سرد

أرز مـبـوّخ

حسنا يا روحي.. سأذهب لإعداد الغذاء، أكلتك المفضلة الأرز المبوّخ، شكرا لك حبيبتي، سأعود للرواية الآن، سأكتب وأنا أشم بخار الأرز و طبيخه المتقلب في الطنجرة تحت الكسكاس، اللحم الوطني يتقلب في السائل الفائر، تؤلمه حرارة الفلفل الأخضر والأحمر، ويكوي نسيجه انقلاء الزيت مع البصل، ألوان الطماطم المعجون تطلي ظهره وبطنه، و الكركم الأصفر يتسلل إلى داخل عظمه ويصبغه بامتنان، الشعب داخل الطنجرة يتقلب، شعب شارف نضجه سيتأخر كثيرا، تحته حطب مشتعل وفحم مشتعل وبترول مشتعل وصحراء مشتعلة، يتقلب، يقاوم النار، يرفض أن ينضج، تاريخه شارف ومشرف، تنطفئ النار التي تحته بعد أن تأكل نفسها إلى آخر رمق، ويظل غير ناضج، غير قابل للأكل، جميل أن النار تحته، إذا هو يركب النار ولا تركبه، عندما يفور كثيرا تخرج بعض القطرات من الطنجرة، تسيل على الجانبين، تصل إلى تحته، حيث النار التي حتما ليست أبدية، تخفف من حدتها، تطفئ بعض سعيرها، يتقلب ماء الطبيخ في الطنجرة أكثر، يتقلب ولا ينقصه البخار الصاعد إلى أعلى، يتقلب ولا ينزح، فهناك من يضخ إلى الطنجرة :

ما نقص من ماء،

ما نقص من دموع،

ما نقص من عرق،

وما ما نقص من دم.

هاهي الأمطار تهطل في شارع السوكومفيت،

ها هي الأمطار تمطر في شارع عمر المختار،

ها هي الأمطار تمطر في شارع مراكش،

هاهي الأمطار تمطر في شارع الشابي

وفي شارع ديدوش مراد

وفي شارع رمسيس

وفي شارع أم درمان

وفي شارع الشام

وفي شارع شنقيط

وفي شارع الرافدين

وفي شوارع الخليج ونجد وبلقيس

وفي شوارع منهاتن والكرملين والإليزيه والساموراي وكونفشيوس وبوذا و الهايد بارك وغيرها من شوارع العواصم. وأيضا في كل الشوارع المسماة بالملوك والرؤساء والزعماء والساسة الشرفاء والأنذال والمنبوذين والمخلوعين.

ها هي الأمطار تدخل الطنجرة الفائرة، تملأها وتفيض إلى حواشيها، وتصل إلى قعرها الخارجي، فلا تجد نارا تضطرم للأسف، فالشعب خرج من الطنجرة، والنيران فرت كما تفر البهيمة من رائحة الهيلع، فما بالك برائحة السباع والنمور والنسور الجارحة والناس الصادقة الشفافة البسيطة التي لا ترغب في أن تـُطبخ في أي طنجرة سوى طنجرة الروح التي أمرها من عند ربي.. لكن هل للروح طنجرة أو وعاء أو صحن ؟.. أو بالأدق هل الروح تعيش فوق موقد نار؟ أو تعيش فوق جناح عفريت؟ للعفريت أجنحة ويطير.. وعلى الرغم من ذلك ليس حرا.. أنبياء الجن يمسكون شكيمته ويوجهونه إلى حيث يريدون.. والكلمات المقدسة تشل حركته وتعذبه وتجبره على الابتعاد عن الأرواح الطيبة .

لا أريد أرز أمبوّخ، لقد تبوّخت أنا نفسي، لقد كرهت تفوير الكلمات، أريد أكلة لا نار فيها، لا ألم فيها، أريد شرمولة، لا لا لا ، شرمولة بها تجريح وهرس عنيف لمشاعر الخضر الطازجة.

أريد فقط كوب ماء بارد، ليس من ماء القنينة أو الجرّة ذات البقبقات، أريده من ماء الغدير أو المطر، من ماء متحرك، راكض إلى الأمام، المطر دائما خلفه السماء، والسماء لم تكن شمالا أبدا، أنظر الآن إلى عقرب القطرة أين تشير، أنظر إلى قلبك، تتبع دقته، والدقة التالية والتالية و كل التوالي يا غالي وواصل الأمر حتى نسيان ماذا تفعل.

