دراسات

العمارة التقليدية المحلية.. حوش (الحرملك) نموذجا

الدكتورة مفيدة محمد جبران
الدكتورة مفيدة محمد جبران

المعروف في العمارة الإسلامية أو في تخطيط المدن الإسلامية، أن المباني برمتها تتعلق حول المساجد، فكانت تبنى المنازل ثم الأسواق ثم الفنادق ثم الحمامات ثم المنشآت الدفاعية. إلخ.

واعتمد هذا التخطيط في البداية على العفوية الطبيعية حيث كان توسع هذه العمائر وازديادها جاء وفق متطلبات ومقتضيات الناس وظروفهم والاقتصادية.

ومع تطور الزمن وتطور الاحتياجات ظهرت رؤية جديدة تعتمد على معطيات طبقية وسياسية ودينية أيضاً، وكل هذه المعطيات خضعت خضوعًا تامًا للعادات والتقاليد المحلية فنتجت لنا عمارة خاصة ذات خصوصية معمارية جمعت بين الظروف البيئة والعقائدية والمناخية والاقتصادية المتفاوتة.

وهذا التخطيط المعماري المتناسب مع العادات والتقاليد خضع لعدة اعتبارات منها:

1- الاعتبارات الدينية

حيث نظمت منذ ظهور الإسلام ضوابط حصرت فيما يسمي بأحكام (ضرر الكشف) وذلك عملا بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم (لأضرر ولإضرار)، ويقصد بضرر الكشف أن تكون عمارة المسكن مصممة بشكل يقي عيون المتطفلين ويمنع كشف حرمات البيوت ومن بداخلها.

وكما حددها الخليفة والصحابي عمر بن الخطاب حيث أصدر تعليمات تحدد أبعاد الشوارع والأزقة وارتفاع البيوت واحترام حرمه الاخريين، فلا يحق لشخص أن يفتح نافذة أو بابا مقابل جارة ويكشف من بداخل بيته، وكذلك لا يمكن للمارة الاطلاع على من بداخل المسكن.

ومنها ظهرت ظاهرة تنكيب الابواب، وما نقصده هو عدم مواجهة أبواب المنازل لبعضها البعض وذلك تماديا في تفادي وقوع ضرر الكشف ومن خلال الزيارات المتكررة للمدنية القديمة طرابلس لاحظنا ظاهرة تنكيب الأبواب فلا يوجد باب يقابل باب.

وانعكس هذا الطراز في شكل الطرقات الملتوية المنكسرة الذي خدمت المارة ووفرت لهم حماية من العوامل الطبيعية الأمطار والرياح وأشعة الشمس الحارقة.

2- الاعتبارات الاجتماعية

روعي في تصمم البيت النواحي الاجتماعية والنفسية لأن إهمال هذه النواحي يشكل سلبا على الحياة داخل البيت وخاصة وإن البيوت التقليدية كانت تسكنها أكثر من أسرة. وقد اعتمد في هذا الاعتبار على الحرص والخوف من الضرر الناتج عن كشف عن الحرم وعن ساكنيه، وأصبح هذا الخوف من العرف والعادات والتقاليد الذي توارثها جيل بعد جيل مستندا على الشريعة (القران والسنة النبوية) ومن الخوف من العقاب الدنيوي والديني.

3- الاعتبارات المناخية

إن الطبيعة الجغرافية للمنطقة تؤثر في تصميم البيت التقليدي، وعلي المصمم مراعاة كيفية حماية الساكن من هذه العوامل (درجة الحرارة – الرياح – الأمطار) وكيفية تطويعها لصالحه ليتيح له العيش براحة داخل مسكنه، وتكمن هذه الراحة في كيفية تطويع شدة الحرارة وشده البرودة وكثرة الأمطار وكذلك حركة الشمس وانعكاساتها.

