تبدو في قصة الأستاذ محمد المسلاتي العجوزان تلك المحاولة لرتق الزمن، أو المحاولة للقفز على المسافات البعيدة، كما يبدو في القصة تلك الطيبة التي تتملك الراوي وهو يرغب في خلق بيئة تفاعل جديد مناسب بين شخصيتين: رجل وامرأة في أخر العمر، افترقا منذ زمن طويل والتقيا من جديد صدفة. الراوي جعل من الأحداث مناسبة لعودتهما حيث كانت زوجته قد توفت قبل سنتين، وزوجها توفى قبل سنة وكليهما لا حاجة لحد بهما.
استعادا معا ذكرياتهما القديمة، لكنهما لم ينفكا هما ذاتهما كما كانا زمن علاقتهما الفاشلة. لنتابع بداية اللقاء بينهما :
“– من؟
– أنتَ
– أنتِ
– يا لها من مصادفة !
– مصادفة؟ إنها أكثر من ذلك. لا. لا أصدق عينيّ، أيمكن أن يحدث هذا يا إلهي؟
هكذا، فجأةً نلتقي بعد خمسين عاماً، أهي الدنيا صغيرة إلى هذا الحد. أم أن الأمور تعيد نفسها ؟
– وأتعرف إليكِ من دون مشقة.
– وأنتَ ألم تشدّني ملامحك وسط عشرات العابرين .
ـ أين . . أين اختفيتِ كل هذه المدة الطويلة؟
ـ أنا لم أغادر هذه المدينة، أنتَ الذي تواريت بعد أن حدث ما حدث .
ويبدأ بينهما الحوار المناكف المعتاد، الحوار الذي كان سببا مهما لفراقهما وتركهما بعضهما البعض، حوار مع سيدة تتقن إنجاز التهمة وشخص جاهز فطريا للدفاع عن النفس.
لنلاحظ هنا كيف يبرر غلطة غير موجودة بكبر عمره:
ـ صحيح، الذاكرة بدأت تشيخ أيضاً، أحياناً نخلط بين الأمور، أنتِ مكثتِ هنا، أنا من رحل، أجل بعد خمس سنوات من افتراقنا تحت تلك الظروف القاسية التي مرّت بنا، حاولنا كثيرًا .. لكننا لم نصمد في وجهها . . هاجرتُ إلى قرية نائية . . حاولت أن أتغلب على آلامي، وبعد عامين تزوجت لأقهر وحدتي، وشعوري بالغربة .
بينما نتابع هنا كيف تم إنجاز (جبر الضرر) وعودة العلاقة بالقفز على المنطقة الموحلة بينهما والعودة إلى لحظة البدايات، ذلك انه طالما كانت البدايات جميلة رائعة موسومة بالأحلام الطيبة.
لنتابع هنا هذا الحوار الذي يظهر الطبيعة الخاصة لكل منهما من خلال حكم يطلقه أحدهما على الأخر، حيث كانت هي الأكثر قدرة على إطلاق الأحكام والأكثر قدرة على الهجوم، ويبدو عبر ذلك بينهما ذلك الفهم العميق الذي يحمله كل منهما للأخر:
“أعين الناس طاردتنا كثيرًا .
ـ وفضولهم كان يبحث عنا دائمًا .
ـ دعنا من الماضي .
ـ لا نستطيع أن نتخلص منه هو الذي دفعنا إلى الحاضر .
ـ آه منك، ألا تترك عادتك لتعليل كل الأمور؟”
تكون العودة للحظة البدايات (كما أسلفنا) والعودة بينهما لشباب جديد مع الشعور بذلك الخجل الفطري من أعين المارة المراقبة لهما، ذلك أن التفاعل بينهما يبدأ عندما يضعنا الراوي في ماضيهما الأبعد. ذلك الماضي الجميل زمن الترقب والخوف من الناس وهو في زمن سابق لمشاكلهما.
يبدأ الراوي ذلك التحول الدرامي وهو يضعنا في برودة الجو التي ستكون نقيض الدفء الموالي بعد الموقف بينهما، وبعد ان تصرف بفطرته تصرفا أربكهما معا:
هبّت بينهما رياح باردة . . لاحظ أنها ارتعدت . . خلع سترته الباهتة . . قرّبها من كتفيها . . يداه ترتعشان . . انتبهت لارتباكه . . طفح فؤادها بحنان بالغ .. كل ما فيها يذوب لتصرفه المباغت . . انتابها شعور طفلة. . منذ سنوات لم يحضرها هذا الشعور . . دنا منها . . استقرت السترة على كتفيها . . سرى في جسدها النحيل دفء خفي . . تسرب إلى القلب . . تمنت لو أن يديه استقرتا على كتفيها للأبد . . داهمها خجل غريب . . شعرت كما لو أن العيون ترمقهما بفضول . . لاشكّ أنهم رأوا ما فعله معها . . المارة كثيرون . . خطت للخلف تاركة مسافة بينهما سارقت النظر نحو العابرين . . لا أحد ينظر إليهما . . لا أحد . . لم يلتفتوا إليهما قط. . كانوا يمضون من قربهما غير منتبهين لوجودهما. . انتقل إليه خوفها . . وخجلها . . ركض في أعماقه طفل مذنب. . تراجع إلى الخلف متواريًا عن الأعين . .
في وسط كل هذا السرد يسرب الراوي الحقيقة المرة التي لا يستطيع أن يخفيها كلا منهما ولا يستطيعا إلا أن يجداها امامهما، حيث نجده يصف الشخصية الذكر بكونه: عجوز باهت الثياب يداه ترتعشان، وهي ذات جسد نحيل ويد معروقة خشنة. لكن الخجل الفطري الطبيعي كان جميلا وكان أداة لاستعادة تلك اللحظة القديمة.
قصة مميزة اشتغل فيها الاستاذ محمد المسلاتي بشكل طيب على الحوار، وكان الحوار فاعلا في إبراز تناقض المتحاورين، كما كان قادرا على إبراز تاريخ العلاقة بينهما دون أن يقع في كثير ترهل. النقطة الزمنية التي اشتغل عليها الراوي كانت مميزة وكانت تعبر عن نهاية مرحلة وبداية أخرى وتقدم تصورا مميزا لتحولات حيا شخصين بطريقة طيبة وسرد ماتع وقدرة على الترميز الداعم لإبراز طبيعة الشخصيتين وكذلك طبيعة المجتمع.