“المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها”
-محمد الماغوط-
(1)
أشير هنا الى اللحظة الأكثر إيمانا وقلقا في مسيرتي الشعرية، عندما كنت (ولأمر ما) أعتقد جازما بوجود العالم على هيئة امرأة. وأن كل شيء في الكون الشاسع للغة قد سُخِّر من حيث القيمة والمعنى والتوق والسفر لسكّ الجوهر نفسه، كضرب من الاستعارة لأنسنة الفضاء وتأنيثه. هذا السمو الشعري المعلن قدّته مخيلة العاشق، قصيدة متوحّدة يكتبها جندي معذّب، تضافر في تأثيثها الفقدُ والألمُ والجمالُ والحلمُ والترحال وقراءةُ الأثر، والسعي المتواصل بين اليقظة والنوم. كان الأمر (غالبًا) يتبدّى لي محمولا بتلك المتع المصانة، التي تعطيها المرأة للرجل؛ لهذا كلما فاضت أحلامي بنعم الأنثى امتلأت قصائدي بحشد من بهاء هكذا مآثر، تشي على الدوام بأسمى مدارجها عفة ونبلًا. كان الزهو يأخذني من كلمة الى شقيقتها؛ حتى حقّ لقصيدتي أن تتباهى فخورة؛ الى حدّ أن تغترّ أحيانا بما قدّته في توصيف النساء من آيات قدسية تنصهر في معجمها لغة الروح والجسد والعزلة والطبيعة ومآثر المجهول. هكذا كبرت؛ وقد تربّى معي هذا الهوس، الى حدّ أصبح فيه ما من شيء في الكون، يمكنه أن يسلبني كتابا سوى امرأة.
(2)
أجل، كنت مسلوبا بإرادتي، اتخلّى عن مفاتيحي دونما اكراه، واستسلم لطغيان البهاء الذي يحدثه مرور الأنثى داخل كلماتي. اشير هنا الى نون النسوة كمحاولة لهروب جندي من حرب غير نظيفة، من صحراء مخادعة وعشائر تكيل المديح لسلالة الرماد؛ الى امرأة تنتظر. لكن بعد حين (ولأمر ما) أملته قراءتي المرتابة لما يحدث في كواليس الخفاء، كان لزاما عليّ كشف الخديعة، وإعادة تسمية الأشياء، وافتراض مسافة بين المرأة والقصيدة. لعلّ الدافع لارتكاب هذا الفصل التعسفي والمباغت بين شيئين ظلا ردحا من الزمن متلازمين بتناغم في نسيج واحد؛ أي منذ الوهلة الأولى التي تصاعدت شهقتها إزاء اكتشاف النار واللغة، مرورا بحصار طروادة، ومتاهة أوليس وانتظار بينلوب، والجنون المستعصي لابن الملوح، الى ثورات الربيع الغامضة: أن ألمي لا يطاق؛ وقد سبب لي ذلك بلبالا فيما بعد، حيث لا مكث لغير وطأة الفقد المسمّى مجازا: صعقة الحنين. أجل انها صعقة الحنين؛ لأنني فيما كنتُ احثّ رفرفة التائه بحثًا عن كياني، لم تعد الأجنحة التي لطالما حملتني من قصيدة الى أخرى تحتفظ بالطاقة نفسها، وقوة الصوت لرفع الآذان كاستجابة لفروض العشق. كما لم تعد نفائس اللغة بتلك المرونة الرحيمة التي تهب كنوزها لأيّة استعارة حاذقة من شأنها إعادة الجمال الى نصابه. اذّاك استبدّ بي وسواس التخلّي، ووقعتُ في الشرك.
(3)
أذكر أنني في عبارة سابقة، قلتُ ما من شيء كان في مكنته أن يحول بيني وبين كتاب في اليد سوى المرأة وحدها. لكنني الآن؛ وأنا أطلق النظر الى الخلف مقتفيًا أثر ولايتي التي دامت قرابة نصف قرن على قيادة رجل بأسره يمشي وحيدًا. سأبدو مفعمًا بكثير من الرضا لأنني طوال المدة التي قضيتها كرحالة في أقاليم المخيلة، ولا سيما خلال فترة مكثي تحت كل سقف عابر، أو شجرة زيتون، أو قصيدة وارفة، كنتُ اتعلم الكثير من المآثر الحميدة؛ ليس بفنون الألفة وحسب؛ بل أدركتُ عن كثب ضرورة الايمان القاضي بحكمة العمى؛ فمن شأن الظلام وحده محو الفوارق بين نقيضين. كأن يتعذر على الناظر التمييز بين الخيطين، الأبيض والأسود؛ ففي ردهات ذلك الزمن الخائن، اختلط الحابل بالنابل، فلا القصائد تخرج من لدن خيال مبارك؛ ولا النساء نساء. حيث تجمع المحظية بين الطاغية والشاعر؛ ليتناوبا على جسد القصيدة نفسها. وبين هنا وهناك، حدث في الأثناء الكثير ممّا يُقال في مثالب رحلة الجمال، والتطرف الثوري للانتلجنسيا. وسوف تتعذر الاحاطة بخفايا المراهقة العجيبة لتلك الطفرة الثورية المغتصبة بهوس ضابط مخنث، والفصل بين الطيب والخبيث، والغث والسمين؛ ما لم نكن حاضرين عن كثب، وبريبة صبورة، كثيرة الحذر من نوايا سدنة المعرفة وحملة النار، وقد ارتفعت بذلك مؤشرات الخوف من مغبة الرفقة الخائنة، لحظة اذابة السمّ في العسل. وهذا ما حدث.
