ من يوغسلافيا منذ نحو خمسةٍ وعشرين عاماً. وهي تضمُّ الأبَ الذي انتقل إلى رحمته تعالى، والأمَّ المُسِنَّة، وخمسةً من الأبناء وأختاً. وقد تعرَّف الدكتور الطنّاشي على هذه الأسرة من خلال عمله بأحد المستشفيات هناك، وأصبح لهم صديقاً حميماً، واعتاد على زيارتهم، والجلوس إليهم في المنزل، أو في المحلِّ التجاري الذي يعمل به اثنان من الإخوة، في بعض أيام العطلات الأسبوعية. وقد رحَّب بنا الإخوة أيضاً في ذلك المحلِّ الذي جلسنا به معهم بعض الوقت، وكان الودُّ جليّاً في ترحيبهم بمقدم الأخ الكريم الدكتور محمد الطنّاشي ومرافقه. وهذه الصلات الاجتماعية للدكتور الطنّاشي مثالٌ طيِّبٌ لما أتاحته له مهنته كطبيبٍ تتوافد عليه في العيادات أو المستشفيات، أنماطٌ من مختلف الشرائح الاجتماعية لهذه المدينة. كما أنَّ هذه العائلة الصديقة تشير، بانتمائها الجغرافيِّ السابق الذي نزحت منه، إلى ذلك العمق التاريخي للوجود الإسلامي العثماني في تلك البقاع بالأمس البعيد من جهةٍ، وإلى النسيج الاجتماعي المتعدِّد لسكان هذه المدينة اليوم من جهةٍ أخرى.
وبعد مغادرة القرية آثر الدكتور الطنّاشي أن يتوغَّل في بعض أطراف استانبول الشاسعة بسيارته، إيثاراً لي بمزيدٍ من الفسحة والاطلاع على معالم المدينة التي تزداد توسُّعاً وانتشاراً، وقد أطلعني خلال ذلك على أحد الأحياء الجديدة الأنيقة الذي يضمُّ (مُجَمَّعاً سكنيّاً) من عدَّة عماراتٍ تحتوي على ما يزيد على ثلاثمائةِ شقَّةٍ، مع ما يتخلَّلها من الممرَّات المرصوفة بالبلاط الحجري الأنيق، ومواقف السيارات، وملاعب الأطفال، وجلسات الكبار، وحمّام السباحة، وما يحيط بها من الفضاء الأخضر، و(كلُّ سُكَّانِها من الأطبَّاء) !!
خلال الطريق كنتُ حريصاً على استجلاء بعض الانطباعات الثقافية لدى الدكتور الطنّاشي حول المجتمع التركي. كنتُ قد سمعتُ منه في لقاءٍ سابقٍ منذ عدَّة سنواتٍ خلاصة إحدى القصص أو المسرحيات التركية المعاصرة، وكانت من لون الأدب الساخر، ولعلَّها للأديب عزيز نسين الذي توفي مؤخراً. لذا سألته اليوم عن رأيه، بعد هذا الاندماج في المجتمع التركي المعاصر، عن مستوى القراءات الثقافية لدى الأتراك، قياساً على ما نسمعه عن انتشار سمة القراءة في المجتمعات الأوربية في المحطَّات والقطارات … فأجابني بما مؤدّاه أنَّ حجم القراءة هنا متوسطٌ أو دون المتوسط، ولكنَّه أفادني في سياقٍ سابقٍ بأنَّ حركة الترجمة لديهم نشطة.
أحسستُ خلال هذه الجولة الكريمة مراراً بأنَّني أثقلتُ على الدكتور الطنّاشي، وحرمته من راحته في يوم عطلته، وهو المُرهَقُ بعمله الطبيِّ طيلة أيام الأسبوع في عدَّة مواقع صباحاً ومساءً، لكنَّه كان يُهَوِّن عليَّ بلطفه ما أحسُّ به من حرجٍ، وبلغنا الفندق قبيل المغرب فشكرته على ما جشَّمته من التعب، وما أتاحه لي من زيارةٍ طيِّبة.
اليومية (29).
السبت 12 – 7 – 2003.
خلال لقائي السابق بالأخ الكريم الدكتور عبد الكريم أبوشويرب في الأرشيف استفدت منه أنَّ ضريح الشيخ محمد ظافر المدني وجامعه، يوجد بشارعٍ داخليٍّ صغيرٍ موازٍ للطريق المؤدِّي إلى (قصر يلدز)، أمام (فندق كونراد). لذلك رأيت أن أغتنم فرصة وجودي في بشيكطاش هذا الصباح لأتَّجه أولاً بعض الوقت إلى زيارة الموقع والتعرُّف عليه، قبل ركوب البحر إلى أُسْكودار في الطرف الآسيويِّ من المدينة. ومن الغريب حقّاً أنَّني لم انتبه، فيما أذكر، سابقاً إلى وجود هذا الموقع الذي مررتُ بالقرب منه مراراً عديدة في طريقي، ذهاباً وإياباً، إلى المركز الإسلامي هناك.
