أسامة رزق – سراج هويدى – وليد اللافى
أحلام عمار العيدودي
حضور لافت للدراما الليبية هذا العام من خلال العديد من الأعمال الدرامية الرمضانية التي يظهر من خلالها ولوج الدراما الليبية طريق النضج الفني والإخراجي بالذات، إبداع كل من المخرج والممثل الليبي الذي طالما أتهم ظلماً بضعف قدراته التمثيلية، كما أتهمت أيضاً القصة والرواية الليبية بقصر قدرتها على أن تُحول إلى سيناريو يمكن عرضه في حلقات مسلسل يكن قادراً على أن يجعل من المشاهد الليبي أسيراً لأحداثه، وفي الحقيقة مسألة تحويل رواية إلى سيناريو مسلسل جيد هذه مسألة لا تدل ابداً على قصر أو ضعف النص القصصي أو الروائي، فليست كل الروايات ولا كل القصص تصلح أن تكون مسلسلاً درامياً يمكن عرضه على شاشة التلفاز؛ ذلك لكثير من الاعتبارات التقنية والفنية والإخراجية، فمن الأفضل أن تكون القصة التي تقرر كتابتها للتلفزيون مكتوبة كسيناريو.! قد يقول: البعض أن هناك روايات لنجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس حُولت لمسلسلات تلفزيونية ولاقت نجاحاً كبيراً، نعم بالتأكيد وهناك روايات من الصعب أن تُعرض على شاشات التلفزيون لاعتبارات اجتماعية، وعقائدية تتعلق بطبيعة المجتمع وتركيبته الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى اختلاف ثقافة المجتمع الليبي عن ثقافة المجتمع المصري. أقرأ كثيراً عن ترشح رواية ليالي نجمة للكاتب الليبي الراحل خليفة حسين مصطفى لتحويلها إلى مسلسل.! طبعاً رواية “ليالي نجمة” تُعد من أهم النصوص الروائية الليبية وتتعرض لقضية مهمة ولكن هل سيقبل المشاهد الليبي عرض ما تروية هذه الرواية عن شارع سيدي عمران سيء السمعة بالمدينة القديمة – طرابلس في فترة الخمسينيات – هذا الشارع الذي تُمارس فيه الرذيلة وبيع الهوى ويكثر فيه زبائن اللحم الرخيص.؟ لا ننكر أن الدراما الليبية في تطور وخاصة مع ظهور مخرجين شباب، ولكن طرح قضية مثل: تلك التي تسردها رواية ( ليالي نجمة) هومن وجهة نظر الكثيرين تمرد صارخ على(عادات وتقاليد) المجتمع الليبي، بنية العقل السائدة للمشاهد الليبي ليس لديها القدرة على تقبل وتفهم ماهية أسباب عرض مثل هذه القضايا، والمخرج الليبي لازال غير قادر على مواجهة ما يمكن أن يحدث من رفض جماهيري؛ وبالتالي لازال الوقت مبكراً لعرض مثل هذه القضايا وتقديمها درامياً ربما يصبح ممكناً بعد أكثر من عشر سنوات من الآن!
