في روايتها الثانية (زمن الغبار)(1) تواصل الأديبة التونسية فاطمة بن محمود مشروع تصديها للتشوهات الفكرية التي انصبغت بها تنظيرات الإسلام السياسي وأطروحاته الأيديولوجية، وسعي قياداته وزعاماته للهيمنة التمكينية واستغلال مواقعهم السلطوية الحاكمية لترسيخ تلك التشوهات كثقافة في السلوك اليومي للممارسات المجتمعية العربية، حيث دأبت هذه الأديبة في كتاباتها وأعمالها الإبداعية على مناهضة الفكر الظلامي المتشدد، في جميع مظاهره، الثقافية، والدينية، والسياسية، وذلك بتفكيك خطابه، وفضح آلياته، ونقد مبادئه التي تناقض المعطيات الدينية التاريخية، معتمدة على المنهج العقلاني في التحليل والمقاربة النقدية والرجوع إلى الأحداث في أصول جذورها الدينية الاسلامية والتاريخية الأساسية.
وقد وظفت الأديبة في مشروعها الإبداعي المتميز رواياتها المتأسسة على إضاءاتِ الفكر الإنساني المستنير بالتحليلات والتفاسير القرآنية والأحاديث النبوية والنقود الموضوعية المعززة بالأسئلة الفلسفية العقلانية العميقة، وغزارة قاموسها الثري بلغته الإيحائية الرشيقة، ورؤاه الاستشفافية التي تغوص بعيداً في أعماق الحالة التي يعيشها المجتمع العربي في ظل السلط الحاكمة المستبدة، المتشبتة بكراسيها وقياداتها بتمكينٍ وحمايةٍ ديكتاتورياتٍ أيديولوجيةٍ مستبدةٍ، تتجاهل المعاناة الحقيقية للشعوب العربية وشريحة الشباب على وجه الخصوص، واستغلال ضعف مستواهم التعليمي ودرجة التجهيل السائدة بينهم للتفنن في ابتكار أساليب التغرير والغواية الخبيثة لاصطيادهم وإيقاعهم فرائس سهلة في حضن المتطرفين الإسلاميين الذين قادوهم إلى حروب طاحنة خسرت فيها الشعوب العربية أرواح شبابها وأضاعت هدي وسماحة دينها وإسلامها الحقيقي.
وهي بعد أن دشنت باكورة مشروعها الروائي سنة 2021م بإصدار روايتها الأولى (الملائكة لا تطير)(2) جاءت روايتها الثانية (زمن الغبار) لتواصل السير على نفس النهج الانتقادي في تعرية الجهل الديني والفساد المجتمعي، وتتقاطع في عدة جوانب نظرية فكرية وسلوكية عملية مع صور الحياة المعاشة في مجتمعها، تسعى الكاتبة من خلال عمليها الأدبيين الرائعين فضح الأفكار المتطرفة، وتوجيه نقودها اللاذعة للأفراد والمؤسسات على حد سواء. وحتى إن ظل الفضاء المكاني في رواية (الملائكة لا تطير) مقتصراً على تونس ولم تغادره خارجها إلاّ تلميحاً، فإن (زمن الغبار) قد توسعت وخرجت عن نطاق الجغرافية المغاربية التونسية لتنتقل إلى المشرق العربي حيث ينقل العديد من الشباب التونسيين للقتال في معارك باسم دولة الخلافة الاسلامية ضد قوات الجيش السوري في مدينة الرقة. وهذا التوسع والتمدد الجغرافي يأتي كإشارة إلى المشاركة العربية في شمولية هذه المعاناة الفكرية المجتمعية وتداعيات تأثيراتها الواسعة التي تطال بلدان الوطن العربي كافةً.
