سرد

جزء من رواية عطر شان

من أعمال التشكيلي العراقي علاء بشير (الصورة: عن الشبكة)


أستيقظ سكان حي غوط الشعال على صوت صراخ، امرأة واقفة كالمجنونة، في بلكون الطابق الثاني، لإحدى الفيلات المقابلة لجردينة النصر، تصرخ بطريقة مفزعة، وتدور حول نفسها، تلطم وجهها، وتشق صدرها، حتى بح صوتها، كادت تسقط من الشرفة، تسمر الجيران في مواضعهم لبرهة من هول ما يرونه، لا يعرفون ما حل بها!! هل استعرت النار في الغرفة ولم تستطع الرجوع!! أم هناك سارق يهددها من داخل الغرفة!! أخيرا هب الجيران لنجدتها، قفز بعضهم من السور؛ لأن باب السور موصد وجدوا باب الفيلا مغلق أيضا، تدافعوا بكل قوتهم حتى تمكنوا من خلعه، كان هناك ثلاثة أشخاص أو أربعة، أعمارهم تتراوح بين الأربعين والخمسين، جلسوا في الجردينة يشاهدون المرأة وهي تترنح في البلكون بعد أن فقدت صوتها تماما، قال أحدهم:

– يا ولدي لو كنت أنا الذي علق في البلكونة ما هب كل هذا الحشد لنجدتي.

ضحك الثلاثة الباقون:

– يح يح شن يبو في وجهك المكرمش.

ضحك الجميع بما فيهم هو، وهرش آخر مؤخرة رأسه وأغمض عينا ورفع حاجبيه وقال:

– يا ودي خيرة الشيباني يضرب في الصبية؟ هل وجدها في وضع مخل مع عشيقها؟

رد الٱخر، يح يح: يا ودي أستغفر الله، الشيباني نعرفه من زمان رجل غيور، يغار على زوجته من الهواء الطائر، الأمر أكبر من قصة شرف، أكيد هناك سارق يهدد في الشيباني حتى طلعت المرأة بهذا الشكل.

وأرد أن يتكلم أحدهم، غير أنه لمح شابا في الخامسة عشر من عمره، يركض بقوة مذعورا وسقط قبيل الباب، وقف وواصل ركضه، سأله أحد الجالسين:

– خير يا ولد شن في؟

لم يعرهم اهتماما بل واصل ركضه بعيدا، وما هي إلا ثواني حتى نزل الجيران ومعهم المرأة التي كانت تصرخ مغشي عليها، وقف الجالسون في الجردينة التفوا حولهم:

– خيركم، شن في قولوا خيرها المرأة، وين الشيباني؟ وين الصادق؟

نظروا للبلكون المفتوح وقال أحدهم:

– مقتول على كرسي.

هرعت سيارات الشرطة للمكان وحاوطته ومنعت الناس من الاقتراب من الفيلا، حتى جاء المقدم (جمال)، لموقع حدوث الجريمة، رأى شخصا على كرسي، طاعن في السن، شعره أبيض وجه شاحب تملؤه التجاعيد، عيناه جاحظتان، كمم فمه بـشريط لاصق، ربطت يداه خلفه بإحكام، هناك حبل ملفوف عليه من أعلى صدره إلى اسفل قدميه، وهناك بقع دم خلف القتيل، عندما اقترب (جمال) من الجثة، وجد اليد اليمين مقطوعة من الرسغ، بعد توثيق الحادثة بالصور، حاول المقدم (جمال) أن يسبل عيني القتيل أبت أن تغلق، ونزع الشريط اللاصق من على فم الضحية، فتساقط منه الدود، كاد أن يستفرغ (جمال) وكل الحاضرين، نقلوا الجثة بعد أن فكوا وثاقها.

حاول رجال الشرطة التعتيم على الحادث حتى يتم التحقيق والقبض على المجرم، ما إن غادر رجال الشرطة مسرح الجريمة، بعد أن طوقوا المكان باللاصق الأصفر، انتشر الخبر كالنار في الهشيم دخل أحياء المدينة بأكملها بسرعة البرق، وأصبح حديث الناس، جريمة قتل شنيعة، لأحد تجار سوق المشير.