صعوبات كثيرة كانت ولازالت تواجه صُناع الدراما الليبية؛ يمكننا اعتبار مجرد أنه أصبح بإمكاننا أن نقول: ( صُناع الدراما الليبية) فنحن بذلك نكون قد تخطينا الكثير من العقبات التي كانت في السابق تعيق خطوات الدراما وهذا في حد ذاته انجاز كبير، بوجود ثلة من الشباب الموهوبين الذين بمجهوداتهم أصبح بإمكاننا أن نتحدث عن صناعة للدراما الليبية، وعلى الرغم من قلة كُتاب السيناريو الجيدين في بلادنا والذي زاد من صعوبة تطور الدراما في ليبيا – لا يخفى على أحد أن تطور الدراما والفن عموماً هو تطور للعقل الإنساني، الفن حياة ودليل نهضة فكرية والدراما نوع من التعبير الأدبي وهي العمل الذي يكون خليط بين الواقع والخيال، والخوف والحزن والضحك والجد وبالتالي فإن الدراما ليست نقلاً حرفياً للواقع، بل يمكن اعتبارها مزيج بين خيال كاتب، ورؤية مخرج لهذه الكتابة وعلى الرغم من الانحطاط السياسي الذي تمر به بلادنا الا أن الدراما الليبية تعافر في طريقها إلى الرقي بالعقل والفكر الليبي، وخروجها من بوتقة النقل الحرفي للواقع؛ ولأن للدراما والفن عموماً دور مهم في تغيير بنية العقل السائدة في المجتمع وانتقالها إلى بنية عقل خلاق تتقبل الأخر وتواجه مشاكل الماضي وتضع حلول لمشاكل الحاضر، تصبح الدراما قادرة على وضع هذه المشاكل على طاولة الحقيقة ليواجه المجتمع حقائق يُنكر وجودها، ومن الممكن أن تكون هذه بمثابة مواجهة مع الذات، ومن الممكن أيضاً أن تُقدم الدراما بهذا العرض حلولاً رغم أنها ليست مُطالبة بذلك.! ولكنها مُطالبة بتحقيق المتعة والترفيه والتثقيف، لرُّقي بعقل المتفرج وهذا يحتاج الكثير من الجرأة – والجرأة وغيباها هي أيضاً أحد أهم أسباب تأخر الدراما الليبية كنا دائماً نتمنى أن يأتي يوم نرى فيه الدراما الليبية حاضرة عبر منصات العرض العربية، هذا ما تحقق هذا العام بفعل ثلاثي الدراما الليبية الجديدة ( المخرج أسامة رزق، والكاتب سراج هويدي، والمنتج وليد اللافي ) أسعد هذا الثلاثي المشاهد الليبي بعمل اجتماعي بعنوان “بنات العم” يُعرف فيه المخرج بالمجتمع الليبي ويعرض كل تناقضاته بعرض مكثف لسير الأحداث ما جعل المشاهد في تعلق دائم مع هذا العرض، استطاع كاتب السيناريو أن يُقدم قصة تقوم على أصل الترابط الاجتماعي في المجتمع الليبي، رغم أن الكثير من المشاهد ظهرت مبتورة وكأن المخرج لا يريد أن تزيد حلقات المسلسل عن خمس عشرة حلقة.؟ علاقة بنات العم، هي أساس القصة التي تدور حولها أحداث المسلسل في الحقيقة كان ذكياً جداً في هذا الاختيار فهو بذلك وضع يده على مشكلة اجتماعية لم تتعرض لها من قبل الدراما الليبية وهو بذلك يناقش العديد من المشاكل التي قد تنشأ عن هذه العلاقة.
كل عام يفاجئنا هذا الثلاثي بعمل يشحذ به أذهاننا ويسمرنا أمام شاشة التلفزيون بكل اقتدار الأستاذ أسامة رزق المخرج الشاب الذي اثبت بكل جدارة قدرته على التجديد والتطوير، وسبر أغوار المغامرة وهو مخرج يتميز بالجرأة المدروسة في طرح مشاكل المجتمع، وقضاياه التاريخية والسياسية، والاجتماعية، على الرغم من تعرضه لانتقادات واسعة حول ما قدمه من خلال مسلسل السرايا عن بعض جوانب شخصية أحمد باشا القرماني، وصل لدرجة اتهامه بتزوير الحقائق التاريخية.! عموما يُقدم هذا العام دراما اجتماعية تتعرض لنوع من الجرائم “قتل الأب” التي يُحدثها تعاطي المخدرات من قبل بعض الشباب،وهذه القضية بالذات من القضايا المهمة والتي يُعتبر عرضها على شاشة التلفزيون الليبي اعتراف بوجودها وناقوس خطر تدقه الدراما تعبيراً عن ما يمكن أن يُشكله تفشى مثل هذه الجرائم في المجتمع العربي والليبي على وجه الخصوص، عرض جرئ لقضية جديدة على الدراما الليبية وقد استطاع المخرج عرضها بشكل جيد مزواجاً في عرضها بين أسباب حدوثها وبشاعة نتائجها، هذا بالإضافة إلى تعرض المسلسل لقضية أخرى وهي الخيانة التي تتعرض لها أحد شخصيات المسلسل التي تلامس بالتأكيد المرأة على وجه الخصوص، على الرغم من أنه يظهر جلياً أن خيانة شخصية أشرف لزوجته عفاف هو مشهد لم يُكتب في السيناريو بل قد يكون أضافةٌ أستوجبتها أمور أخراجية، خاصة وأن الكاتب من خلال الحوار الدائر بين أشرف وزوجته لم يُشعر المتفرج باحتمالية موقف كهذا، وكذلك المخرج لم يرصد أي إيحاءات على ملامح الشخصية توحي بردة فعل كهذه، فكان الحدث مفاجئ بالنسبة للمتفرج وصادم أيضاً، وأنا أعتقد أن الخيال لعب لعبته في مشهد انتقام الزوجة من زوجها وابنة عمها.
صراحة سعدت جداً كمتفرج مهتم بالدراما لتطور الكبير الذي تشهده الدراما الليبية، هذا التطور يثلج الصدر ويُبهج الروح، السيناريو حقيقة كُتب بشكل جيد لحد ما، رغم البساطة التي اتسم بها الحوار بين بعض شخوص المسلسل، الا أن لغة الحوار في عمومها كانت لغة واضحة تُعبر لحد كبير عن الهوية الليبية؛ ولكن اختيار الصمت في بعض المشاهد التي كان يتوجب فيها أن يكون هناك حوار أطول، ترك علامات استفهام لدي المتفرج وكذلك كانت هناك مشاهد عبر من خلالها المخرج عن بساطة الحياة السعيدة التي ربما قصدها كاتب السيناريو الأستاذ سراج هويدي، من خلال طقوس الفرح الليبي البسيط والأغاني المصاحبة والأجواء التي كانت فيها إسقاطات جميلة وأخيلة ربما تدفع وتساهم في انتشار ثقافة البساطة في أفراحنا الليبية التي تكاد تندثر بصراحة. ما يميز أسامة رزق دقته في اختيار الممثلين والوجوه الشابة التي تجسد شخصيات العمل فكل شخصية تظهر في تقاسيم وجهها ملامح البيئة الليبية، تُشعرك بأنك تشاهد تفاصيل حياتك في ليبيا على الرغم من أن هناك مشاهد وأحداث لعب فيها الكاتب لعبة الخيال وهذه هي الدراما كما أسلفت الذكر فيها مزيج بين الواقع المقيد والخيال المطلق، ولكن الغريب أن المخرج لم يرصد صخب الحياة في ليبيا فظهر المسلسل كأنه يرصد مدينة قد خلت من أهلها ولا يتحرك فيها أحد سوى شخوص المسلسل؟ لذلك كان إيقاع المسلسل بطئ جداً، رغم تسارع الأحداث فيه.
كتبت عبر صفحتي الشخصية على الفيس بوك ان: ( بيجلطني أسامة رزق ) هذا ما يحدث مع المشاهد عندما يتابع مسلسل بنات العم يشعر المشاهد أن الكاتب والمخرج أتفقا علي أن لا يتركا للمشاهد فرصة للتوقع الصائب.! ليبقيه في حالة ترقب دائم للأحداث كلما توقع المشاهد حدث صدمه الكاتب والمخرج بأحداث مغايرة كاسراً أفق التوقع لديه ليجعله مذهول أمام قدرتهما عن فعل ذلك به وإقناعه بحقيقة ما يحدث، ما جعل المسلسل يتميز بأحداث لم نشاهدها في مسلسلات من قبل، واستطاع الكاتب أن يرصد مجموعة قضايا ويجيب المخرج المتفرج من خلال توظيفه للمشاهد في كل حدث إجابة تثلج صدره؛ ولكن من وجهة نظره هو! كُره المشاهد لشخصية بعينها في المسلسل وحبه لأخرى دليل على نجاح الممثل في تقديم هذه الشخصية وتلك، كره المتفرج لشخصية خلود التي قدمتها الممثلة الشابة “هند العرفية” دليل على أن هند ممثلة بارعة جداً، وحب المتفرج وتقديره لشخصية عفاف التي جسدتها الممثلة الشابة “آية شو” دليل أيضاً على إتقان آية لدورها بكل اقتدار، ودليل كذلك على الاختيار الصائب للممثلين من قبل المخرج.
كتب بعض المتابعين لهذا العمل الدرامي عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن بعض الهفوات في الإخراج، كوجود المرآة داخل السجن، ورد البعض أنه ليس مطلوباً من الكاتب والمخرج أن يعيشا داخل السجن ليرصدا طبيعة الحياة داخله؛ ولكن في الحقيقة أنه كان على الكاتب والمخرج والممثل أيضاً أن يهتموا أكثر برصد أدق التفاصيل فيما يتعلق بالمحضرات داخل السجون، خاصة أن هذا العمل ليس هو الأول بالنسبة للمخرج أسامة رزق والكاتب سراج هويدي واستهجن بعض المتابعين مشاهد لتّرف الذي يعيشه الوزير الذي جسد شخصيته الفنان عبدالباسط بوقنده؛ ولم يُثني أحد على وجود الفنان القدير عبدالباسط بوقندة بصفته وزير للثقافة وجرأته في تقديم شخصية الوزير التي يعيشها هو في الواقع، ليُقدم عبدالباسط بوقنده هذه الشخصية عارضاً سلبياته قبل إيجابياتها، وهذه سابقة تُحسب للفنان عبدالباسط بوقنده وللمخرج أسامة رزق، أما عن تلك الهفوات أن صح أن نعتبرها هفوات تحدث في كثير من المسلسلات العربية والعالمية؛ ولكن الحقيقة التي يجهلها البعض أن كاتب السيناريو لم ينقل الواقع بكل حذافيره فهو عند كتابته لهذا العمل دمج بين واقع وخيال صنعه وجسدته شخصيات العمل التي ساهم المخرج في توظيفها وتحريكها بالشكل الذي تخيله أيضاً، وفي نفس الوقت لا نستطيع أن ننكر أن بعض الوزراء يعيشون هذا الترف وأكثر.! كل هذا وغيره لا يعنى أن العمل لا يستحق الإشادة به؛ بل يستحق أن نُشيد ونحتفي به ونشكر كل من ساهم في تقديم هذه المادة الدرامية التي سحرت عقل المشاهد الليبي والعربي واستحوذت على اهتمامه فبنات العم أول مسلسل ليبي يُعرض على منصة “شاهد” وهذا انجاز كبير يُضاف إلى رصيد ثلاثي (الدراما الليبية الجديدة )، مخرجاً وكاتباً ومنتجاً، وعلى الرغم من بساطة المسلسل في مجمله الا أن هذه البساطة قد تكون هي العقيقة الزرقاء التي جلبت الحظ الطيب لهذا العمل، أبارك للمخرج أسامة رزق وللكاتب سراج هويدي هذا النجاح الجماهيري لهذا العمل، وأبارك أيضاً لساحة الفنية وصول الدراما الليبية للمشاهد العربي وأتمنى للجميع دوام الموفقية والإبداع وكلي شغف لمشاهدة أعمال جديدة أكثر أبداعاً وتألقاً وتميزاً.