وكنت أحدِّثُ نفسي بإمكانية وجود بعض شواهد القبور إزاء الضريح، لأولئك الطرابلسيين المُحيطين بالشيخ ظافر المدني آنذاك، وفي مقدِّمتهم صهره المؤرخ أحمد النائب الأنصاري الذي لا يزال مكان وفاته / وتاريخها غير معروفين بما ينبغي من الدقَّة حتى اليوم.
وجدت ضريح الشيخ أمام الجامع، وبإزائهما مبنى خشبيٌّ عتيقٌ مهترئٌ، لعلَّه التكيَّة التي أُنشِئَتْ لطريقته [الشاذلية] آنذاك، وقد حدَّثني الدكتور أبوشويرب بأنَّها أصبحت خربةً مهجورة [6]. وتعلو الضريحَ قبَّةٌ كبيرةٌ، وقد عُلِّقَتْ على واجهتها لوحةٌ حجريَّةٌ فيما يبدو كُتب عليها بالتركية الحديثة ما يلي : “تربة الشيخ محمد ظافري التونسي [كذا ؟] قطب العارفين من شيوخ الطريقة الشاذلية، تاريخ الوفاة 1321”.
وهذه أوَّلُ مرَّةٍ أقفُ فيها على نسبته إلى تونس؟
ولا يوجد حول المسجد والضريح سوى قبرٍ صغيرٍ مفردٍ ملاصقٍ للضريح على واجهة الزقاق، وعليه بالعثمانية النصُّ التالي الذي غلبت عليه العربية : “هو الخلاق الباقى . قطب العارفين وغوث الواصلين الشيخ محمد ظافر المدنى الشاذلى حضرتلرينك حرمى دبلج خانمك روحنه الفاتحه. سنه 1330 ذي الحجه”.
وكان السيِّد الدكتور أبوشويرب قد أشار خلال حديثه إلى قبر السيدة (دبلج) زوجة الشيخ ظافر، وإلى احتمال كونها من طرابلس بالنظر إلى الاسم. ولا يبعد ضريح الشيخ ظافر المدني الذي كان من أقرب المقرَّبين إلى السلطان عبد الحميد الثاني سوى بضع مئاتٍ قليلةٍ من الأمتار عن قصره المعروف (يلدز سراى) أي قصر النجم.
وفي طريق الأوبة من الضريح نحو حي بشيكطاش التاريخي زرت أيضاً، من باب الاستقصاء، المقبرة العتيقة إزاء (جامع سنان باشا 1565) كما جاء على لوحته، ولعلَّه [بل هو] رجلُ البحرية المعروف الذي شارك في فتح طرابلس في منتصف ذلك القرن. المقبرة من قسمين مسوَّرين بسياجٍ معدنيٍّ بطرفي الجامع، وقد فتحت لي البابين سيِّدةٌ عجوزٌ تقوم على تنظيفها، وذكَّرني مرآها الوديع ببعض العجائز هناك، وتضمُّ المقبرة شواهد قديمة متعدِّدة، منها ما يعود إلى بضعة قرون.
في حي بشيكطاش يوجد أيضاً (المتحف البحري) الذي زرته أكثر من مرَّةٍ في السنوات الماضية، غير أنَّني لم أجد الفرصة مواتية بعد لزيارته هذه المرَّة أيضاً، فاتَّجهت نحو المرفأ الصغير هناك لاستقلَّ العبَّارة إلى حي أُسكودار المقابل، ثم الحافلة الصغيرة (ايفيكو استانبول) إلى مركز البحوث الإسلامية في باغلارباشي الذي بلغته ما بين منتصف النهار والظهيرة.
……………..الخ.
اليومية (49).
(الجمعة 1 – 8 – 2003).
طيلة ساعات العمل اليوم، قبل الجمعة وبعدها، لم أتركْ (فهارس التراجم) إلى أيِّ شيءٍ آخر. وبعض التراجم التي وقفت عليها أمس واليوم تبيَّن لي أنَّني صوَّرتها في جولتي الأولى واختياراتي المحدودة من دفاتر (سجلِّ أحوال) خلال سنوات الدراسة. وأرجو أن أتمكَّن هذه المرَّة، بمزيدٍ من الصبر، من اغتنام هذه الفرصة التي لا تُتاح غيرها بسهولةٍ، لإجراء مسحٍ دقيقٍ للفهارس التي لاحظت وجود التكرار فيها بتعدُّد المداخل، وخاصَّةً في الأسماء الثنائية مثل (محمد قدري) الذي يمكن أن يرد في (سياقي) الاسمين، محمد / وقدري، وهذا من باب التيسير على مستخدمي الفهرس، ممَّن يستهدفون البحث عن ترجمة شخصٍ معيَّن ….الخ.
