قراءة سريعة في ديوان “مشارف الآن” للشاعر عبدالباسط أبوبكر محمد
حين وصلني ديوان (مشارف الآن) بإهداء جميل من الشاعر الليبي الشاب عبدالباسط أبوبكر محمد قبل ثلاث سنوات، اعتقدت للوهلة الأولى أنني في قراءتي لهذه المجموعة سأكون امام قصائد زمانية صرفة ،لا سيما بعد أن قرأت الإهداء على عجل فوجدته ؛
إلى الوقت
مترهلا ..و ضيقا ،، و عميقا !!
لكن سرعان ما تبدد هذا الاعتقاد حين قرات المفتتح الذي كان مكانيا بامتياز .. حيث يقول عن الفكرة:
كلما اخذتها من يدها
سلكت بي طريقا مغايرا
فالطريق لايمكن إلا ان يكون مكانا حتى وإن جاء على سبيل المجاز.
فأين يبتدىء الزمان في (مشارف الآن) و اين ينتهي المكان؟!!
في قصيدة “جناح من كلم” يتخذ شاعرنا من اللغة وسيلة يطارد بها فكرته، ففي جملة جمعت المكان والزمان يقول :
أمر خلفك
مثقلا بوقتي الضئيل (ص10)
…
..
ثم يصنع من النحو مجازا للزمن بقوله:
أقول فكرة مضارعة
بلغة ماضية
يعقبها مباشرة بجملة مكانية (و استلقي على جدار متهالك) (ص11)
وإذا كانت في القصيدة بعض التعبيرات الزمانية مثل (اترنم بعمري) أو (لا تستوقف النهار) فإن التعبير عن المكان فيها أوضح لفظا و أظهر عددا فمفردات (المدى ، والبحر ، والاتجاه ، قلب ، خرم ، شقوق) ليست إلا اشارات لأماكن مادية كانت أو معنوية.
ناهيك عن ظرف المكان الوارد في القصيدة من قبل (أمر خلفك ، فراشة تدور حول رحيقها ).
وفي قصيدته (كيف تكتب قصيدة)،التي يعطي فيها اسرار كتابة القصيدة لشاعر مبتدىء مفترض، يجعل شاعرنا من فعل الأمر لازمة لبداية معظم – إن لم تكن كل – جمله الشعرية ، مثل؛ ضع ، اصنع ، فكر ، تأمل ، ابتعد ، احذر ، دع ،اترك ، فكر ، احلم ، تدثر، تذكر ، قل ، افرد ، ترصد ، مرر ،انتفض ، دع..
وهنا لا يخفى دلالة فعل الأمر على أنه يتطلب حدوثه زمنا مستقبلا ، وبذلك نستطيع القول بأنها قصيدة زمنية ولعل مقطعها الاخير يصدق ما ذهبنا إليه في هذا المعنى حيث يقول:
فكر قليلا
دع الوقت
يقطف روح القصيدة
الناضجة
..
وفي قصيدة (يا إلهي) ، وهي بمثابة مناجاة ودعاء متعبد قد ملأته السكينة وفاض قلبه بالإيمان فجات جملها قريبة المعاني سلسة الالفاظ بما يعبر عن الأجواء التي كتبت فيها، و ربما لذلك طافت روح الشاعر في اللامكان متخذة من الزمان أكثر تعبيرا عن ذلك ولكن برغم كل ذلك التصق المكان بالزمان فجاءت عباراتها
يا إلهي (القريب) إلي كضحكتي
(البعيد) جدا في السمو
..
المتعالي في (القدم)
(قربني) منك
(ارفعني) على سلم العطر
و زين (الوقت) بما تبقى
…
..
يا نداء (الوقت) إلى عروة الروح
يا هطول (الفجر) في اكواب الصلاة
يا خطوة (الغد) في متناول (اليوم)
…
..
يا (أمسي) البعيد
يا (يومي المتاح)
يا (غدي القريب)
معظم التعبيرات في القصيدة زمانية وابتعدت عن المكان بقدر مايملي موضوعها ذلك الابتعاد.
في قصيدة (نزق جديد) يسافر الشاعر عبدالباسط أبوبكر محمد في الزمن بطريقة أخرى، حيث يبدأ قصيدته ، التي نستطيع أن نصفها بأنها سيرة شبه ذاتية، بجملة
الطفل الذي ترك حقيبته
على حافة القلق
…
..
لينهيها بقوله:
الطفل الذي
ذهب في الرجولة بعيدا
يتوسد لغته الآن
ويفتش عن كلام يتسع له
…
..
