لمس الخريف أطراف الصيف المغادر محاولا اللحاق به.. لهث فتساقطت أوراق أشجار باريس الرشيقة على جنبات طرقها. لباريس منافذ متعددة، يدخلها آلاف البشر صباحا ويغادرونها ما إن يحل المساء.
وفي ذلك المساء الخريفي، قَرَرَت أن تسبح في مدينة بلا شواطئ.. حتى النهر الذي يشقها إلى نصفين، يجري بين طرقات معبدة، تركن على ضفتيه سفن “البنيش” المسطحة، يجلس أصحابها على سطحها يتناولون علب الجعة صيفا، وأكواب الشوكولا شتاءً، يعيشون في مساكن عائمة مفتوحة، ينشرون غسيلهم على سطحه ويركنون دراجاتهم إلى جواره، ويصدحون بالموسيقى ويرقصون. أما الخريف فغالبا ما يقضون مساءاته في جوفها، فتصمت ثرثرتهم التي يشاركونها مع العابرين على ضفاف النهر، يدعدع الخريف مراكبهم فتصطدم في كل مرة بعجلات المطاط المعلقة على حائط النهر. ينتظرون رحيل الخريف العابر وهو يلاحق الصيف لاهثا.
السباحة في باريس مغامرة، قصة في حد ذاتها. لكنها في ذلك اليوم أصرت على أن تكون سلحفاة، برمائية، تبلل جسدها ثم تستقبل الخريف به وترتعد كأوراقه وتتجفف كسيقانه، ثم تتغطى بما يقع تحت يدها كما تغطى الجذع جموع الأوراق اليابسة.
لم يكن فندق “Nikko” بعيدا عن مقر عملها، تناولت مفاتيحها، وحقيبة ملابسها، وبعض أوراقها وغادرت. ضغطت على زر الباب الخارجي الخشبي الضخم، دفعته وخرجت إلى الشارع فانتابتها رعشة خريفية. كان المساء يهبط ببطء وبرودة وقد حدد بخطوطه أسطح المباني، لكن الضوء ما يزال يشع بغبش في المكان ولم تسر الإنارة في حديد برج ايفيل المصمت بعد.
عَبَرت جسر “دي أنا” بعد أن هبطت درجات ساحات ” تروكاديرو” نحو الحدائق الواسعة. كان النهر شاحبا كعادته، منهكا بعد يوم طويل من حركة سفن “البنيش” البطيئة و”الباتوموش” السياحية فيه.
يقع الفندق في حي حديث، تتزاحم فيه عمارات شاهقة. غريب وسط مدينة متناسقة المعمار، لا تتفاخر بعلو مبانيها بل بتاريخ بنائها وبهوية قاطنيها. يجاور الفندق النهر كما تجاور سفن “البنيش” حائطه وتركن إليه، مكبلة به، تتداعي مع حركته فتبدو وكأنها تتوق للرحيل لكنها لا تفعل، حتى أكل الماء أجزاءً من أطرافها.
رفعت رأسها تبحث عن اسم الفندق الغريب، الذي سرعان ما اشتعلت حروفه الحمراء ما ان هبط المساء وغلف خطواتها النشطة.
⁃ علمت ان لديكم بركة سباحة مغلقة.
⁃ نعم يا آنسة، انها في السطح. رد موظف الاستقبال
⁃ لكنها مغلقة..أليس كذلك؟
⁃ نعم نعم..
اتجهت نحو المصعد، لكن صوته لاحقها..
⁃ آنسة.. آنسة لا تنسي سداد قيمة استخدامها قبل الصعود.
عادت نحوه مجددا… وسددت القيمة.
ضغطت على الزر الاخير، فأطاعها المصعد وانطلق بها بسرعة فائقة.. كان كعلبة زجاج شفافة ينزلق على حائط المبنى الزجاجي، تمتصه عتمة المساء وهو يرتفع نحوها مسرعا.. رأت وجه باريس الليلي يضيء.. كله يضيء حتى النهر الشاحب بدت لجته الساكنة مضيئة، عيون السيارات، واجهات المحلات والمقاهي، إنارات الشوارع والبنايات، لكن الأجمل كان برج ايفيل المتلألئ في سماء باريس يرسل إشارة ضوئية نحو السماء، ويصاحبها في صعودها إلى حافة المبنى.
أصدر المصعد رنينا يعلمها بالوصول.. كان المكان فارغا إلا منها، تتوسطه بركة سباحة صغيرة نسبيا.. ابتسمت وهي تذكّر نفسها بأن الفندق لشركة يابانية…
لامست الماء البارد وأطلقت لذراعيها ولساقيها حرية الحركة، تقودها من حاجز إلى آخر…شعرت بأنها امتلكت البركة. كان الخريف في الخارج يحرك كل شيء، وهي في البركة تزعج مياهها التي كانت وادعة وساكنة قبل نزولها إليها.
وفي أثناء دورانها وحركتها، شعرت فجأة بالخريف ينسل إلى الداخل.. حركته المتسللة وراء الصيف وهي تلاحقه، لهاثه وهو يسقط الاوراق ويرمي بها بعيدا، تصميمه على المضي قدما وراء كل ورقة لا يهنأ حتى يردي بها أرضا…
هزأت بأفكارها.. كيف له ان يأت اليها وهي تسبح في بركة مغلقة على سقف بناية في الطابق الواحد والثلاثين.. استمرت تضرب بيديها وتركل بقدميها وكأنها تبعد عنها شعورها بتواجده رغم احساسها بأنه يطوقها بل يطبق عليها من حولها، ثقله وغموضه وبرودته وتقلباته.. حتى قررت أن ترتمي على ظهرها وسط البركة، حينها رأت النجوم تتلألأ.. لم تصدق نفسها.. أين السقف الذي كان يغطي المكان.. انهال الخريف على المكان وتمدد فيه.. ارتعد كل شيء، الأغطية والفوط، ثم جسدها المبلل، كأن الخريف الذي فرت منه هبط من السماء وغمرها وهي وسط المياه التي شعرت ببرودتها تتمدد على جلدها…
خرجت من البركة مسرعة، جلست على أحد الكراسي وهي تغطي جسدها المنهك البارد… احتوتها علبة المصعد وهوت بها نحو الطابق الأرضي، ما أن فتح بابه حتى اتجهت نحو موظف الاستقبال حانقة ومحتجة…
⁃ قلت لي إن البركة مغلقة.. ارتفع صوتها وهي تشير إلى الأعلى.. لقد رأيت النجوم المتلألئة في السماء.
كان الموظف يضحك…
⁃ فعلاً البركة مغلقة لكن سقفها متحرك.. يفتح في ساعة معينة، ثم يغلق من جديد.. تذكري إنها شركة يابانية!
تركته حانقة وخطت نحو عتمة الشارع تتحسر على ما دفعته دون أن تقضي وقتاً كافياً.. لم تكن باريس متلألئة كما رأتها من الأعلى، ابتلعت شوارعها العتمة، إلا من بعض المركبات المسرعة وإنارة خافتة، وبرج إيفيل المضاء كعادته، تسري فيه شحنات الإنارة من حين لآخر، فيرتعش.
سرعان ما بددت دفقات ريح خريفية من حنقها وتسللت بين خصلات شعرها المبللة واستكانت بينها وجففتها بحنو. في تلك اللحظات أقبلت نحو الخريف كما أقبل نحوها ولفها في الأعلى واحتضنها فامتصت رائحته وسمعت شهيق أنفاسه وشعرت إنه ليس فصلا عابرا يلهث وراء الصيف، بل سيداً مستقراً إلى حين…
21.11.2020