ثمَّة في الأرشيف أربعة أو خمسة باحثين / وباحثات من اليابان، وقد أخبرتني الأخت الباحثة سميَّة الوحيشي [من تونس] أنَّ أحدَهم له سنتان يجمع مادَّته من الأرشيف، كما أخبرني الأخ الباحث طارق نور [من السودان] أنَّ آخرَ له أربعُ سنواتٍ. وهذا دأبٌ كبيرٌ، ولكنَّه لا يُستَغْرَبُ مع ثراء الأرشيف العثماني. قلت للأخت سميَّة والأخ طارق، ونحن نهمُّ بمغادرة قاعة الأرشيف مع نهاية الدوام : ألا تلاحظان معي أنَّ هؤلاء الباحثين الأجانب عن ماضي الدولة العثمانية، يتَّجهون غالباً إلى موضوعاتٍ مركزيَّةٍ في التاريخ العثماني، أو عن نظم الدولة ومؤسَّساتها المركزية، خلافاً لاتجاه الباحثين العرب غالباً – على سبيل المثال – إلى موضوعاتٍ ومسائلَ محليَّةٍ في إطار التاريخ الوطني أو القطري لبلدانهم. أحد الباحثين اليابانيين، فيما علمت منهما إجمالاً دون تحديدٍ، يعمل على (التجارة في الدولة العثمانية). أمَّا الباحثة البلغارية فتعمل على منصب (الصدر الأعظم) أو رئيس الوزراء.
في استراحة الظهيرة بعد الجمعة والغذاء، كنت أحتسي كوباً من الشاي بصالون الزوار في مدخل الأرشيف، جلس باحثٌ شابٌّ على المقعد الآخر أمامي، وسرعان ما عرفت منه خلال جلسة الشاي القصيرة، أنَّه من (قيصري)، وهو في السابعة والعشرين من عمره، وقد أنجز رسالة الماجستير، ويعمل الآن على إنجاز أطروحة الدكتوراه، ويقيم بجامعة (اسبارطة)، وقد ولد بألمانيا التي عمل بها والده نحو عشرين سنة أو أكثر في مصانع السيارات أو الآليات، وظلَّ بها مع أسرته حتى الخامسة عشرة من عمره، وهو ما أتاح له أن يتعلَّم الألمانية في المراحل الأولى من تعليمه، كما درس التركية هناك أيضاً في بعض المدارس الألمانية نفسها، كما يقول. ويبدو أنَّ هذه التجربة الدراسية الخاصَّة مع اللغة الألمانية، هي التي دفعته إلى أن يعمل في أطروحة الدكتوراه على العلاقات، أو الحرب، العثمانية – النمساوية خلال فترة من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم أنْتَبِهْ في سياق الحديث العابر إلى السنوات بدقَّةٍ. [+ موضوع أطروحته في يوميَّةٍ لاحقة : “الحرب العثمانية / النمساوية 1736 – 1739”] ؛ هذا الباحث الشابُّ، واسمه الأول خاقان … [+ خاقان قراقوز]، نموذجٌ لعددٍ ملحوظٍ من روَّاد الأرشيف من أبناء جيله، ومن أجيالٍ أسبق.
آثرتُ العودة مساء اليوم [من الأرشيف] مشياً إلى الفندق. وفي جادَّة الإنكشارية [ينيتشري جادَّه سي] المخصَّصة للمترو / وللمشاة، ما بين السلطان أحمد وبايزيد، استوقفني اليوم أحد المعالم الثقافية البارزة، على صغر حجمه في هذا الشارع. إنَّها (مكتبة كوبرويلى) الشهيرة التي تتكوَّن من مبنى صغيرٍ قد لا تزيد مساحته عن (7X 7 أمتار)، ولكنَّها قاعةٌ تحتضن منذ قرونٍ الكثير من المخطوطات القيِّمة [7].
أذكر أنَّني دخلتُ هذه المكتبة منذ أكثر من عشرين سنة، خلال تلك الزيارة الأولى، أو الثانية سنة (1981)، وقد شدَّني آنذاك ذلك المخطوط العلميُّ الطريف القيِّم (العزُّ والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع)، لإبراهيم بن غانم المرباش، وقد ألَّفه بالإسبانية، ونقله إلى العربية معاصره أحمد بن قاسم الحجري، وكلاهما من بقايا المسلمين (الموريسكيين) الفارِّين من إسبانيا إلى المغرب العربي في القرن السابع عشر. المخطوط طريفٌ مثيرٌ، بموضوعه، وبلوحاته الفنيَّة للمدافع وآلاتها المُنْجَزَة بشكلٍ مُتقَنٍ على يدي المؤلِّف، وبالتجربة القاسية (لرحلتي) المؤلِّف والمترجم. شُغفت بهذا المخطوط آنذاك، فلم أكتفِ بتصفُّحه والاطِّلاع عليه، وإنَّما حرصت على اقتناءِ نسخةٍ منه على الميكروفلم للمركز هناك [8].
