الصور: عن الشاعرة والباحثة المغربية فاطمة بوهراكة
النقد

الشِعْر وَالضّوضَاء

الذكرى السادسة لرحيل الكاتب الليبي يوسف القويري

الشعر إحساس وأداء .. فكي نعبر عن شيء لا بد أن نكون مشغولين به ، مهتمين بأمره، ولا بد أيضاً أن نكون ممتلكين لأسرار لغة حساسة أو مزمار حلو أو حفنة ألوان حتى ننقل ما نشعر به ونراه إلى عيون الآخرين وقلوبهم .

إن العنصر الذاتي في الفن عموماً عنصر بالغ الأهمية ، ونقصد بالعنصر الذاتي مشاعر الفنان الممتزجة بالموضوع أو المشهد أو التجربة ، فبلا ذلك الانطباع الذاتي الخاص ليس ثمة فن يحرك سكينة النفس وبلادتها . فالذات المبدعة تمنح لمادة العالم المشوشة المتنافرة المبعثرة وحدة وتركيزاً واشعاعاً ولوناً وصوتاً.

والقضايا الكبرى تخضع في إطار الفن لنفس القانون فإذا ما كان الخطيب يتحدث عن موضوعه من (الخارج) بلا معاناة عاطفية وفكرية عميقة ويعكسه في شعارات صاخبة مدوية ، فإن الفنان يلزمه دائماً أن يقف في مكان مغاير ، إنه يتغلغل إلى موضوعه ويتشربه ويقوله من (الداخل) ويمنحه للناس في تفصيلات صغيرة حساسة متوقدة تخلب الشعور وتأسره وتقنعه .

ويقودنا هذا الحديث رأساً إلى ديوان (فجر وغيوم) الذي صدر أخيراً، فقي هذا الديوان – الذي يشبه لوحة الرسم البياني – تعالج الشاعرة كوثر نجم إحدى المسائل الصعبة المطروحة أمام الشعر العربي الحديث : كيف نعبر عن قضايا المجتمع الكبرى من الداخل تعبيراً نابضاً لا تخنقه الشعارات ولا حدة التقرير السياسي ؟

لقد قيل أن الشعر الطليعي الحديث يعاني – في بعض نماذجه – من (تورم العنصر السياسي) على حد تعبير غالي شكري، وهذه ملاحظة صادقة ، ولكنها ناقصة ، لأن السياسة جزء من الحياة العامة ، والقضية هي : كيف نظلل هذا الجزء ونظهره في تلاحمه مع بقية التفاصيل في العمل الشعري، القضية هي – كما رآها غالي شكري نفسه فيما بعد – كيف نحس بالعنصر السياسي ، وكيف نعبر عنه دون أن نعتلي منصة !

لکن طفلك الذي ترکته هناك

بأرض بلدتك

سيأكل السنين بانتظام وعندما يفور بالشباب

ستسقط الغشاوة السوداء عن عينيه ويبصر الضياء.

ضمن قصيدة هي ((سنحرس الضياء)) قدمت الشاعرة كوثر نجم جزءاً من الاجابة ، فهي لم تصب اللعنات على المستعمر وتتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور، ولم ترفع شعاراً كثير الضوضاء ثم تصمت، إنما هي تتغلغل الى أسرار الموقف الفني وتضيء أعماقه وتكشفها وتسكبها صوراً نابضة بالمغزى.

إن المستعمر – في القصيدة – السابقة – يرسل جنوده شياباً عاطلاً عن الادراك وعاجزاً عن الفعل المضاد ليقتل ويحرق ويعرقل إرادة الشعوب المطالبة بالحرية والعدل .. هذا جانب ، ولكن ثمة جانباً آخر ينمو، هو وعي الناس في الدول المستعمرة بحقيقة الأوضاع ، وهو وعي- كما يقول جان بول سارتر – حتمي ، وفي الطريق :

ستسقط الغشاوة السوداء عن عينيه ويبصر الضياء.

والواقع أن الديوان يمثل فترات وأساليب وتأثيرات أدبية مختلفة وقد أشار إلى ذلك علي أبو زقية في مقدمته التحليلية فهو – أي الديوان – متنوع الصيغ نجد مثلاً أربع قصائد على الطراز الكلاسيكي ، وقصيدتين تتأرجحان بين المنهج القديم والمنهج الحديث في الصياغة وتشبهان من حيث الانتماء المزدوج أعمال شاعرنا الكبير رفيق المهدوي. أما باقي القصائد فشعر حديث .

ومعنى ذلك أن الديوان فترات تدور بكاملها في نطاق البداية ويبدو أن الشاعرة قد عمدت إلى وضع تواريخ للقصائد تأكيداً لهذه الحقيقة. فقي قصيدة (أماه) – 1953 – نواجه انشغالاً تاماً بالذات وشجناً رومانسياً :

لسوف أحيا بهمي وأنت صحوي ووهمي

اعیش في کل ذکری حتی أوارى برمسي .

ثم ننتقل إلى 1958 – لنجد معالجة صاخبة مدوية في قصيدة (أفراح العرب). وفي 1959 تجلو الشاعرة نظرتها فتأتي بعض قصائدها هامسة ، قليلة الاضطراب والهياج.

يوسف القويري (في الأدب والحياة)، الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان – طرابلس، ط2، 1979م.

مقالات ذات علاقة

الرواية الليبية: خطوة لقدام وعشرة اتاّلي

أنا.. لستُ أنا

المشرف العام

يُوسُف الشّريف.. الصورة الأيقونيّة لأُمَيْلة النيهوم..

المشرف العام

اترك تعليق