إذن هي رحلة عمر الشاعر مذ كان طفلا حتى كتابة هذه القصيدة (الزمانية) ولا يأتي على ذكر المكان إلا لماما حين يقول:
نام في آخر (الصف) ممتلئا
بمعجزاته الكثيرة
نزل إلى (الشارع)
…
..
ولا غرابة في ذلك، فالشاعر لايريد ان يرسم لنا اماكن عاش فيها او سافر لها بقدر ما يريد اخذنا معه في رحلة زمنية انتقل فيها ذاك الطفل بقلقه وسؤاله و أحلامه ولعبه البريء ، إلى امتلائه باللغة التي صارت تضيق بمشاعره واحاسيسه وقصائده.
معظم قصائد الديوان جاءت (زمكانية) إن صح القول فهي نصف زمانية ونصف مكانية ففي قصيدة (موعد) على سبيل المثال نجد أمرين اثنين يسيطران على القصيدة هما “الساعة العاشرة” (زمن) و “طرابلس” (مكان)وكل صور القصيدة المتلاحقة لاتخرج عن صورة كبيرة للشاعر وهو في طرابلس عند الساعة العاشرة..
وكذلك الحال في قصيدة (كيف لا انطفىء) حيث تتساكن المفردات الزمانية مع المكانية فلا تفصلها إلا بعض الجمل واحيانا بعض الكلمات:
كيف لا انطفىء؟!
وانت تنتظرين (قرب) القصيدة
حيث “انا”هادىء
لا اتسلق هواجسي
ولا افجر (وقتي) ص37
…
..
وهذا (المدى) مسكون بك
و(العمر) ينسكب بين يديك
..
و(المسافة) تشطب ابعادها
وتلبس (العمر)ماتناثر
..
وانا اعلق يومي على حائطك
وانفخ فيك من روحي
وهذا(الوقت) طريق إليك ..ص38
…
وتستمر مفردات القصيدة في تواردها كمتتاليات زمكانية (مدينتي، الديار ،الطريق ، العمر ،الليل ، الوقت ، النهار).. إلى نهاية القصيدة حيث يختمها بقوله:
آه..كم مر من وقتي
وأسئلتي الملتهبة تحفر عميقا
في جسد هذا الليل؟! ص42
**
وعلى هذا المنوال ينسج عبدالباسط القصائد الأربع والعشرين التي تضمنها ديوانه الأنيق (مشارف الآن)، حيث يمتزج الزمان بالمكان (ماديا و معنويا) فما تكاد تجد مفردة تشير للزمن بدون ان تتبعها او تسبقها مفردة تدل على مكان ما، والحقيقة أن هذا هو قانون الطبيعة الذي أوجده الخالق فيها بحكمته، فلا مندوحة للفعل -أي فعل- من أن يكون محصورا في زمان ومكان ما. فليس من المتصور أبدا – على الأقل في حدود الفكر الإنساني – وجود مكان دون زمن أو زمن دون مكان.
ولعل نظرة أخرى متأنية لعنوان الديوان(مشارف الآن) تجعلنا الآن نرى بوضوح أكثر أن هذه الجملة في حد ذاتها تجمع المكان(مشارف) بالزمان (الآن)، فمشارف أي شيء هو الإطلالة عليه من مكان قريب ، كما يقال (على مشارف المدينة)مثلا..
**
ولعل من المهم ان نشير في الختام للقصيدة الأخيرة التي ضمها ديوان (مشارف الآن) وعنوانها “الشاعر ليس إلا”، وإن كان شاعرنا قد اهدى هذه القصيدة للشاعر الرويعي الفاخري، إلا أنني أراه يقصد بها الشاعر ، كل شاعر أيا كان اسمه او مكانه او زمانه ، فكل شاعر (يمر في مفاصل الزمان) و(يطلق للأقاصي بوحه) و(يركض طويلا حول لعبته) وهو (ما تناثر في التفاصيل) وهو(السؤال يصل أبعد من الإجابة)…
على أن شاعرنا يختم ديوانه بجملة شعرية تلخص كل ما تناولته في هذه القراءة السريعة للديوان، حيث يقول عبدالباسط أبوبكر محمد ، إن الشاعر – أي شاعر – ما هو إلا الوقت .. و الوطن
اي بتعبير آخر إنه الزمان .. والمكان
(الشاعر:
ليس إلا الوقت
ما استدار من معان
ما تساقط من حلم في الشقوق
ما تكسر من ألق
الشاعر هو الوطن
ليس إلا!!) ص105
طرابلس 15 اغسطس 2020