وقد استفدت منه بعد عدَّة سنواتٍ، في تحقيق بعض المواضع المتَّصلة بمصطلحات المدفعية في الجزء الثاني من (اليوميات الليبية) [9].
[2] – الحواشي:
1 – الليبيون القدامى في استانبول : للطبيب المؤرخ الدكتور سعيد داود طوقدمير مقالةٌ طريفةٌ بعنوان : “لماذا لا يعود الفنّيون الطرابلسيون إلى بلادهم”، نشرت بمجلة (الأفكار)، السنة 3 – العدد 17 (صفر 1378هـ/ سبتمبر 1958م)، ص 6 – 7. وقد اقترحتُ لهذه المقالة، في سياقٍ بحثيٍّ آخر، هذا العنوان البديل المعبِّر عن محتواها : (الليبيون في محلَّتي بشيكطاش وأسكودار باستانبول)، إذ جاء فيها: “وفي محلَّة باشكطاش هذه تجدون مجموعة كبيرة من الليبيين ويحدِّثونكم بلهجتهم الطرابلسية الخالصة. وما يزالون كما كانوا عند عاداتهم وتقاليدهم يطبخون (الكسكسي)، ويصنعون (التكره) ؟ …الخ.
وقد أفادني الأستاذ الفاضل علي الصادق حُسْنين (السبت 1 – 7 – 2017)، بأنَّ (التكرة) أكلةٌ جافَّة، باردةٌ غير مطبوخةٍ ؛ تشبه السويق الذي يُعرَف في اللهجة الليبية (بالزُّمِّيطة).
2 – وفاة المؤرخ أحمد النائب الأنصاري : تبيَّن لي فيما بعد من خلال وثائق مهمَّةٍ أصيلةٍ، أنَّه توفي في بيروت سنة (1336هـ/ 1918م). لذا كان الظنُّ بوفاته في استانبول في غير محلِّه. انظر التفاصيل الموثَّقة في : المؤرخ أحمد النائب الأنصاري (1264 – 1336هـ/ 1848 – 1918م): حياته وآثاره وعصره في الذكرى المئوية لصدور كتابه مع نهاية القرن (1899 – 1999م)، أعمال ندوةٍ علمية، تحرير عمار محمد جحيدر، طرابلس : مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 2008، (التتمَّة، في آخر الكتاب).
3 – قبر أحمد بن شتوان باستانبول : يعود هذا إلى قيدٍ سابقٍ بأحد (دفاتر استانبول)، دوَّنته عن زيارةٍ للمقبرة المذكورة (ظهيرة الخميس 12 – 12 – 1996).
* وقد وقفتُ بها على شاهد قبره الذي نُقِش عليه بالتركية العثمانية نصٌّ بسيطٌ مؤدَّاه : أنَّه من أشراف بنغازي، ومن المحدِّثين الكرام، مع تاريخ وفاته في السنة الأخيرة من القرن الثالث عشر الهجري (1299 هـ / 1881 – 1882م) : “هو الباقى . بنغازى اشرافندن ومحدِّثين كرامدن الحاج أحمد شتوان افندى روحنه الفاتحه، سنه 1299”.
* وإزاءه قبر زوجة ابنه يوسف شتوان بك / وكريمة السيد جواد أفندي من السادات البرزنجية : “هو الباقى . يوسف شتوان بكك حرمى وسادات برزنجيه دن سيّد جواد افندى مرحومك كريمه سى كامله شريفه خانمك قبريدر سنه 1336”.
* واختتمت الزيارة القصيرة بالإفادة التالية: “تضمُّ هذه المقبرة العتيقة الملحقة بجامع الفاتح باستانبول عدداً من أضرحة: الوزراء، والعلماء، والولاة، وكبار الضباط، وكبار الموظفين، وبعض النساء من ذويهم. ومن بين العلماء مَنْ ينتسب إلى العمل بالجامع نفسه ؛ وهذا ما جعل ابن شتوان بينهم، فيما يبدو. وتعود شواهد القبور إلى أواخر القرن الثالث عشر والنصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري”.
وقد أفدت من (زيارة المقبرة) في مقاربتي البحثية التالية : “بدايات الصحافة الليبية : العدد الأول من صحيفة طرابلس غرب (1283 هـ / 1866م)”، ضمن ندوة : المجتمع الليبي (1835 – 1950)، تحرير الدكتور محمد الطاهر الجراري، طرابلس : مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 2005، ص 607 – 653.