بعض الخصائص الفنية للرواية:
1 – العنوان
يمثل العنوان (زمن الغبار) عتبة أولى للنصّ الروائي لأنه البوابة الاستهلالية التي يلج القاريء من خلالها إلى عوالم الرواية ليتعرف على فكرتها، وفضاءاتها الزمكانية، وشخصياتها وأساليبها السردية. كما يظهر كواجهة تحمل الجملة المفتاح التي تظل مع القاريء طوال فصول الرواية لتمارس عليه هيمنة أدبية وسلطة فكرية، تبعث فيه رغبة متواصلة لفك تركيبتها اللغوية ومعرفة دلالاتها البنيوية من خلال مفردتي الزمن والغبار والبحث في العلاقة المتلازمة بينهما، حيث الزمن إشارة إلى الوقت أو العصر الثابت المستمر عبر الأجيال، بينما الغبار هو الحدث الطاريء المتغير حسب الظروف المستجدة فيحجب الرؤية لفترة قصيرة ثم سرعان ما ينقشع، ولعل هذه الثنائية المتضادة المراوحة بين الثابت والمتحول تعمل على خلق ديناميكية درامية في أحداث الرواية، وتبعث جاذبية وتشويقاً لمطالعتها بكل شغف(3). وعلى هذا الأساس جاء العنوان (زمن الغبار) مركباً لغوياً منسجماً مع هدفه ومضمون الرواية وفق حقول دلالية وفكرية تتناسل بشكل غير محدود، وتتوالد بإنتاج تفسيرات عديدة وإفراز تأويلات فكرية أخرى.
أما الخطابُ الذي يتضمنه عنوان (زمن الغبار) فقد جاء بليغاً دالاً على الجمع بين متغيرين وهما الزمن الثابت في استمراريته التي يتبدل فيها من حين لحين ومن عصر لأخر، وكذلك الغبار الذي يتخلق بظروف فيزيائية ومجتمعية فكرية معينة، وسرعان ما يثار فيحجب الرؤية ويتحرك باتجاهات تحددها طبيعة المتغيرات ذاتها موضوعياً وجغرافياً. ونستطيع القول (إنَّ هذه النسقية الفكرية للعنوان تمنح إضاءة من نوع خاص للقارئ تضمن له تأويل النصّ وفق وظائفه الإيحائية المختلفة التي تكون وفق مستويين أساسين هما: مستوى القراءة الظاهرة التي تحتمها قراءة المستويات المعجمية والتركيبية، ومستوى القراءة المعنوية العميقة التي تحتمها القراءة التفسيرية والتأويلية للنصّ)(4).
2 – تقنيات السرد
لعل أبرز العناصر الفنية في رواية (زمن الغبار) هو اعتمادها على السرد الاستذكاري أو الذاكرة الاسترجاعية في تناول الأحداث، ويظهر هذا السرد من خلال توظيف الكاتبة لتقنية التذكر الماضوي، الذي تميز بالرجوع الزمني القديم إلى الوراء بكل براعة وإتقان فجاء النصّ بهيكل متماسك البناء، بعيداً عن التكرار أثناء التنقل بين الأمكنة والأزمنة الروائية بشكل أوسع وأشمل، وطالما أن الرواية هي رحلة في الزمان والمكان معاً، فإن الكاتبة جعلت عناصرها تحقق تفاعلاً إيجابياً مع المتلقي. كما نلاحظ أن رواية (زمن الغبار) لم تكتفي باحتضان الواقع بحقائقه وأحداثه المجردة مثل تحديد التاريخ المتكرر في (يوم الاثنين 29 جويليه 2023 الموافق ليوم 20 من شهر رمضان 1434 هجري) متنقلا بتوقيتاته الزمنية التونسية والسورية، بين مصحة الهناء غرفة رقم 216 في تونس، وعدة أمكنة داخل سوريا من بينها المستشفى الميداني لمعسكر الزرقاوي بمدينة الرقة، بل نلمس اكتساء الواقع بسماتٍ واضحة من صور وأحداث تخيلية عذبة، وأدب حواري نقدي جدلي ممتع يتميز بتغليب العقل والمنطق على المعتقدات المسلم بها في الأطروحات الفكرية والفلسفية التي يتبناها الخطاب الديني المتطرف.
3- شخصيات الرواية:
جاء توطين العناصر الروائية والتي أبرزها شخصيات النصّ متناسقاً مع الطرح السردي لفكرة العمل، وكان تحريك هذه الشخصيات في سياقات الفضاء الروائي سواء من حيث خصائص وأوصاف الأمكنة التي يصورها، أو الأزمنة التي يتواجد فيها. وكل ذلك أضفى على الرواية جماليات خطابية عديدة، وتشويقاً وجاذبية للفكر، وبهجةً للروح، وإمتاعاً للعقل الإنساني للتدبر في كل تفاصيل الرواية ورسالتها وصيرورة شخصياتها.
