حكايات وذكريات: سيرة قلم 14
سعيد العريبي
تمكنت خلال عملي بمستشفى التأمين بالحدائق.. من مزوالة هوايتي المفضلة.. حيث تفرغت للقراءة والكتابة.. خاصة أثناء عملي بقسم الإستقبال وبالذات في الفترة الليلية التي كانت تتيح لي الكثير من الوقت والهدوء.
ومن هنا بدأت محاولاتي الأولى في الكتابة.. وقد نشرت بعضها في تلك المرحلة المبكرة.
كنت ومنذ الصغر من أشد المعجبين بالنيهوم.. أتتبع أخباره وأحرص على جمع كتبه ومقالاته وأحفظ العديد من جمله وعباراته عن ظهر قلب.. وكنت استمتع جدا بما كان يرويه أصدقاؤه المقربون منه.. عن طفولته وشبابه وعن عباراته الغريبة الجميلة.
وكم كانت سعادتي كبيرة.. عندما تحصلت ذات يوم على عدد خاص من مجلة جيل ورسالة.. خصصته أسرة تحريرها للنيهوم.. ضم العديد من المقالات التي كتبت عنه.. كمقالة: النيهوم شاعرا.. ومقالة: النيهوم رساما.. ومقالة أخرى رائعة كتبها الشاعر علي الفزاني عن ذكرياته معه.. بالإضافة إلى مجموعة مختارة من مقالات النيهوم المميزة.. وقد نال ذلك العدد الخاص إعجابي الشديد.. كررت قراءته لمرات ومرات.. واحتفظت به في مكتبتي ككنز ثمين.
وبتأثير كبير مما قرأت له أو عنه.. كانت إحدى محاولتي الأولى في الكتابة.. في تلك الفترة المبكرة من حياتي.. خاطرة عن النيهوم.. بعثت بها إلى صحيفة الجهاد.. وانتظرت بشغف شديد كي أراها منشورة على إحدى صفحاتها.. لكن ذلك لم يحدث.. فلم تنشر الخاطرة.. يبدو أنها لم تنل إعجابهم.. أو أنها وقعت في اليد الخطأ.. فقد رفضوا فكرة مخاطبة النيهوم من خلال صحيفتهم.. ولم يعجبوا بكل ذاك التقدير الذي كنت أكنه له.. عرفت كل ذلك من تلك الملاحظة البسيطة التي وجهت إلي من خلال الصحيفة والتي تقول: (الأخ سعيد العريبي/ الذي يشيد بالنيهوم كثيرا ويثني عليه وعلى أدبه.. ويتطلع لعودته إلى بنغازي.. ننصحك بإرسال ما كتبت إلى المعني مباشرة).
في ذلك الوقت لم يدر بخلدي أنني سوف ألتقيه في بنغازي.. وتتوطد علاقتي به.. وأوجه رسائلي إليه مباشرة.. ويمنحني توكيلا قانونيا.. لطباعة كتبه في داخل البلاد وخارجها.
وكنت كذلك من المعجبين بالشلطامي:
ومتابعا كغيري لما ينشر وما يذاع من أخبار الشعراء والأدباء في بلادنا.. وقد تعرفت على الشلطامي وشعره.. في تلك الفترة من خلال كتابيه: “تذاكر للجحيم” و “أنشودة الحزن العميق”.
لكن أهم ما لفت انتباهي.. هو صدور كتابه: “أناشيد عن الموت والحب والحريّة”.. الذي عرض في المكتبات وسحب منها سريعا.. وأنتشر الخبر في الوسط الثقافي وفي بنغازي بأسرها.. التي كانت لا تزال تتكئ على بقايا موروثها الثقافي.. حينما كانت في فترة الستينيات عاصمة الثقافة في بلادنا فعلا لا قولا.. أي قبل صدور هذا الكتاب بسنوات معدودة.. وقد استهواني وشدني هذا الكتاب لثلاثة أسباب:
أوّلها: عنوانه الخطير والملفت للنظر: “أناشيد عن الموت والحب والحريّة”.
وثانيها: سحبه من المكتبات ومنعه من التداول.
وثالثها: ما شاهدته من ندم وحسرة نخبة من مثقفي مدينتنا.. لعدم حصولهم على نسخة منه.
في ذلك الوقت.. وفي ظل تلك الظروف المشحونة.. تضامنت كغيري من المثقفين مع صاحب أناشيد الموت والحب والحريّة.. واعتبرت نفسي واحدا منهم.. وطفقت أركض في بنغازي بحثا عن نسخة من كتابه الممنوع.. إلى أن وجدتها عند أحد الأصدقاء.. فأعارها لي بعد إلحاح شديد ليوم واحد فقط.. واشترط علي ضرورة إعادتها إليه صباح اليوم التالي.. فقبلت شرطه وذهبت إلى بيتي على عجل واعتكفت فيه.. حتى انتهيت من كتابة نسخة منه بخط اليد.. ولا تزال تلك النسخة اليدوية موجودة عندي.. وفي الصباح ذهبت إلى صديقي وسلمته الكتاب.
وقتها لم يكن يدر بخلدي أنه وبعد ربع قرن من الزمان.. سوف يزورني الشلطامي في بيتي حاملا معه كتابه الممنوع مع مجموعة أخرى من كتبه كهدية قيمة منه.. يقدمها لي شكرا على مقالتي عنه: (شاعر في الظل).. التي نشرتها بالمواقع الإلكترونية الليبية.. وفي ذلك الوقت الذي يخشي فيه الكثير من الكتاب الكتابة عنه.. باعتباره أحد سجناء الرأي.. وقد نالت تلك المقالة إعجابه الشديد.
وتذكرت وأنا اتصفح هداياه القيمة وبالذات كتابه المشار إليه.. تذكرت تلك الأيام التي كنت أجوب شوارع مدينتنا الحبيبة بحثا عنه.. وتذكرت أيضا شرط صاحبي بضرورة احضاره صباحا.. فشكرت الله من الأعماق.
ثم شكرت شاعرنا الكبير على طيبته وتواضعه وحسن خلقه.. حينما قرأت ما كتبه على صفحته الأولى: “أخي الحبيب/ سعيد العريبي.. أقدم لك هذه النسخة.. آملا أن أوافيك بالجديد مستقبلا”…… المخلص/ محمد الشلطامي/ 2001.03.06