وترد فيها الإشارة أولاً بإيجازٍ إلى المثقف / السياسي حسونة الدغيس الذي انتقل في آخر عمره إلى استانبول، فأُسندت إليه مهمَّة تحرير النسخة الفرنسية Le Moniteur Ottoman من صحيفة (تقويم وقايع)، وهي الصحيفة الرسمية للدولة العثمانية. وقـد كُلِّف بهذه المهمة في غرَّة ربيع الأول 1252ﻫ (16 – 6 – 1836م)، غير أنَّه سرعان ما توفي باستانبول في السنة نفسها. وقد قُدِّر له في هذا الظرف الوجيز أن يكون أول مثقفٍ (ليبي) يعمل بالصحافة، وإنْ كان ذلك “في غير لغته، وخارج بلاده”.
أمَّا المعطيات المطوَّلة نسبياً في هذه المقاربة ؛ فقد كانت عن اللغوي الشاعر الأديب أحمد بن شتوان، دفين استانبول أيضاً. “واستناداً إلى هذا العدد البكر في تاريخ الصحافة الليبية، يمكن القول باطمئنان إنَّ أحمد بن شتوان كان (أوَّل محرِّرٍ صحفيٍّ في ليبيا) ؛ وهو عالمٌ لغويٌّ متميِّزٌ جديرٌ بهذه الريادة حقّاً، وقد كان محرِّرو الصُّحُف آنذاك أدنى إلى هذا الطراز المتين من العلماءِ في عددٍ من الصحف العربية القديمة” …. “ومثلما احتفظ لنا الأرشيف العثماني في استانبول بالعدد البكر في تاريخ الصحافة الليبية، فقد ضَمَّتْ مقبرة السلطان محمد الفاتح أيضاً رُفَاتَ أَوَّلِ محرِّرٍ صحفيٍّ في ليبيا العزيزة”.
4 – ناجي عثمان المبروك بن غرسة : (1920 – 2015م) : ولد بجنزور، وهاجر إلى استانبول مع والدته بعد وقوع والده أسيراً لدى القوات الإيطالية، ودرس الهندسة بجامعة (G S A)، وتخرَّج مهندساً معمارياً سنة 1944م، وتحصَّل على شهادة ماجستير (باش مهندس) سنة 1946م، وكان عند إعلان الاستقلال سنة 1951م ضمن (18) خرِّيجاً جامعياً فقط على مستوى المملكة الليبية، وعاد إلى ارض الوطن وعُيِّن مستشاراً سنة 1959م، وكان بين نخبةٍ متميِّزةٍ أسَّست “وزارة الاسكان والتخطيط” سنة 1961م، ورأس لجنة التخطيط خلال السنوات (1961 – 1964م) في خطة التنمية الخماسية الأولى، واستقال من وزارة الاسكان سنة 1970م، واشتغل بالمقاولات إلى أن داهمته لجان الزحف وتمَّت مصادرة معظم أملاكه (بعد صدور قانون رقم 4 سنة 1978م)، وسُجن بعد ذلك مرَّتين خلال سنتي (1984 / 1986م)، وهاجر بعدها إلى تركيا، وتوفي باستانبول في (17 مارس 2015). عن: وجوه مشرقة في ذاكرة جنزور، إعداد اللجنة الثقافية بنادي اليرموك الرياضي الثقافي الاجتماعي بجنزور، 2016، ص 112 (الترجمة من إعداد ابنه عثمان ناجي بن غرسة). وكان قد تجاوز الثمانين ببضع سنين في تلك السنة (2003)، ولم يكن في نحو السبعين كما ذكرتُ أعلاه، وقد عمّر إلى نحو الخامسة والتسعين – تغمَّده الله برحمته ورضوانه.
5 – عبد الكريم أبو شويرب : تلقَّيتُ عدَّة رسائل من الأخ الفاضل الدكتور عبد الكريم أبو شويرب، في ظروفٍ وآونةٍ مختلفةٍ، من طرابلس ولندن، ومن بينها تلك الرسالة التي وصلتني منه باستانبول – ردّاً على بطاقتي الأولى إليه – في أوائل سنة 1994، وفيها إفادةٌ موجزةٌ / مكثَّفةٌ عن تجربته الدراسية والاجتماعية بهذه المدينة قبل بضعة عقودٍ، لذا آثرتُ نشرها في هذا السياق ؛ لصلتها الجليَّة بتجارب الليبيين الذين كانت لهم – كما يقول – مستوطناتٌ باستانبول وازمير، من القدامى، فضلاً على الطلاب الجـُدَدِ من أترابه الشباب.
“طرابلس الغرب 17 رمضان 1414 هـ. ص ب 4504 طرابلس.
………………………….
