قصة

تواريِ مدينتيِ، تواريِ

واستعملَ “السكايب” ليخبر أتباعه في مدننا، أن يرجموا أشياءنا القديمة، التي لطالما لعبنا حولها دون أن نعي كثيراً من معالمها. أنه يخشى في ذات ليله، ذات وعكة، أن نَسجُدَ لها.

المبروك درباش

من أعمال الفنانة التشكيلية “مريم الصيد”


لم يكن حوارا لذيذاً، لم أكن متلهفا لألفظ أياًّ من ردودي المشاكسة أو الملتحفة بالنص، كانت جلسة عوراء، منتهى رؤيتها رأس أنفها، ومجالها كلمات سُمعت ذات شتيمة، ذات انتكاسة لكل العقول وكل الثمرات البديعة. أبداً لم تكن كجلسات البدايات الكريمة ولا النهايات الوديعة، هكذا نُزلت، مِلْظَاظُة، ملعاة كشاة العيد، متراخيةٌ محاسنها، هكذا كُتبت على ألواح موسى، بائع “السمينسا” التونسي، ونطقَهَا واعظ “بالخير”، الحاج بوذا، أسرع من يلعب “أُم السبع”. كانت جلسة مريضة، كأرضنا، وكنتُ مُرهقاً، عليلاً، قلبي على وطني، على مدينتي، التي جُبتُ أزقتها، وأعرف ثنايا تراكينها وملاذاتها، أعرف أين تسكن بناتها الجميلات، وأمهاتهن الصاخبات، هذي الغيلان اليقظة.

كنت قد ازددتُ يأسا باللحظة، كان الفتي ودودا أحياناً، أعرف هذا لأنه كان يناديني أستاذ مبروك، وأحياناً دكتور مبروك، علامات الاحترام السهل السهْب في ليبيا. كان يفعل ذلك وهو يخرج ما في جعبةَ شيخهِ من أحاديث وعناعن، تدحض ما أعرف وأقول، كانت لحظات الإخراج هذه كالتوليد العسير، يصير نطقها فظا، خليجيّ النبرة، آمراً بشئ ما، قلق فهمه، وعراً، لا يمتثل لجغرافيتنا، لا يمتثل لهنا، لبقعتنا؛ سَهْلة الخَدَّين تلك.

نحن نخشى أن تعبدوها!، قال هو.

أَأَنتُم ْتخشون؟ إجابتي كانت موقدة:

من أنتم؟

هذا السؤال الممتلئ بأشياء وأشياء، أحتفى حُنقيِّ المزدحم، إنهم الأوصياء على عقولنا اليوم، لقد نصبهم كُبراؤهم أئِمَّةٌ للإرادات، وسلاطينا للضمائر، وجلادين للشهوات. ولكيلا تلتهمني شهوة عبادة تماثيل المدينة، هاهو ملتحي نواحي مكة يمنع عنيِّ النار، و يزلفنيِ لأنهار العسل واللبن، كما فعل، من قبلهِ، الحشاشون، حذو قلعة ‘آلموت.’ ها هو هذا الانبعاث “السكايبي”، يكتنز شرعيته من سُكناه قرب عقار مقدس، يفلفل لحيته المبعثرة علي الوجه الأقرب الي الهندي أو البنغالي، قصيرا منتفخاً، وكأنهُ بئر لأرز ‘الكبسة.’ صرخ وبانت أسنانه المتآكل بياضها، وكأنها حُكت بقداسة؛

“أرجوك. لا تنعت عُلماءنا بالحشاشين، انهم لا يدخنون.”

لم يكن لذي رغبة في السخرية من ابن مدينتي الملتحي. فهو لم يكن ولن يكون عدوي، فأنا لا أبحت عن عداءات البلهاء. ليس تعجرفا، بل رفقا بكائنات مدينتي.

فعذرا “ولد شارعي”، المدينة تأبى التواري، تأبى أن تُدك، أن تُصبح ملاذ الغربان الفَليقَة. يا ابنّ هذي الفسيفساء، لمدينتنا قصة أُخرى، لن يكتبها ابن سائق أُمهِ، لن يُعريِّ حشمتها نديم البلاط، ويقبر دلعها الأنثوي الباغث. فأنا لن أذهب بعيداً بعد اليوم، سَهْلُ الوجه أنا، وأترككَ لهم، يسرقونك منا.

    •    الأرض المريضة: من كثرت فيها الفتن.

    •    سَهْلة الخَدَّين: كالسجحاء، تنساب عليها الماء بسهولة.

    •    سَهْلُ الوجه: غير ممتلئ الوجه.

مقالات ذات علاقة

اذبح خروفك

الصديق بودوارة

فـلســفة

إبراهيم حميدان

مــــوت السّيدة “ف. م”

المشرف العام

اترك تعليق