دقات القلب ستستمر، ستستمر، وحدائق الذاكرة ستكون سعيدة بتلك الورود التي دقت ومنحت حياة أكثر، حدائق الذاكرة لا تعتبر دقات الماضي قد أدت دورها وانتهت، تعتبرها قد أدت دورها وبدأت مجددا تهطل إلى الأمام.

كل المطر دموع

دق قلب

أغنيات على هيأة ارتواء

لقد قطعت أحلامي أثناء الكتابة عن الأحلام، قطعت السرد وتاه خيطه في كبّة الرواية، هو تشابك، والأشياء المتشابكة ضائعة ما لم يفض الاشتباك، عجزت عن فض متاهة الخيوط هذه، أصابعي خشنة عندما تبتعد عن الحلمات، آسف أيتها الطفلة أعني تبتعد عن الكلمات، مع الأقمشة والخيوط والبلاستيك والمسامير أصابعي خشنة جدا، لا أعرف كيف التقط السلك التائه من سراب الكبّة، سأثرثر قليلا الآن، لعلي استطع أن اصطاده مجددا، الثرثرة طعم يغريه، أكيد سيطل برأسه كدودة من وسط الكوم، وعندئذ أقبض عليه، مراعاة للذوق العام شطبت جملة متمشية مع السياق هي ” أقبض على زبور أمه “، وأمرّقه في إبرة قلمي وأكتب.

الرواية مثل المربوعة، أنت في مربوعتك حر، تفرشها، لا تفرشها، تضع لها مقاعد وثيرة، أو حصير جميل، تستقبل فيها ضيوفا أم لا، تجلب لها عاهرات أو طاهرات، تنام فيها القيلولة أم لا، تقفلها أو تترك بابها مفتوحا، تفتح نافذتها أم تغلقها بالمسامير، أنت حر في مربوعتك مثلما الحاكم حر في بلده الذي يحكمه، يفتحه، يقفله، ينميه يدمره، يدخل به حربا، لا يدخل به حربا، يتصرف فيه كأنه بيته الخاص، كأنه زوجته على شرع الله أو العرف، قد يجعله جميلا وقد يجعله قبيحا، قد يجعله شريفا وقد يجعله ماخورا، قد يجعله سعيدا وآه يا ريت وقد يجعله شقيا يتألم منه الشقاء، أنا أثرثر الآن، ليس لأني غير قادر على نسج حكاية منطقية بها شخصيات ووصف وحوار وحبكة وفن كما يفعل أغلب الروائيين المرموقين كماركيز وديوستوفسكي وتولستوي ونجيب محفوظ وميلان كونديرا وامبرتو ايكو وغيرهم من الساردين المشهورين، لكن لا أحب أن أفعل ذلك، فالكتابة لدي هي فعل حب، تلك الطريقة في الكتابة بها نفاق وتكلف وعصر ذهن وتعب يجلب لي الأمراض الخطيرة، وأنا أريد أن أكتب ببساطة، كما أرى هذا العصر يسير ببساطة، الحياة الآن تغيرت عن الحياة في عصر الروائيين السابقين، لو جاء تولستوي الآن وعاش في عصرنا ما كتب الحرب والسلام ولكان كتب روايات أخرى تستلهم حياة هذا العصر، وربما كتب بطريقتي هذه، أنا أحترم كل البشر، وبإمكان الجميع أن يكونوا أدباء، بإمكان أي إنسان أن يكتب رواية، أنا أتسكع الآن في شوارع بنغازي على غير هدى، أنا أثرثر الآن على غير هدى، بإمكان كل إنسان أن يكتب رواية، لا يفعل شيئا سوى أن يعتبر الرواية قلبه، مربوعته، يضع فيها ما يريد، ما يحب بالأدق، يحكي يغني يلعب يضرب يموت يحيا ينام يحلم، لا يتقيد بشيء، فالكتابة في النهاية تجربة من تجارب التعبير، أي الحرية، لا تضع الحبر في الأسر يا أخي، دعه يسح كما تسح الدموع، تخيل أن له حبيبة قد فارقته، أو أن فريقه خسر مباراة الكأس، أو أنه نال جائزة كبرى أو نجح في امتحان بامتياز.