بعد التحيَّة . وصلتني بطاقتكم المؤرخة في 17 – 1 – 94، وذلك قبل بضعة أيامٍ حيث أنَّها انتقلت من يدٍ إلى يدٍ حتى وصلتني، وهذا أفضل كثيراً من البريد الذي ضيَّع العديد من رسائلي وقطع اتصالي بكثيرٍ من الأصدقاء والمراكز العلمية.
أطيب التمنِّيات والتهاني القلبيَّة بمناسبة شهر رمضان المبارك – أعاده الله على الجميع بالخير والسعادة – رغم أنَّ رمضان في استانبول ليس مثيراً رائعاً، خصوصاً لدى من جرَّب رمضان القاهرة أو دمشق.
والحقيقة أنَّ بطاقتك ذكَّرتني ببعض أيام استانبول وبعض معالمها وذكرياتها، وأولها الأيام الأولى لوصول بعثتنا المكوَّنة من أربعة أفرادٍ للدراسة على حساب المعارف التركية بمنحة قدرها 200 ليرة تركية شهرياً، سنة 1957. وأول انطباعٍ هو حول طريق المطار حيث يشهد الإنسان التناقض بين وجود أسقف المنازل المائلة أي الأوربية، مع وجود المآذن والمساجد هنا وهناك . ثم تذكَّرتُ سكني بمنطقة أكسراي، وكانت منطقة نائية بعيدة عن مركز المدينة ميدان بيازيد، وقلما يمرُّ إنسانٌ من شوارعها الهادئة السكنية، وهي الآن مزدحمةٌ بشكلٍ مزعج، وتحوَّلت المساكن بها إلى فنادق ونُزُل.
كما أنّي أعتزُّ أنَّني تعرَّفت على بقايا المهاجرين الليبيين باستانبول، حيث كانت لهم مستوطنةٌ بأسكودار، وأخرى بمنطقة بشكطاش حيث تكيَّة الشيخ ظافر وأحفاده. كما زرت مستوطنة الليبيين بمنطقة أشرف باشا بازمير، وتعرَّفت هناك على المرحوم جمال الدين الميلادي، وهو خطيب مسجدها، وكذلك إسماعيل القرمانلي، وعلي بن طاهر وغيرهم.
وعند وصولي إلى استانبول كان بها ستة طلبة بكلية الهندسة، وقرابة عشرة بكليات الطب والأسنان، واثنان بالبحرية، ومجموعة كبيرة من مكتب الفنون والصنائع الإسلامية بطرابلس، وهم يتابعون دراسة بالثانوية الصناعية. كما أذكر أنَّني في الأيام الأولى لاحظت كثرة الكلمات التركية المستعملة عندنا ممّا نستعمله بالمنزل والمطبخ واللباس والكلام اليومي، وهي عديدة ومعروفة، بل والأمثلة الدارجة مثل (كاشيك وار، بيلاو يوك) وغيرها.
بقيت الآن الصور تحكي ذكريات تلك الأيام، كيف كُنّا كطلبة ليبيين نلتقي في المناسبات والأعياد ونتزاور، ونقوم بزياراتٍ للأسر الليبية في منازلها، وبعض هذه الأسر يكرموننا أيام العيد بدعوتنا لتناول وجبة الكسكسي معهم في أحد أيام العيد، وهذا يعني الكثير للمغترب الليبي. كما تحكي الصور رحلات الطلبة الليبيين كمجموعاتٍ إلى مناطق سياحية أو مدنٍ أثرية بتركيا، ومنها يالوفا وبورصه وازمير وأنطاكيا وأفسوس (؟)، حتى وصلنا إلى إسكندرون وغيرها في رحلاتٍ سياحية.
وهذه المكتبات العتيقة باستانبول أعرفها واحدة واحدة حيث كنت أدرس بها كتب الطب، كما يفعل الآن طلبة طب الفاتح بمكتبة مركز الجهاد بطرابلس، مكتبة جامعة استانبول يوميّاً، وأحياناً مكتبة عاطف أفندي وتقع بمنطقة وفاء قرب السليمانية، وبها أيضاً أي مكتبة عاطف أفندي العديد من ذخائر ونفائس المخطوطات، أرجو أن تسنح لك الفرصة لزيارتها، هذا عدا مكتبة السليمانية المشهورة والقريبة من الجامعة.
هذه لمحاتٌ من الذكريات ممّا أثارته بطاقتك الأولى، أرجو أن تستمرَّ هذه البطاقات فربَّما أثارت أنواع أخرى من الذكريات ذات جوانب أخرى وألوان أخرى. أرجو أن تبلِّغ سلامي للأخ محمد يوسف حيث اتصلت به هاتفياً من طرابلس بعد معرفة رقم الهاتف من مركز الجهاد، وشكري له لمساعداته القيِّمة وإرشاداته خلال المكالمة الهاتفية.
أكرِّر سلامي وتهانيَّ، وكل عام وأنتم بخير. عبد الكريم أبو شويرب.
