لم تعد آلات الحفر الثقيلة في ليبيا تتسلل تحت جنح الظلام لتجرف الآثارالإغريقية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، في أنحاء البلاد، بل أصبحت تعمل في وضح النهار لتحيل مواقع الآثار إلى مبان ومساكن.
ويتحدث الخبراء عن انتهاكات كبيرة في المواقع القريبة والبعيدة عن أعين الدولة، والتي نالت -كما يؤكد بعضهم- 70% حتى الآن من المواقع الخارجة عن حدود رقابة الجهات الرسمية ومتابعتها.
ويصف أستاذ الآثار في الجامعات الليبية فضل القوريني عمليات التجريف التي تتعرض لها مناطق أثرية بالبلاد بأنها أكبر كارثة في ليبيا حاليا، وأطلع الجزيرة نت على أكثر من 15 موقعا أثريا تعرض للتجريف بعد الثورة.
وحسب القوريني تضم هذه المواقع مدينة شحات أو قوريني -التي أسست في حدود سنة 631 ق م عن طريق بعض المغامرين الإغريق- وكنيسة برطلس التي ترجع للعصر البيزنطي (القرن الثالث والرابع الميلادي) شمال شحات.
انتهاكات خطيرة:
وأشار الأكاديمي الليبي إلى انتهاك موقع “سيرة قطوفة” بمدينة البيضاء شرقا، وهدم جزء كبير من منطقة القطوعة التي تضم توابيت وزخارف شمال منطقة الأبرق، وهذا الموقع بحسب القوريني يرجع لبداية العصر الروماني سنة 96 ق م.
وتحدث أيضا عن تجريف قبر “مريم الهلالية” في الصحراء على بُعد أربعين كليومترا جنوب العزيات شرق ليبيا، وهي سيدة ترجع أصولها لقبيلة بني هلال. كما أن مقابر ونقوش بمقبرة البقارة بالقرب من البيضاء ترجع للقرن الأول الميلادي تعرضت للهدم هي أيضا، وكذلك إزالة الجزء الغربي من ضريح صفيط التاريخي بمنطقة ككلة بالجبل الغربي.
وتحسر القوريني على تخريب قصر إسلامي بناه المعز لدين الله الفاطمي -أسس قائده العسكري مدينة القاهرة- بمنطقة العزيات التي تقع غرب مدينة طبرق على الحدود الليبية المصرية، ليتحول إلى إسطبل حيوانات في الوقت الحاضر، وتخريب مسجد قديم بمنطقة المخيلي يرجع للعصر الإسلامي وقد تحول بدوره إلى حظيرة للحيوانات.
من جهته كشف عضو جمعية حماية الآثار في بنغازي عبد الحفيظ المسلاتي للجزيرة نت عن مواقع أخرى تعرضت للتجريف ببنغازي وضواحيها، فالجرافات -حسب قوله- دمرت مستوطنة رومانية ترجع للقرن الثاني الميلادي بمقبرة دريانة ضواحي بنغازي، واصفا تجريف مستوطنة رومانية أخرى بمنطقة القصيبة بـأنها “كارثة”.
وأكد أن بعض الباحثين يقولون إن المستوطنة التي تم تجريفها بها كنيسة تحت الأرض، موضحا أن بعض محتوياتها من معصرة زيتون وعمود قد اختفت، وقد تم فتح تحقيق بالنيابة العامة بشأن الواقعة.
وتحدث المسلاتي عن تقليص مساحة “قصر شبنة” ببنغازي ليتراجع من ثلاثة الآف متر إلى أقل من ذلك بكثير بحجة تنظيف الأرض من قبل المالك. كما كشف عن تقسيم منطقة “يوسبريدس” أو بنغازي القديمة -التي أنشئت في الفترة من 525 ق م إلى 515 ق م- إلى قطع للبناء وعرضها للبيع.
مسؤولية الدولة:
ويحمل الباحث في الآثار عبد المنعم العمروني المؤسسات الرسمية المسؤولية الكاملة عن الإهمال الذي أدى إلى الوضع الحالي وذلك بعدم وضع لوحات دالة على الآثار، مؤكدا أن المصلحة شاركت في تدمير المواقع الأثرية.
من جهته اعترف رئيس مصلحة الآثار الليبية صالح العقاب في مقابلة مع الجزيرة نت بالاعتداءات المتكررة على المواقع الأثرية بعد الثورة، وعزا ذلك إلى توقف المشاريع الإسكانية طوال الأعوام الماضية، مؤكدا صعوبة السيطرة على كافة المناطق الأثرية الليبية خاصة البعيدة وتوفير الحماية لكافة المناطق الأثرية.
وشدد على صعوبة مسألة الرقابة في ضوء حركة البناء السريعة الجارية حاليا، مشيرا إلى أن أصحاب الجرافات الذين يمهدون الأراضي للبناء يعملون بسرعة كبيرة للحصول على المكاسب المادية، أما أعمالهم في تفقد وحماية المناطق الأثرية، فهي منظمة وبحاجة إلى متخصصين مما يجعلها بطيئة.
وقال العقاب إنه لايكاد يخلو موقع من الانتهاكات بجبل نفوسة في غرب ليبيا، وفي منطقة زويلة بآثارها الإسلامية، وفي أغلب مدن الشرق التي يقترب منها البناء العشوائي.
لكنه تحدث عن واقعة تبليغ سائق جرافة عن موقع أثري بمنطقة “مرسى اللك” بالقرب من الحدود مع مصر، وهو ما يؤكد -حسب وجهة نظره- حرص المواطن العادي على إرث ليبيا التاريخي الإنساني، وقد تم إرسال فريق من المتخصصين لتقييم الموقع وإيقاف العمل في المنطقة.