عموما لا أعرف التنظير حول الرواية، أعرف ألعب فقط وأسجل أهدافا حاسمة في الوقت القاتل، وأظفر بالبطولة، لكن لا أعرف كيف أدرّب الفريق، لو قدت فريقا كمدرب حتما سأخسر، قد أتحيز للاعب منافس أبهرني بلعبة جميلة فلا أطلب من المدافع أو اللاعب الدكاك أن يوقفه ويفسد جمال انطلاقته، أي سيعتبرني الفريق خائنا، وأضف لذلك أني لا أحب الفرق وأحب التفريق، أنا سحر يفرق بين القارئ وكتابه المفضل، لا تنفع معي أي رقى ولا أي سحرة أو مشعوذين، ينفع معي شيء واحد وهو أن لا تقرأني، ابتعد عن هذه الكتابات الفاسدة التي قد تشوش لك ما اعتقدت، وتضع في ذائقتك حفنة ملح، إن طردتها زدت عفنا، وإن تركتها ناكتك ألما.

هناك كلمات لا تريد أن تحط في مخيلتي وأنا في بنغازي، تجبرني على السفر لأجمعها كلمة كلمة، قليل جمعته من المغرب، قليل من الجزائر، قليل من سوريا، قليل من هولندا، قليل من تركيا، قليل من ألمانيا، قليل من مالطا، قليل من اليونان، قليل من الأردن، قليل من اسبانيا، قليل من تايلند، طبعا ليس كل الكلمات أجمعها بتأملي فهناك :

كلمات جمعتها بزبي

كلمات جمعتها بعيني

كلمات جمعتها بلساني

كلمات جمعتها بشفتي

كلمات جمعتها بقدمي

كلمات جمعتها بصدري

كلمات جمعتها بجبيني

كلمات جمعتها بقلبي

كلمات جمعتها بأصابعي

كلمات جمعتها بروحي

ولكي لا يزعل بعض القراء سأضيف :

وكلمات جمعتها بمؤخرتي.

الكلمات لا تريد أن تولد في بنغازي، علي أن أتبعها لأحضر ولادتها ولأسعفها ولأقطع الحبل السري لأبنائها وبناتها من الجمل السعيدة، الكلمات هي التي تختار مكان وتاريخ ميلادها، هي أكثر حرية منا، تعرف متى تولد ؟ وفي أي مكان تحب أنْ ترى النور أو الظلام حسب مزاجها، إن لم يعجبها الأمر تظل محلقة، فترة حملها ليست مثلنا تسعة أشهر، فترة حملها لا تتحدد بالشهور أو بالأيام، قد تطول وقد تقصر، كلمات حملها دقيقة واحدة، كلمات حملها دهر كامل، نحن هناك من خلقنا، وهو الذي يُقدّر زمن ومكان ولادتنا، لكن الكلمات نحن لم نخلقها، ربما خلقت نفسها بنفسها، من حقها أن تولد كما تريد، في أي زمن وفي أي مكان، نحن فقط ذهبنا تخمينا للمكان الذي ستولد فيه، حدسنا أو موهبتنا قادتنا إلى هناك ، إلى المكان الذي سيهطل فيه مطرها، لنستقبلها بأرواحنا الحنون، ونزرعها في مخيلتنا، ونقطف منها الأزهار الطازجة لننقشها على ورق الأحلام، نحن نركض وراءها ، ننتظر مطرها، نصلي من أجل ذلك، نضحي في سبيل ذلك بأي شيء، مطر الكلمات هو المهم هو الأساس يا طفلتي الحبيبة، توقفي الآن عن البكاء ، لقد غادر الكابوس الحلم، فاجأه المطر وليس معه مظلة، انسحب بهدوء، انكمش في نفسه وغاص.

لو أضفت في الظلام، لن تكون الجملة جميلة، نترك كلمة غاص بدون أين أفضل.

بانكوك ـ يوليو _ 2010

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (12)

أبو إسحاق الغدامسي

مقطع من رواية: الأشواجند

فتحي محمد مسعود

فـوضـى

الصديق بودوارة

اترك تعليق