26 – 2 – 94. الموافق السنة المالية (الرومية) 26 – 2 – 1423″.
6 – أسرة ظافر المدني : أصدر أحد أحفاد أسرة الشيخ ظافر المدني (جونجور تكـﭽـهGüngÖr TekÇe) الذي أقام بالقصر طويلاً، كتاب ذكرياتٍ عن ماضيها المشار إليه : (زمان غريب في قصر ظافر Zafir Konaginde Bir Tuhaf Zaman)، وفيه لوحاتٌ عديدة للقصر والتكيَّة وللعديد من أبنائها …، اخترتُ نماذج منها في هذا السياق، وقد استفاد منه ومن غيره من المصادر الدكتور عبد الكريم أبوشويرب في كتابٍ توثيقيٍّ يجمع بين (التأليف / والترجمة / وبعض الذكريات)، بعنوان
: الشيخ محمد ظافر المدني باستانبول : التكيَّة – القصر – الأسرة، طرابلس 2012، طبعة خاصَّة بمساهمة المصرف العربي التركي (في استانبول)، 96 ص. (انظر ص 82 – 83).
7 – أسرة كوبريلى : من أصلٍ ألباني، وتُنسَب إلى قصبة (كوبرى) بالأناضول التي استقرَّت بها، وقد أنجبت رجالاً بارزين في خدمة الدولة العثمانية، وأوَّلهم محمد باشا كوبريلى الذي تولَّى الصدارة العظمى سنة (1651م)، وعند وفاته سنة (1072هـ/ 1661م) لم يكن أتمَّ من كلِّيته (بمعنى: المجمَّع المعماري) إلَّا المدرسة والحمَّام والتُّربة، وواصل ابنه فاضل أحمد باشا الذي خلفه في الصدارة بناءَها، ونظراً لتعلُّقه بالكتب أيضاً، فقد أسَّس للمكتبة بناءً مستقلّاً بالقرب من تربة أبيه ؛ حتى يتَّمكن من إيداع تلك المجموعة الغنيَّة التي تكوَّنت من كتب أبيه وكتبه، ونظراً لوفاته شاباً سنة (1676م)، فقد تأخَّر تأسيس المكتبة إلى أن تمكَّن أخوه فاضل مصطفى باشا من إتمام ذلك رسمياً بسند الوقفية التي أعدَّها سنة (1089هـ/ 1678م). وتبلغ مجموعتها التأسيسية نحو (2000) ألفي كتاب ؛ وزيدت عليها مجموعاتٌ أخرى من أبناء الأسرة اللاحقين. وإلى جانب الآثار العربية والتركية والفارسية النادرة، تضمُّ المكتبة أيضاً العديد من الآثار لعلماء مشهورين بخطوط مؤلفيها … الخ. انظر:
Ismail E. Erunsal, “Koprulu Kutuphanesi”, Turkiye Diyanet Vakfi, Islam Ansiklopedisi, c.26 (Ankara 2002), s. 257 – 258.
(مادة : مكتبة كوبريلى، دائرة المعارف الإسلامية، باللغة التركية – الإصدار الجديد).
وانظر المزيد من التفاصيل عن المكتبة ومحتوياتها في الفهرس الجامع الذي صدر في ثلاثة أجزاء : فهرس مخطوطات مكتبة كوبريلى، إعداد: الدكتور رمضان ششن، جواد ايزكى، جميل آقبكار، تقديم الدكتور أكمل الدين إحسان اوغلى، مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول، 1406هـ/ 1986م. وفي المقدمة تعريفٌ بالمكتبة، وتأسيسها، ومحتوياتها، ومنهجهم في الفهرسة، وتخلَّلتها إشاراتٌ إلى النفائس القديمة ؛ أولها : “وأقدم مخطوطةٍ في المكتبة هي نسخة كتاب المقتضب للمبرد، المسجَّلة برقم (1507 – 158) من القسم الأول، وهي نسخةٌ كتبها مهلهل بن أحمد أحد تلاميذ ابن مقلة سنة 347هـ ببغداد، ثم صحَّحها أبو سعيد السيرافي، وكتب عليها تعليقاتٍ في الهامش”. ص 14.
