حميد عقبي | اليمن
ربما لأسباب مهنية يغيب عنا الشاعر الليبي مفتاح العلواني، وقد يُعطل حتى حسابه على فيسبوك لأيام أو أسابيع، لكني أظن أن مثل هذه التجربة لا يُمكن أن تتجمد أو تصاب بالترهل. وسبق للشاعر مفتاح العلوني أن شاركنا في عدة أمسيات وفعاليات شعرية على منبر المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح، وتجربته الشعرية تستحق التأمل والدراسة النقدية. وصدر له ديوانه الأول بعنوان “تلويحة عالقة في الهواء” عن دار البيان للنشر والتوزيع والإعلان. وتتوفر له الكثير من النصوص المنشورة على عدة منابر ومواقع شعرية وأدبية، وعلى الرغم من ندرة المقالات المكتوبة حول هذه التجربة، إلا أنها تتمتع بعناصر شعرية ودهشة، وتتسم نصوصه بأنها تأملية في الذات وما يحيط بها من وجع جماعي. قد يقف كالمشلول والمستسلم لعاصفة من الأحلام والكوابيس، يدعها تفترسه دون أن يقاوم، ثم يحاول أن ينقل لنا هذه التجربة بوجعها وجمالها. وسنحتاج إلى بعض النماذج لنفهم هذا الشاعر وهذه التجربة القلقة.
لنأخذ هذا النموذج:
تَقهقُر بلاَ جسَد
مُنذ أنْ ماتَ أبِي و أنَا
أَركُض ..
لمْ أبرَح مَكانِي .. لكِنّني كُنت أركُض
بِقوةٍ هائِلة عَكس الزّمن !!
كَانتْ أطْرافي تَسقطُ و تَذوب ..
و الدّمعُ يجْرحُ خدّ الرّيح
كُلمَا انْحدرَت دَمعَة .. رَأيتُ
دَماً يسيْل في الهَواءْ !!
أَركُض ..
مَاراً بأَحلاَمي القَديمَة
أَحلاَمي الّتي فَتّت أَبي
أَحلامهُ لِأجلِها ..
لوّحتْ لي .. غَير أنّ رأْسي الْتوى
وأنَا أنْظرُ إليهَا مَشدوهاً حتّى
تَوارتْ في الأُفق !
فِي الطّريقِ أَيضاً صْادفتُ ظلّي ..
كَانَ يَجري في الاتّجاهِ
المُقابلْ
لَم يتعَرفْ عَلي
كَما أنّ أطْرافهُ لمْ تسقُط
مَطَّ شَفتَيهِ و ابتَعدْ أيضاً
مَاتَ أبِي ..ومُذ ذَاكَ و أنَا أعدُو إلَى
الخَلف
أَرى أُناساً يَبتسِمون ..
وآخرُون انْفجرتْ حنَاجرهُم وهُم
يُنادونَ موْتاهمْ
لَكنّهم ليسُوا مِثلَك يا أَبي
لاَ يُشبهُونكَ يا حبِيبِي
أركُض ..
أعبُر أَزمِنةً قدِيمةً وحَضاراتٍ شَاسعَة..
تُصادِفُني أَغانٍ لَطالمَا ردّدتَها لأمّي
فِي غَفلةٍ مِن الحُزن ..
أَصابَها الخَرسُ يا أبي ..
وأَنا تَعبتُ .. تَعبتْ
أَعيانِيَ الرَكضُ مِن بعدكْ
ووَهنتْ رُوحي .. وتَساقطْت كُل أطْرافِي ..
و اسْتحالتْ أرضُ قَلبي قَفراً..
والنّاسُ ..كلّ النّاسِ فِي غِيابِك سَواء..
سأَقِفُ الآن عنِ الرّكض .. و أَنتظر ..
أَنتظِرُ أنْ تَلوح رُوحكَ في الأُفق
لأَستَعيد بعضاً مِن نفسٍ ادّخرتُه لِعناقٍ
طويلْ ..
طوِيلٍ يا عزيزِي .
هنا يقف الشاعر مفتاح العلوني ليصور حالة جماعية في واقعه المشبعة بالفجيعة والأوجاع التي لا تنتهي، ولا أظنها تعكس مجرد حالة ذاتية وشخصية بعيدة عن تراجيديا الواقع. إنه يتخذ من موت الأب ويصور أيضاً ما يحدث للآخرين الذين يواجهون الفقدان والموت وهو في حالة تضامن ومواساة. تصوير الشاعر لبشاعة الموت ينطوي على تأملات عميقة في العبور من الحياة إلى الموت وهذا العبور قد يكون لحظة قصيرة جداً وقد يطول وقد ننادي موتنا ونشجعه أن يقترب وأن يكون شجاعاً لنقلنا إلى عالم أكثر رحابة نتوقف فيه عن الركض المتعب.
الركض، هنا حالة حركية داخلية وعاطفية متواصلة وليست فيزيائية مؤقتة، وربما كذلك حاجة للمعرفة وكأنه حالة منشطة للتأمل لما يحدث من هزات بالداخل وكأنه يدعونا للركض معه، هو يركض ولا يبرح مكانه أو حالته وحالتنا المرتبكة، كما يوظفه لغويا ليستدعي المشهدية التي تحدث بداخله وحوله، النص بعيد جداً عن البكائية والمونودراما الجامدة، هو يدعونا أن ننضم معه وإليه ونتقاسم هذا الوجع.