وعلى رغم كثرة شخصيات رواية (زمن الغبار) التي بلغ عددها حوالي ثلاثين شخصية مختلفة ومتنوعة فإنها اقتصرت على بطلين رئيسيين فقط أثارا الكثير من الغبار في وجه السلط الحاكمة، فطالهما عقابها وصفعاتها القوية لتسقط البطلة الأولى (ثريا) بهراوة غليظة جعلتها ترقد في غيبوبة بإحدى المصحات الطبية التونسية، تأكيداً على أن السلطة ترفض الإفصاح عن الجرائم وتسعى بكل جبروتها لإسكات صوت التبليغ عنها، مثلما كانت (ثريا) تصرخ (أريد أن أخبر رئيس الدولة بكل شىء) بينما سلطة الدولة لا تريد أن تسمع أي شيء، بل لا تريد أحداً أن يخبر أو يعرف الحقيقة. أما البطل الثاني (ربيع) فقد تعرض للإصابة بالرصاص أثناء إحدى المعارك التي خاضها للدفاع عن دولة الخلافة الإسلامية بعد أن بايع خليفتها فترك دراسته وبلده وانتمى إليها، وهو يقاتل مدافعاً عنها ومتصدياً للقوات السورية في الشام خارج بلده تونس.
وحتى وإن كان توقيت إصابة البطلين الرئيسيين في الرواية متقارباً، فإن مكان إصابتيهما مختلفٌ تماماً. فالأم (ثريا) واجهتها قوة الحرس الرئاسي داخل تونس، بينما ابنها الوحيد (ربيع) كانت إصابته في سوريا حين انضم لجيش الخلافة الاسلامية لقتال مسلمين آخرين في تلك البقاع القاصية. واختلاف المكانين ربما يعكس تشابه المعاناة الفكرية العربية المتردية في الشرق والغرب، وأساليب تعامل الموقف العربي تجاهها سواء على الصعيد الحكومي أو الشعبي داخل تونس أو خارجها في سوريا أو غيرها، وهو ما يضفي شمولية أبعد لفكرة الرواية وفضاءاتها الزمنية والمكانية، وبالتالي يمنحها الكثير من الجاذبية والتشويق.
4 – التنقل بين الأزمنة والأمكنة:
أول ما يلفت انتباه القاري في الأسلوب السردي لدى فاطمة بن محمود في رواية (زمن الغبار) هو براعتها في التنقل السلس بين الأزمنة والأمكنة مستخدمةً تقنية (الفلاش باك) بكل اقتدار، ودون أي إحساس بالملل التعبيري أو بانفصال وانقطاع الزمن أثناء السرد. ولم يظهر هذا التنقل الفني الممتع مجرداً أو خالياً مما يتطلبه من مشاعر حسية ومفردات وعناصر زمنية أو مكانية، بل ظل طوال الرواية مكتظاً وثرياً بخصائص مقوماته مما جعله متماسكاً طوال فصول الرواية.
5 – الأسئلة المطرقة:
ظهرت الأسئلة غزيرة في الرواية لما تمثله من ناقوس أو مطرقة تحمل الكثير من الاستفزاز الفكري والبعد الفلسفي التفسيري في نقد التصرفات والأفكار المشوشة، مع الاتيان بما يفند أو يصحح ذلك، وكل هذا يعكس المرجعية الفكرية والثقافة الغزيرة التي تتمتع بها الكاتبة، مع غيرتها وحصرها على رفعة المجتمع وسمو البلد بعيداً عن هذه الانحطاطات الأيديولوجية المنصبغة بإسلام لا يمت للإسلام.
وقد تنوعت أساليب الأسئلة التي تعددت بأشكالها الاستفهامية المغلقة والمفتوحة، سواء المنفصلة أو المخاطبة لشخصية مباشرة أو تلك التي تبثها الذات المتكلمة في حوار مونولوجي داخلي أو غيرها:
(أيةُ فكرةٍ شريرة ٍتجعله يفرُّ مني؟ كيف يستلذُ حياةً لستُ فيها؟)(5)
(هل يكره اللهُ الحبَّ؟
هل يتربصُ اللهُ بالمحبين أيضاً؟)(6)
(أيُّ دين يرضى هذا المصير لأكبادنا؟
أيُّ ربٍّ يقبل أنْ يتحوَّلَ الشبابُ إلى قرابين له؟)(7)
(- هل أنتَ من الترويكا؟
ردّ من خلال ضحكة صغيرة:
– في الحقيقة أنا مع حزب حركة النهضة. جئتُ لمساندتها.