8 – مخطوط العز والمنافع : لا أزال أحتفظ (بملفٍّ استانبوليٍّ( قديمٍ، وجدت فيه صفحاتٍ متفرِّقةً ممَّا دوَّنته في تلك السنة بالمكتبة نفسها :
(أ) – مخطوط في سلاح المدفعية: “بينما كنت أذرع أحد شوارع استانبول، بالقرب من بايزيد، ظهيرة يوم الخميس (27 – 8 – 1981م)، صحبة صديقي الدكتور عبد الكريم أبوشويرب، إذا به يقول : سأُريك شيئاً يسرُّك، وقد لا تسنح الفرصة كثيراً لرؤيته، وأشار إلى مبنىً عتيقٍ صغيرٍ إلى يسارنا، فدخلناه فإذا هو مكتبةٌ صغيرةٌ لا تعدو الصحن الواحد، ولكنَّها غنيَّةٌ بمحتواها ؛ وهي مكتبة كوبريلى زاده (تأسَّست سنة ….). وقد بادرت إلى فهرسها الواقع في مجلَّدٍ واحدٍ أقلِّبُه صفحةً صفحةً، وكان أوَّل ما شدَّ انتباهي هذا العنوان: (العزُّ والمنافع بالمدافع للمجاهدين) – (كذا)، فسارعت إلى طلب المخطوط وأخذت في تصفُّحه وتدوين بعض البيانات عنه في فرحٍ وغبطة. وسرعان ما تذكَّرت أنَّني قرأت عن هذا المخطوط في إحدى المجلات منذ مدَّةٍ لا أدري مداها. كما تذكَّرت أنَّني مررت بهذا الاسم في أحد فهارس المخطوطات. ولكنَّ ذلك لم يُثْنِ عزمي عن مصاحبة هذا المخطوط طيلة صباح اليوم التالي ويومٍ آخر بعده.
(ب) – صفحة الغلاف الداخلية: “كتاب العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع – في سبيل الله . تأليف الرييس إبراهيم بن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا الأندلسي. كتبه بالأعجمية، وترجمه له بالعربية ترجمان سلاطين مراكش أحمد بن قاسم بن أحمد بن الفقيه قاسم بن الشيخ الحجري الأندلسي”. 142 ورقة من حجمٍ كبير.
أوله: “بسم الله الرحمن الرحيم وصلَّى الله على سيِّدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلَّم. وهذا برنامج الكتاب فيه خمسون باباً، وما صدر المؤلف في أوله من رحلته، وما ذكر مترجم الكتاب من الأعجمي إلى العربي في آخره من رحلته، وفي فضل الجهاد وغير ذلك”.
آخره: “تمَّت النسخة المباركة لهذا الكتاب في اليوم الثاني عشر من شهر ذي القعدة من عام ثمانٍ وأربعين وألف سنة. على يدي العبد المذنب الراجي عفو الله وغفرانه محمد خوجه بن أحمد المترجم للكتاب بن قاسم بن أحمد بن الفقيه قاسم بن الشيخ الحجري الأندلسي – تقبَّل الله ممَّن أمره بكتبه بمنِّه وكرمه وصلَّى الله على سيِّدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً”.
(ج) – “ونطلب من قاري هذا الكتاب أن لا ينظر لعبارتي لأنِّي لست بعالمٍ ولا أديب، ولاكن بسبب الشقاء الذي جاز عليَّ أدركت به شيئاً من التجريب، لأنِّي باشرت هذه الصناعة نحو الثلاثين سنة في أسفار البحر، وكنت مولعاً في أسرارها (كذا)، وكنت أخالط أهل هذا الفن الماهرين فيه لنستفيد منهم، ولا يظن بي أنَّ الذي أذكر هو ممَّا سمعت ونقلت من الكتب، بل هو الذي نفعل في الوقت الذي نحتاج إليه، والله المستعان”. ورقة 9 – ب / 10 -أ.
(د) – “ملاحظة: الأوراق التي عليها رسوٌم من نوعٍ خاص تختلف عن سائر أوراق المخطوط بسمكها وصقلها”.
9 – اليوميَّات الليبيَّة : في هذا الجزء الحربي من اليوميات تبدو الحاجة ماسَّةً إلى مصدرٍ (فنِّيٍّ) حول المدافع التي برز دورها جليّاً في الصراع بين الطرفين، وتعدَّدت الإشارات – عرضاً – إلى بعض أجزائها ومصطلحاتها. وكنت أفضِّل أن أعود في هذا الخصوص إلى عملٍ فنِّيٍّ معاصر لتلك الفترة حول المدافع هنا أو هناك. ولكنَّني لم أجد بين يدي سوى مخطوطة “العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع” …الخ. حسن الفقيه حسن، اليوميات الليبية: الجزء الثاني (الحرب الأهلية ونهاية العهد القرمانلي 1248 – 1251 هـ / 1832 – 1835م)، طرابلس : مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، 2001، ص 19 من مقدمة التحقيق.
* [وقد وقفتُ أخيراً من خلال (الانترنت) على أنَّ هذا المخطوط العلميَّ القيِّم حقَّقه الدكتور إحسان الهندي الباحث المتخصِّص في العلوم الحربية، وصدر عن دار الكتب الوطنية في هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة سنة 2013].
* يوميات استانبول (2003): رحلةٌ بحثيَّة ليبيَّة في الأرشيف العثماني والمكتبات التركية.