“خاطري نعرف من اللي مفهّمك إن الأغاني هادي حلال في رمضان؟”.
هذا ما كانت تقوله لي براءة عندما أستمع بشغف لبعض الأغنيات دون سواها في شهر رمضان خاصة في السيارة، نعم في شهر رمضان لأن ما أخجل من عمله في رمضان لن أقوم به في وقت آخر، ورغم هذا فإن أجواءه الروحانية والاجتماعية العامة لا تترك لي مجالا لأستمع لأي شيء لا للأغنيات ولا حتى للفتاوى المتكررة التي سئمتُها وسئمَها الناس وسئمها حتى الشيخ الذي ملّ من تكرارها الغبي.
لنعد إلى الأغنيات “الحلال” كما سمتها براءة تهكما على ذوق أمها، كنتُ ولا زلت أردد سؤالي الوجودي: أين سُرّتي يا أمي؟
خرافات شعبية ربما هي التي ولّدت عند الأمهات والجدات قناعة بقدرة خفية على تحديد مستقبل مولودها بالمكان الذي تضع فيه سُرّتَه، فإذا أرادت أن يكون متعلما رمتها في باحة مدرسة أما إذا رفعت من سقف طموحاتها وأرادت أن يكون طبيبا رمتها في كلية الطب أو في مستشفى مثلا وإذا أرادت أن يكون محاميا رمتها في محكمة ولا أعرف هنا كيف ضمنت أن يدخلها رجل قانون لا مجرما أو متهما على الأقل، لكنها قناعاتهن الراسخة رغم غرابة بعضها.
ولطالما سمعت قصة جارتنا التي أنجبت ابنها في المطبخ قبل أن يسعفها الوقت وتذهب إلى المستشفى، لكن ابنها لم يصبح طباخا معروفا بل صار نهِما لا يشبع ولا يغادر المطبخ إلا ليعود إليه فيأكل ويشرب ويغني أحيانا.
لنعد إلى سُرَّتي أنا، سألت أمي كثيرا عن مصيرها وأخبرتني كثيرا أنها احتفظت بها مع بعض أشيائي ثم تاهت في طريقها من غرفتنا في بيت جدي إلى بيتنا الذي انتقلنا إليه وعمري فقط بضع سنين وقالت لي إنها لم تتعمد أن تضعها في مكان بعينه لتربطني به، أمي لم تكن زارت نالوت يوما ورغم ذلك درستُ فيها القانون.
لم أبقَ تائهة لوقت طويل، فمنذ سنوات كانت الإجابة تتسرب إلى روحي وتخرس هذا السؤال، أو ربما تراوغه بذكاء فتضع في طريقه عددا من الاحتمالات التي أستطيع أن أصدقها وأنا مغمضة العينين مطمئنة الفؤاد، أعرف الآن أنها ليست مجرد قطعة من الجلد اليابس، هي حبل سري طويل احتفظ ببعض عروقي التي امتدت فيه، وبعد أن كان يربطني بأمي صار يربطني بكل مكان قد يكون وضع فيه.
عندما أتحسس ضعفي أمام غرة من الشعر الأحمر تؤطر وجها جعده الزمن أشعر بأن جزءا من حبلي السري يرتسم مع ثنايا رداء بألوان الربيع ويخجل من أن يحجب وجها بهذا الجمال والألق، وعندما تختصر عيناي الهيبة كلها والبهاء كله في جردٍ عاجيّ لم يفرط فيه صاحبه ويسلمه للعتمة والغبار فعلقه على كتفين أرهقهما الزمن أشعر بأن جزءا من حبلي السري معقود في توكامية هذا الجرد، وعندما أقيس البهجة التي تبثها فيّ رائحة أزهار القندول أشك بأن أمي قد وضعت سرتي تحت عود صغير منه فأزهر وصار سجنا كبيرا من الشوك يحرسها ويرويها من رحيق ورده الجميل رائحة ولونا، وقد تكون سُرَّتي تحت زرتي حلفاء عمره أطول من عمري، أو ملقاة في الزُّرقة الصافية لبحر الأثرون أو معجونة مع تفّون جبل غريان أو تستظل بحجارة عمود إغريقي في حديقة زيوس أو تائهة في صحراء مغاديت في ظل غابتها المتحجرة، وقد تكون دفنت بجانب عمود يسند خيمة تتوسط نجعا صامدا في وجه الحضارة، أو رافقت في زمن آخر قافلة جرمنتية من جنوب الوطن إلى شماله.
نجع وقافلة وحكايات كثيرة تمتد على هذه الأرض منذ فجر التاريخ، خيل وفرسان وإبل، جدي الريم والعين السودا وجرجار طرف حرامه وقبل ذلك “يشيب هذبها” و”يا غزيّل لمن” و”طقّات الرّحى”، كل هذا الدفق من الجمال كان ولازال في ذاكرتي مرتبطا بشهر رمضان وبأصالة ليبية حتى وأنا لا أفهم بعضها ولم أعش تفاصيله لكن روحي تذوب فيها وأتحول إلى كائن يهيم على وجهه في طول البلاد وعرضها بعينين عاشقتين وقلب متيم، ورغم انتمائي للإنسان الحقيقي في كل مكان إلا أنني ليبية جدا وسُرَّتي لازالت هنا معي في هذه الأرض.
هذه روابط بعض الأغنيات من “النجع” و”القافلة”، بهاء ليبي أصيل وجمال يحتفي بإنسانيتنا وسمو يحضر في الحب وفي الحرب وفي الحزن وعندما نفرح، فالشعر ديوان الليبيين والأغنيات وجهنا الجميل.