قد يشيرُ العنوان “تَقهقُر بلاَ جسَد” لهذا النص ويُحرك عدة دلالات بداخل النص. هنا، قديرمز إلى عملية التحول والتحول الروحي التي يمر بها الشاعر ونمر بها أيضًا. بلداننا المنكوبة لم تعد مسرحًا للفرح كما كانت، ولم نتخيل أن نكون جُزءًا من هذه التراجيديا العصرية التي تطول ولا تنتهي فصولها. يتجه مفتاح العلواني نحو العالم الروحي والتأملي، حيث يسعى لتجاوز الحدود المادية واللحظات اليومية الحياتية المرهقة، واكتشاف الجانب الأعمق والأكثر أهمية للوجود. يتميز العنوان بأنه، منذ اللحظة الأولى، يفكك ويشتت النص ويبعثر بعض صوره ومشاهده، وتكون هذه المشاهد ديناميكية وتتسم ببعض الغموض المُربك.
مفتاح العلواني لا يقدم نصوصه إلى القارئ داخل هذا المناخ الحزين، بل هو يعرض رؤيته الخاصة لهذا العالم الذي يفتقد الفرح والسلام والحلم. يتنقل إلى الوراء ويتذكر أزمنة وحضارات قديمة، كأنه يستمع بعناية إلى بعض الأغاني ليهديها إلى أمه وكل أم حزينة، وكل زوجة ثكلى، وكل طفلة يتيمة. يصل إلى مرحلة يعترف فيها بتعبه ويعلن الحاجة إلى الراحة من كيانه كشاعر ومتأمل، بعيدًا عن الركض والكتابة. ينظر إلى تلويحة ودعوة تأتي من الضفة الأخرى، حيث تتواجد روح الأب.
في نصوص أخرى كثيرة وقصيرة، يبدو الشاعر كمن يمارس القسوة المفرطة على ذاته، يؤنبها ويراجع كتابته:ـ
أشعر بك..
إنك مثل جبلٍ من الجليد..
تتآكل وتغادر نفسك
كنهرٍ..
رغم أنك في عيون الآخرين
ثابت وبارد.
وربما يكون خطاب الحبيبة ولومها والذي قد يصل إلى حالة غضب في بعض الحالات، هو يلتقط هذا العتاب وكأن الحبيبة المرآة الحقيقية ليرى فيها حقيقته وما يصيبه من تحولات، هي تحاول تحريره من الجمود والبرودة والثبات وكأنها تدفعه لمغادرة حالة فوضى الحزن والهذيان وأن يتحرك شعريته نحوها وإليها.
في هذا النموذج الأخير، ثمة عودة إلى النفس والذات:
لن أخرج عن السطر
تقول لنفسك..
لكن رجليك تؤلمانك من الاستقامة
كل هذا الوقت..
متعبتان من رغبتك القديمة
في اقتراف الحياة..
من يحمل عنك جسدك أيها المترع
بالأسئلة ولا جواب لك.
لن أهرب
تسرّ للأبواب المشرعة أخيراً..
ثم تتكئ على نافذة أيامك..
تراقب نفسك.. حين كنت صبياً يتأبط
كرته المهترئة..
ينتظر رفاقه.. ويرجو لو أن اليوم
أطول مما يجب.
لن تفلتي الآن..
تخبر كلمة تهرب منك
في الوقت الحرِج..
ثم تمدّ يدكَ لـ تُمسك بـ ياقَتها
قبل أن تنزلق..
يدكَ التي تعِبت من
من ملاحقة الكلام الضال..
لن أختبئ..
تصرخ بكامل وهنك..
واقفاً في منتصف الطريق
مبتسماً..
تود أن يراك كل شيء حتى الخوف..
مطمئناً.. تعرف أن الحياة
أقصر من أن تضيع في الحذر.
لم أعد قلقاً..
تقول لنفسك التي تدين لها
لها بك حينما كنت
جيداً..
وحينما كنت تعرفُ أين تطأ
بقدمك..
ومن تختارُ لكلماتك الشحيحة.
لا أسمعك..
تومئ للنداءات البعيدة..
النداءات التي عرفت أنه لم تعد تغريك
العودة..
حين عرفتَ أنه يجب النجاةُ
ببعضك المتوجّس.
ثمة رغبات مشروعة في ممارسة الحياة كشخص عادي، لكن الشاعر ليس أي شخص، تصرعه الهذيانات، تُرهق جسده، يركض هنا أيضًا ويسعى إلى طوق النجاة، لملمة الأجزاء المتبعثرة وأن يعود ذلك الطفل أو يكون الحبيب الذي لم يبتلع بلوثة الشعر وجنونه، يراف لحالة الحبيبة الصبورة والأصدقاء المنتظرين لحظات مرح وأسئلة كثيرة يعجز حيّ عن فهمها للذات والواقع والكون.
قد نشعر بالاضطراب والحيرة أثناء قراءة هذه النصوص ونعجز عن فهم بعضها أو أجزاء منها، فنحن مع حالات متعددة يحدث فيها أكثر مما نتوقعه، ثمة لحظة نكاد نتلمس محاولة الاندماج مع هذا الواقع وفهمه ثم يبتعد بنا إلى خيالات هي أبعد من هنا أي الحياة إلى هناك الموت، هذيانات مشتتة ومنكسرة والحالمة بلحظة عناقات وفرح.