شل عقلها ولم تعد تقوى على التفكير. هل هذا فتاها الذي اكتشفت متعة الحياة معه وتنفست دخان سجائره وأقنعها أن الاشتراكية ستسود يوما العالم وتحقق العدالة والحرية للجميع؟)(8)
(- وأنتِ ماذا تفعلين هنا؟
أجابت بصوت حزين:
– تزوجت. زوجي اختار أن يهاجر إلى الخليج الناعم وأنا هنا أصارع الحياة. ولدي الوحيد ربيع افتكه منه التيار السلفي فأصبح منهم – ثم أضافت من خلال زفرة طويلة- ويبدو أنه أخذوه إلى الحرب في سوريا.)(9)
6 – الوصف والحوار:
زخرت رواية (زمن الغبار) بلغة تصويرية معبرة، ووصفية شاملة وثرية واضحة نقلت تفاصيل الأحداث الحقيقية بكل دقة ووطنتها في سياقات وقائعها مع إضفاء بعض اللمسات التخيلية التي يتطلبها العمل الابداعي ليميزها عن التسجيل التوثيقي المجرد. ففي هذا المشهد التصويري نلاحظ أن الكاتبة لم تكتفي بتسجيل الحدث فحسب بل قربته لذهن القاريء من خلال استحضار المعالم والأماكن بأسمائها الحقيقية (كان يوم الحشر في شارع محمد الخامس. المسافة الفاصلة بين سفارتي تركيا وليبيا غصّت بالمحتجين. جاؤوا من أحياء كثيرة من العاصمة ومن مدن مختلفة في البلاد. ساندتهم منظمات حقوقية وبعض أحزاب المعارضة. الحشود ضخمة رفعت أصواتها بالشعارات وحملت لافتات كبيرة تندد بما يحاك في جوامع عديدة تستقطب أبناءهم وتغسل أدمغتهم ليتحولوا عند أصحاب اللحى إلى جهاديين وعند الأهالي إلى قتلة لا يعودون. ينتهون في الغالب جثتاً ملقاة في شوارع سوريا يحوم حولها الذباب الأزرق وتتشممها الكلاب.)(10)
ولم يخلو الوصف من الأسئلة المبثوثة في ثناياه والتي تتداخل أثناء إطلاقها في حوارات مع شخصيات الرواية، بل نجد تداخلاً كبيراً بينها وبين الوصف الذي تفننت في صياغته بتفاصيل دقيقة ولغة تخترق الوجدان الإنساني وتتفاعل معه بكل مشاعرها وأحاسيسها، مثل هذا المشهد التصويري الذي يمثل ذروة البشاعة والجرم والإرهاب في قتل أسرة بريئة والتمثيل بأطفالها بصورة لا تمت للإنسانية ولا للديانة الإسلامية السمحاء بأية صلة:
(كان أخوته في الله يكبرون لانتصارهم على سكان البيت وهو صامت كأنه تمثال قدَّ من حجر، يستمع إليهم يتحدثون بزهو عن أفراد العائلة الذين توسلوا إليهم واستحلفوهم بالله أن يتركوهم وهم يضحكون منهم، بدأوا بالأب ولم تثنيهم صرخات عائلته عن قتله، ثم عادوا للأطفال طلقة واحدة على رأس الطفل الأول، وأخرى على رأس الثاني والأم تصرخ في حالة رعب شديد قبل أن يطلقوا النار على الثالث كانت الأم قد أغمي عليها. سحبوا الحياة بكل هدوء من بقية أفراد العائلة ولم يوقظوا الأم من غيبوبتها … قبل أن يغادروا قطعوا رأس الأب وعلقوه على الشجرة. لا شك أن الشجرة كانت تئنُ من الرأس المتدلية في أحد أغصانها.
صاح أحدهم:
– هل قتلتم الأم بعد ذلك؟
رد عليه أحد المقاتلين:
– لا. تركناها لتكون شاهدة على أننا الأقوى)(11)
كما نلاحظ أن الأسئلة الحوارية في الرواية تتضمن الكثير من المجادلات العقلانية والمحاججات المنطقية المستمدة قوتها من الواقعية المعيشية وتطوراتها الحياتية والفكرية عبر الزمن، مثلما نلمسها في حوار (ثريا) مع (مراد) حين التقته صدفة فـأمطرته بأسئلتها المستفزة، وأبانت ردوده الفاضحة تشوهاته الفكرية والمباديء المعيبة التي يعتنقها:
(- أنتَ تعيش في فرنسا. في بلاد كافرة حسب تفكيرك. هل أفهم أنك ستغادرها إلى تونس لو طبقت الشريعة التي يهددنا بها حزب حركة النهضة؟
ارتبك ولم يرغب أن يأخذ الحديث وجهة أخرى. ظل صامتاً فهتفت به:
– قل لي هل ستعود عندها إلى تونس نهائياً؟
تلعثم وقال بصوت مرتبك:
– في الحقيقة لا، حياتي كلها أصبحت هناك، عملي وزوجتي وأطفالي، لا يمكن أن أغامر فأترك كل شيء وأعود إلى هنا.
أصابت ثريا صدمة، كأنها تنظر إلى كائن غريب. كأن الفراغ ابتلعها فلم تعد تشعر بكل ما يدور حولها)(12)
7 – نهاية التمازج الواقعي والافتراضي
تنتهي رواية (زمن الغبار) بخبر تفجير إرهابي صدم التونسيين لحظة ترقبهم مدفع الإفطار ليلة 20 من شهر رمضان، وقد استطاعت الكاتبة أن تباغت القارئ بمفاجأة تجمع شتات فكره السابح بين أحداث الرواية وهو يتابعها بكل شغف، ليجد نفسه يراوح بين التخيلي الافتراضي الذي يقرأه بين يديه في سطور الرواية، وبين مشهدها الأخير حين يعيده إلى أحضان الواقع الذي يعيشه في نقلة فنية أجادت الكاتبة حبكها بكل براعة وإمتاع (مازالت ثريا في الصالون تتابع بوجوم تفاصيل العملية الإرهابية التي نالت غدراً من مجموعة من الجنود يحرسون الوطن. هذه الكارثة لم تخفف من حماس ثريا تجاه مخطوط رواية “زمن الغبار” للكاتبة فاطمة بن محمود. فتحت الرواية لتقرأها. لفت انتباهها الفصل الأول الذي يتحدث عن أم في لحظة إحباط شديد تقرر الاتصال برئيس الجمهورية أثناء مراسم غرس شجرة في حديقة عمومية ليعيد لها ولدها الوحيد وصديقته أخذتهما مجموعة دينية متطرفة ضمن موجة تجنيد وتسفير استهدفت الآلاف من الشباب التونسي للقتال في سوريا، وفي الحاجز الأمني الأول تلقفتها أيادي حراس الرئيس فمنعتها.
في تلك اللحظة رفعت ثريا بصرها عن الرواية وقالت:
ربيع تعال يا ولدي، أسرع .. لا أحبُّ أن يفوتك الإفطار.)(13)
إن هذه النهاية الجميلة الممتعة جمعت بطلي الرواية ومضمون أحداثها بكل تجاذبها بين الواقعي والتخيلي، وبين حقيقة اسم الكاتبة وعنوان روايتها وإسكانها في ثنايا المشهد الروائي الأخير، لتظل هذه الصورة عالقة بذهن القاريء بشخوصها ودلالاتها وجمالياتها الإبداعية.
خاتمة:
في كتابه (ضد التعصب) يسجل الدكتور جابر عصفور على الرواية العربية ندرة تناولها لأحداث التطرف الديني، ويشير إلى أن الكتابة الأدبية والنقدية في المشهد العربي عن الإرهاب الديني (أقل كمّاً وكيفاً من الكتابة التي واجهت الأشكال المدنية من الإرهاب السياسي أو الفكري) ويبرر ذلك الغياب الكمي والكيفي بسيطرة الرعب وتراكم (الخوف الذي ترسّخ وتأصّل في نفوس كثير من الكتاب)(14).
وإذا كان الأديب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني قد ابتكر من خلال كتابه (أدبُ المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966م) لأول مرة مصطلحاً خاصاً للكتابات الأدبية الثورية هو (أدب المقاومة)(15) فإن الأديبة التونسية فاطمة بن محمود من خلال روايتيها (الملائكة لا تطير) و(زمن الغبار) قد كسرت حاجز الخوف الذي أشار إليه جابر عصفور وامتلكت الشجاعة والجرأة للتعبير عما تستشعر أنه يهدد دينها وبلادها وشباب وطنها العربي كافةً، وهي بذلك على غرار غسان كنفاني تؤسس منهجاً إبداعياً رائداً يتصدى للفكر الظلامي والسلوك المتطرف الذي تمارسه بعض الجماعات الإسلامية، وتنبه الأمة إلى خطورته وتداعياته على الحياة المجتمعية ليس في تونس وحدها بل تتجاوز ذلك للوطن العربي بأكمله.
وإن كانت روايتها الأولى (الملائكة لا تطير) قد تناولها الأستاذ الباحث لمجد بن رمضان بنقوده الموضوعية وتحليلاته العلمية العميقة بإسهاب وتفصيل مميز في كتابه (مسالك الإبلاغ ومقاصد التأليف في الخطاب الروائي المعاصر) من عدة جوانب أبرزها بلاغة الخطاب عنوانها في الوصف والحكي، ومقاصده من أوجه متعددة أهمها السرد والحوار، بالإضافة إلى الأفق التاريخي والثقافي للرواية وذلك في إطار المقاربات النقدية التأويلية والتحليلية لتلك الرواية الجرئية الممتعة التي يؤكد بأن طرحها الإبداعي قد تناول (مسألة التطرف الديني وبيّن أنها قضية معقدة لابد أن ننظر إليها من عدة جوانب. فقد كشف أن الطريق الذي يؤدي إلى الظاهرة ينقسم إلى مسارين: الأول وهو الفهم الخاطيء للدين والثاني هو استغلال الدين لتحقيق أغراض أخرى أهمها الاستيلاء على السلطة)(16)، فإن رواية (زمن الغبار) جديرة بأن تنال قراءة مستفيضة واسعة وشاملة، وتحليلات دقيقة تصفع الفكر المتطرف وتفتح مدارك العقل على عوالم وجماليات الحياة الحقيقية وروابطها الإنسانية والعلاقة الذاتية مع الله وفق أصول الدين الإسلامي الصحيحة، فالأديبة فاطمة بن محمود استطاعت في (زمن الغبار) أن تستبطن الدوافع الداخلية لدى المنتمين إلى التيار الديني المتطرف، وتعري هشاشة الحجج الفكرية والفتاوي الضعيفة لزعامات الأيديولوجية الدينية، وكذلك عرض ونقد الآليات المستخدمة في إغواء الشباب من ذوي المستوى العلمي المتفاوت الذين تتوفر فيها عناصر الاستجابة والانضمام لقافلة الزمن التي تثير الغبار، ولكن إيمان الكاتبة ونظرتها المستقبلية المتفائلة تجعل عمر هذا الغبار قصيراً، ولن يصمد أمام الفكر التنويري والفقه الإسلامي وسلوكياته المفعمة بالطمأنينة والعقلانية والداعية إلى عموم ونشر الأمن في ربوع الكون والسلام بين الناس كافةً.
الهوامش:
1 – زمن الغبار، فاطمة بن محمود، دار زينب للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2023م
2 – رواية الملائكة لا تطير، فاطمة بن محمود، دار زينب للنشر، تونس، الطبعة الأولى، 2020م
3 – انظر: نور الدين صدّوق، البداية في النص الروائي، دار الحوار، اللاذقية، سوريا، ط 1، 1994، ص36
4 – انظر: عبد الرحيم الكردي، السرد في الرواية العربية المعاصرة، دار الثقافة، القاهرة، مصر، ط 1، 1992، ص52
5 – زمن الغبار، مصدر سابق، ص 20
6 – المصدر السابق نفسه، ص 45
7 – المصدر السابق نفسه، ص 130
8 – المصدر السابق نفسه، ص 163
9 – المصدر السابق نفسه، ص 164
10 – المصدر السابق نفسه، ص 130
11 – المصدر السابق نفسه، ص 51
12 – المصدر السابق نفسه، ص 165
13 – المصدر السابق نفسه، ص 260
14 – انظر: ضد التعصب، جابر عصفور، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001م
15 – انظر: أدبُ المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966م، غسان كنفاني ، دار الاداب، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1970م
16 – مسالك الإبلاغ ومقاصد التأليف في الخطاب الروائي المعاصر، لمجد بن رمضان، دار الكتاب، تونس، طبعة أولى، 2022م، ص133