انتظر (قاسم)، في المقهى كثيرا، لكن (جمال)، لم يأت، اتصل به عدة مرات دون رد، فقرر الذهاب للفلاح؛ يسأل عن سبب منعه من السفر؟ أنزله التاكسي أمام مبنى لونه بني فاتح، يتكون من طابقين، الطابق، الأول خالي من الشبابيك، يوجد على مدخل المبنى رجلان أحدهما: أسمر البشرة، عريض المنكبين، مفتول العضلات له شاربان طويلان كشاربي “هوجن” يرتدي بنطلون جينز أزرق اللون وتشرت أبيض في وسطه تماما صورة الزعيم، يحمل على كتفه بندقية كلاشنكوف، تراها صغيرة على كتفه من شدة ضخامته، والشخص الأخر أبيض البشرة، قصير القامة، سمين، كرشه مترهل، ولا ترى شيئا من ملامح وجهه غير أنف الكبير.

اقترب منهما قليلا، ألقى عليهما التحية، قال الأسمر  بنبر حادة:

– خيرك يا دعوه، تلعثم قليلا أنا ممنوع من السفر و….

لم يكمل كلامه قاطعه بقوله أدخل للمكتب هذا. دخل يمشي خائفا متوترا وكأنه بينها وبين المكتب الذي أشار له الرجل مسافة مئة عام، يتلفت في كل أتجاه، لا يرى ألا الجدران التي تكسوها بقع الدماء، يشتم رائحة العرق الكريهة والرطوبة العفنة.

دخل للمكتب وجد رجلا في منتصف عمره ملتحي جالس خلف مكتب قديم مصنوع من حديد رمادي الون، قال: تفضل كيف أساعدك؟

اطمئن (قاسم) بعض الشيء من أستقبل الرجل وقال:

– أنا ممنوع من السفر، ولا أعرف السبب.

هز رأسه وقال:

– أذهب إلي أخر الممر، تجد مكتب على يدك اليمين، مكتوب عليه قسم الجوزات، ستجد من يحل لك مشكلتك.

ذهب حتى نهاية الممر، لكنه كان أشبه بكهف مظلم، وجد رجلا عبوسا حاد الطباع يجلس على كرسي خشبي، بعد أن حكى له القصة، أخذ أسمه الثلاثي، أمره بالجلوس، غاب حوالي عشر دقائق ورجع ولم تنبس شفتيه بنت كلمة.

جلس (قاسم) طويلا في غرفة الانتظار حتى شعر بالقلق، وقال لنفسه معاتبا لماذا جاءت هنا ليتني سمعت كلام (جمال)، وصرفت النظر عن السفر، لام نفسه كثيراً وقرر الرجوع، لكن الرجل العابس منعه، نظر له والشر يتطاير من عيناه وقال أمرا: أجلس مكانك يا تحفه.

أزدرد قاسم ريقه وجلس على الكرسي يعد أنفاسه. بعد مرور حوالي ساعة ونصف الساعة، دخل شاب صغير حليق الراس والوجه يرتدي بنطلونا أسودا وقميصا أبيضا، ينتعل حذاء أسودا لمعا، وقف أمامه مباشرة، أبتسم وقال:

– أستاذ (قاسم عادل عبدالجواد).

وقف ولازال ينظر خائفا للرجل الجالس على الكرسي فقد يأمره بالجلوس أو يصفعه: نعم أنا.

– تعال معي.

صعدا للدور الثاني، كانت الإنارة خافته جدا، والجداران مطليه باللون الأبيض الناصع، وقف أمام غرفة وقال: بكل احترام انتظرني هنا من فضلك!

طرق على الباب وفتح ودخل، بعد ثانية فتح الباب وسمح له بالدخول. غرفة مربعة مظلمة نوافذها مسدله بها مكتبة كبيرة سوداء اللون، وفي المنتصف يجلس رجل أبيض البشرة مشرب بحمرة، يرتدي بدلة رماديه بدون ربطة عنق، خط رأسه الشيب، بين يديه مجموعة من الاوراق قال دون أن ينظر له:

– أجلس يا قاسم.

وعم الصمت قرابة النصف ساعة. خاطب نفسه قائلا:

– يا ليتني لم آت هنا، وأقف هكذا مثل الطفل الهارب من المدرسة، وأكتشف والده الأمر.

أخيرا نطق الرجل بصوت رزين:

– ماذا تريد يا قاسم؟

شعر بغصة والكلام وقف في بلعومه: أنا.. يا فندي….

مقالات ذات علاقة

شفرة لوتوفاجي (2)

المشرف العام

من رواية ”الأطياف الناطقة“

خيرية فتحي عبدالجليل

مدارس…

جميلة الميهوب

اترك تعليق