وهنا في وسعك أيها القارئ الذي أجهل مقاصده، أن تعزو هذا الضرب من الخيانات التي اعتورت البيت الآمن للجمال، ولوثت قيمته ومقامه؛ لأسباب تتعلق بوجود عطب ما لحق بالنسغ نفسه؛ أي بالشعر، لحظة أن غدا نهبًا لمن هبّ ودبّ. بعد أن حقّره السواد الجاهل الذي يعادي دونما حرج المعرفةَ ووسائطها؛ ليضع الخيال بازدراء شديد خارج دأبه ومثابرته. وجراء هذا البغض الوحشيّ، لم يعد للشعر شأوه القديم في ايقاظ الأرواح وهدي الرؤى. ومن ثم ليس من المستغرب في هكذا أحوال متخلفة وغير آمنة، أن تسفر أولى انتهاكات المخيلة عن وجود طاغية وشاعر في جسد واحد. باعتبار أن النقيضين أصيلان في سيرة الشعر لارتباطهما التاريخي بأسوأ وأبغض مظاهر الخديعة مكرًا وزيفًا. لهذا كان لزامًا عليّ كشاعر التزام ناصية الشك. فضلا عن الكثير من التريث قبل أن أصدر احكامي جزافا. فليس كل ما يكتب من ترهات، يمكن عزوه لطبيعة الوجدان ونسله الطيب. طالما في وسع أي لغوي محتال إعادة تدوير المتنبي. كما لا يعد شرطا لازما أن تكون شاعرًا أصيلًا لكي تكتب قصيدة. ففي هكذا حقبة فاسدة ستحتاج فقط الى قدر يسير من المكر، وقدر يسير آخر من عدم الحياء، وما يعادل القدرين من الثقة الوقحة التي لا نظير لها في ميزان القيمة الزائفة. مع استعداد فطري؛ لأن تتحول في أي وقت تشاء، من شاعر الى جلاد، أو من ضحية الى قواد من فصيلة نادرة، بحيث لا تتردد في أن تكون في الوقت ذاته مناضلا من فصيلة الكومبارس، ثم مناضلا من ذوي الاستحقاق السياسي بامتياز لا يقارن داخل البلاد وخارج البلاد، وفي السر والعلن. رجل المهام الصعبة، وخادم الوجهين الكريمين للعملة الشقراء. فما عليك سوى أن تقتحم الركح (كفارس بلا معركة)، وشاعر لا يشق له غبار، ثم تختم سلسلة بطولاتك بحلقة مثيرة تليق بسيرة مناضل صنعته الصدفة، سيرة حافلة دون مواربة، بشتى أصناف المفارقات العجيبة.
(4)
ألم أقل لك بأن المسألة برمتها ليست بتلك الصعوبة التي كنّا نظنّ. اذ يكفي في البدء أن تعمل بمفردك، فهكذا تقلبات فجائية تتطلب ضرورة التخلي عن وهم الشراكة. مع التفطن لفضح الاعيب ومكائد سيدة العشيقات في حبك هكذا دراما لخيانات شعرية ووطنية بالغة الخزي. لأن العار لا يكمن في الساعة التي انت فيها وحسب، والتي مهما حاولت تجميل قبحها، فمآلها في خاتمة المطاف ان تنتسب الى مشتقات العار، ولا شيء آخر؛ طالما لا تأثير لهذه الواقعة التافهة، على أسعار الدقيق والمحروقات والدواء؛ اذ يمكن لآلية تداعياتها أن تتوقف عند هذا الحد، بعد أن نقلت لنا تصريحا وتلميحا بأن تاريخ الخزي في الوجدان الجمعي؛ قد بدأ منذ تلك الغزوة المشؤومة لحقول المعرفة، التي خالط فيها الغشُّ لغة الشعر وخياله. هذا ما تؤكده الآن استحالة وجود سيرة مناضل خالية من مثالب اللغو، أو الظفر بامرأة نظيفة، في قصيدة بريئة من شبهات الغنيمة. بحيث سيتعذر وجود شاعر لم يلعب بذيله داخل الخيمة وخارجها. وعلى الرغم من هذه الآفة وتلك؛ ثمة هنا من يثابر على كتابة شيء.
(5)
قبل عقد ونيف كتبت قطعة سردية، أو ربما هي قصة قصيرة بعنوان “كتاب”. اندرجت ضمن مقترحات كتابي الموسوم: “تقطير العزلة، محاولة لتدوير خانة الصفر”. ص(83) تشي تفاصيلها الغريبة؛ كما لو أن كتابا أصيب بمسّ، وقد تقمصت روحَه امرأةٌ قريبةُ سرّ. كتاب يصعب فهمه أو صونه من الضياع، أو تحاشي خديعته. ومن ثم سيتعذر تأويله ليظل دائمًا متأهبًا ومفتوحًا، في حالة استنفار وترقّب دائمين. لعلّ العقدة برمّتها تتعلق (على نحو ما) بشبهة امرأة لا خواتم أو سماء تحدّها. يقول، محمد الماغوط: “المرأة هي المكان الوحيد الذي يجعل من الجهات الأربع جهة واحدة لا يمكن تحديدها”. هنا يكمن سر المتاه الذي من دونه يفقد الشعر جزءًا كبيرًا من سحره وبراءته. ألم اقل لكم في حيز آخر: ثمة هنا من يثابر على كتابة شيء. لأنه مهما تعذرت سبل الطمأنينة والحياة الآمنة، فلن يحول شيء بينك وبين إضافة قصيدة، بوصفها عملا فرديا لا يقتضي سوى القدرة على التنفس وتشغيل المخيلة؛ مع السعي الحثيث لجعل الكلمات أكثر سخاء وألفة.
باب بن غشير | 18 مارس 2022