خلال الدراسة الميدانية لفراغات مجموعة من الحياش التقليدية بالمدينة القديمة طرابلس (حوش محسن + حوش القره مانلي + حوش محمود بي + حوش الدغيس) أتضح لي إنها بنيت داخل سور المدنية القديمة طرابلس على الطراز المحلي القديم. (حوش عربى) وإن معمارها كان خاضعاً للعادات والتقاليد العربية المستمدة من التشريعات الإسلامية. وكانت انعكاسا واضحاً للتفاوت الاجتماعي بين سكانها والمعتمد على التفاوت الطبقي والاقتصادي، ويظهر هذا التفاوت المعماري في تفاوت المساحة المخصصة للمبنى ما بين المساحة الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، وكذلك في ارتفاعات المبنى، التفاوت في الناحية الجمالية المتمثلة في حجم مساحة الفناء وتعدد الأعمدة، البلاطات الخزفية…إلخ.

كتاب (حوش حرملك) للدكتورة مفيدة محمد جبران
كتاب (حوش حرملك) للدكتورة مفيدة محمد جبران

كما صممت هذه المساكن لتضم عدة نماذج أو طرز مختلفة في عمارة الغرف (دار القبول – دار السدة)، وربما تكراره في بعض الأحيان، حيث يمكن الإضافة فيه في حالة زيادة أتساع المسكن وازدياد أفراد شاغليه، وربطها ببعضها بممرات مشاه.

ويعد مدخل البيت من أهم سمات العناصر المعمارية في البيت الطرابلسي، فهو يحمل العديد من الخصائص الدينية والاجتماعية السالفة الذكر.

وبطبيعة الحال فان البيت التقليدي الطرابلسي تعرض لعدة تحويرات معمارية نتيجة للتطور الزمني، ففي السابق كان هناك أوجه تشابه بين الحوش التقليدي بالحاضرة وبين الحوش الريفي من حيث بساطة المعمار وانكسار السقيفة لتمنع الرؤيا عن الخارج.

ولكن في العهد العثماني الأول ظهر تطوراً ملحوظاً في المعمار من حيث اتساع المساحة، وإدخال بعض الجماليات الزخرفية عند بيوت الحكام والأثرياء ثم أزداد هذا التطور في العهد القره مانلي، نتيجة انفتاح البلاد نحو الدول المجاورة، وانتعاشها اقتصاديا وتجارياً.

فأدخلت على هذه العمائر العمرانية بعض الخصائص المعمارية منها الأقواس، والأعمدة الإسلامية والرومانية، النافورات، بناء الشرفات، انفتاح النوافذ خارج المبنى، النقوش والزخارف الجصية النباتية والهندسية والحيوانية التي تعكس دلالات مرتبطة بالثقافة المحلية كهلال والنجمة والحويتة، عادة تكون الزخرفة على المداخل والأبواب المزدانة بالطقطقات المتعددة الأشكال والأحجام، بناء الفسقيات المختلفة المساحة، تميز الحوائط بالبلاطات الخزفية ذات الأشكال النباتية أو الهندسية التي تسر الناظر.

أما من ناحية الطوابق أو الأدوار، فهناك نوعان من الحياش، أحداها تتألف من دور أرضي وعلي فقط، (والعلي هي حجرة وحمام ذات مساحة صغيرة جداً تعادل ربع مساحة المنزل نفسه)، والنوع الثاني دور أرضي ودور أول. سواء إن بنيت في المدينة أو القري كما وصفتها لنا مس توللي واتفق معها خليفة التليسي وهذا ما وقفت عليه أثناء الزيارة الميدانية لمجموعة من الحياش التقليدية في طرابلس (لا تختلف هذه الحياش في تخطيطها العام عن البيوت العربية التقليدية بالمدن العربية).

وكل المعطيات السالفة الذكر شكلت وحدة متناسقة جمعت الخصوصية والسمة المعمارية المحلية الجميلة للحوش التقليدي الطرابلسي.

مقالات ذات علاقة

ليبيا واسعة – 38 (بـاهـي)

عبدالرحمن جماعة

ارتجاليات تراثية ليبية (الحلقة الثانية والأخيرة)

المشرف العام

الوفاءُ للمكانِ والبيئة في “حكايات شارع الغربي” عند المرحوم خليفة حسين مصطفى(*)

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق