المقالة

نصف التفاتة

  

                                                    

أخبرني جدي فيما أخبرني ، كعادته وقت القيلولة ، حينما استرخت الأشجار وهدأت أصوات الطيور ، واستطالت الشمس وتربعت في كبد السماء ، وبعدما أدى ما عليه من فروض ، رأيته يتحين وقتا ليختلي بأحفاده ويخبرهم عن تاريخ مضى مليء بمجتمع كان يتمخض بكثير من العادات والتقاليد التي يستحسنها الجد ويبكي عليها ، كلما آن أوان الذكرى .

حدثني قائلا وهو يمسح لحيته البيضاء ويضبط نظارته الكبيرة الحجم على عينيه ؛ قال (زمان كانت النسوة تخرج مجموعات كفرق المرتاضين ، ولانرى لهن تباعدا عن صف المجموعة ، بل ملتصقات ببعضهن ككتلة واحدة، نادرا ما ترى فجوات كبيرة بين صفوفهن وهن ينطلقن بين الفجاج والشوارع الضيقة …نادرا ما كنا نسمع همساتهن وهن يتحدثن ، بل كن يصمتن حينما يجدن رجالا متكومين على حافات الطرق أو جالسين أمام الدكاكين …بعضهم كان لا يتمالك نفسه فيسرد أهزوجة طويلة موشاة بأنغام عاطفية كما تفعل ذكور القطط حينما يواعدون قططهن بمواء يميل حنانا ورقة .

صمتٌ طويلٌ قطعه الجد بقوله وهو يخط على التراب : إيه دنيا … واستطرد : تذكرت يومها أن نسوة كن يتبضعن من بائع القماش ، ويتلمسن الأقمشة باحثات عن القماش الناعم على البدن ..حينما خرجن وعبقت رائحة المكان بمسكهن …ردف أوسطنا طريقة كلمة كان يستهدف من خلالها ، الارتباط بإحداهن بعد هذا الامتحان الذي سماه بالامتحان العسير ..هو يعرف فلانة لكنه يريد أن يتأكد من ظنونه . قال كلمة مثيرة تشبه من ينادي إحداهن فالتفتت إحداهن على حياء نصف التفاتة كردة فعل …

قد تكون ردة فعل …ربما …قد لا تقصد بتلك الالتفاتة شيئا !! ربما الخوف  أو انقباض قلبها وعضلاته دفعها أن تلوي عنقها نصف التواء لتنظر عشوائيا دون تركيز !! نلتمس العذر ..لكن القصة أن الرجل ضرب يمينا بيسار قائلا: خسارة ..بنت فلان ..مش لي

بطبيعة الحال نحن لم نعترض أو نتساءل ..!! فالاعتراض والتساؤل لمن يجهل طبيعة المجتمع آنذاك أو من لم يعايش الحركة الاجتماعية فيه .

هو اكتفى بقوله بنت فلان “مش لي” ..والجميع اكتفوا أنها لن تكون لأحد من شباب الحي ..فقد تلقفتها الأقاويل من أنها امرأة كثيرة الالتفات …تنظر خلفها ..ربما هذا إيماء لقلة حياء المرأة …أو لخفتها..حسب المنظور الاجتماعي آنذاك .

القصة لم تقف عند الجد الوقور – وحسب – جدتي المرأة المُجِيدة للحديث ، تسلب لبك بأول سطر في حكايتها ، حتى وإن كانت مكررة تتمنى ألا تسكت أبدا وتكتفي أنت بالإنصات : لَوَت ساقيها المليئتين …وقعدت قعدة من يتهأ لحديث طويل ، بعد  قفل يديها وفتحهما وهي عادة تعودتها وكأنها تقيس مسرى الدماء في عروقها ، قالت ناصحة حفيدتها : يابنت ردي بالك من التلوفيت !!!

ومامعنى هذه الكلمة ياجدتي ..(ضاحكة )!!

نظرت بعينين يمتلآن شزرا : “التلوفيت ، إنك تلتفتي يمين ويسار ووراك ، خلفك وجنبك …فهذا تروقيب مش مزبوط”.

لكن الجدة لم تتوقع رد الحفيدة ، تلك الحفيدة من بنات الألفية ، كثيرات الولوج لمواقع النت، تتنقل من موقع لآخر ومن ضفة إلى ضفة ، لا يعرفن من حياة المجتمع مثلما عرفته سيدات الأمس ..اللواتي كن يعددن الهمس في حضور الرجال من المثالب والمعايب والنقائص والمحاذير …

الحفيدة استغربت : فهي تطير كالفراشة في الجامعة وتقفز من المكتبة إلى الساحة ، تتحدث إلى زميلاتها وزملائها ، وأرقام هواتفها عند الجميع ، فزملاؤها قد يضطرون لمحادثتها عبر الفيس والجوال ….وتحدث بينهم مشاحنات كأنهم أسرة في بيت واحد ..ولاتوجد نظرة خلفية لمعان مدسوسة.

الحفيدة حدثت نفسها : أنها لاتصادق الناقصين والمرضى أو من في قلبه مرض ؛ هكذا تعلمت من مدرسة الحياة ..لكن الجدة قطعت عليها السبيل : أن تضع الجميع تحت طائلة واحدة ..” التلوفيت مش كويس للبنت “

كانت الجدة من ذلك الجيل الذي يمشي على الارض حياء واستحياء ..

والحفيدة من هذا الجيل : الذي يستحي ممن لايعرف كيف يتحدث مع الجنسين : الذكور والإناث على حد سواء !

تذكرت الحفيدة أنها تلتفت كثيرا في الجامعة، وعندما تريد قطع الطريق ، فهي تخاف من سرعة السيارات ..تذكرت جيدا في يوم أنها كادت أن تكون ضحية لسيارة خلفها لولا تلك الالتفاتة ..التي جعلتها في الثانية الأخيرة تتنحى يمين الطريق كي لاتكون تحت عجلات السيارة .

وتذكرت صوت السائل الذي يسألها ، الطريق لمسجد القرية ، فما كان عليها إلا أن تلتفت إليه ، لتدله ….وكان لايرى جيدا !!

تذكرت وحاولت أن توفق بين نصيحة جدتها وبين حياة اليوم …فشعرت أنها تستمع إلى درس من دروس التاريخ الشبيهة بحكايات عنترة في الأدب العربي .

اختلاف الحياة والمشاعر والمعيشة ، تبعا لأزمنة المجتمعات قديما وحديثا .

لو أسردنا أوجه المقارنة فسيخرج طيف كبير من حياتنا أنه خطيئة لتلك الزمن في أفعالنا وتصرفاتنا وتهورنا .

الحياء هو الغالب على كل شيء قديما . لكننا لانقول أن الحياء يقتصر على زمن معين أو جيل ما ..الحياء طبيعة إنسانية مفعلة في نفس الأنثى وجميلة جدا سواء في أنثى الأمس أو أنثى اليوم ..بل الحياء مطلوب من الجنسين على حد سواء وهو شعبة من شعب الإيمان . ولاخلاف أو مراء في ذلك .

الاستعمال النفسي هو المحدد لتلك القيمة (قيمة الحياء ) فقد يكون فعل اليوم نقيصة الأمس ..

الأنثى بالأمس تلتفت : فيُعاب عليها . اليوم لاتلتفت ..فينظر إليها بمنظور النقص أو الشك في نفسها أو الارتباك .

لا نقصد بالالتفات الالتفات الزائد عن حده الجالب للمعاكسات والمشاكسات،  لكنها المشية هي التي تحدد مصير المرأة آنذاك وتختار من خلالها زوجة صالحة تعرف كيف تربي بناتها فيما بعد.

دعوني أبتعد قليلا :

في حوار بيني وبين سيدات : أخبرتني إحداهن وهي معلمة في مدرسة ، قالت والضحكة التي يغالبها الحياء ظاهرة على وجنتيها : اليوم الفتاة التي تدخل الميادين بقوة وتشتغل ، وصوتها مسموع ، يُقبل عليها الخطّاب كثيرا.

إذن : والتي تتحلى بشيء من الصمت والسكينة وتمشي بهدوء وتكتفي بالعزلة ..قلت لها !!

ردت باستغراب قائلة : سيدتي ” ما نكذبش عليك ..اليوم إللي ماشيات أكثر وبرنامجهم سالك هن المتمردات “

سادني صمتٌ مريع وخوف داخلي من كلمتها العفوية لكنها ليست عفوية ، إنه مجتمع اليوم المليء بالغرائب عن مجتمع الأمس ، تصادم جيلين حتى في تقييم قيمة مجبولة عليها الطبيعة الإنسانية .

انتقلت لامرأة أخرى لأكمل من حيث انتهت الأولى: هل صحيح اليوم الفتيات الخارجات عن قوانين المجتمع هن المحققات لأهدافهن ؟

نظرت بعمق كثيرا ..ثم قالت : هو شيء صحيح وشيء لا .. “بس مش الكل في ناس محافظة ومهتمة بمثل هذي الأمور “

سيدتي سؤالي محدد ؟

فهمتك …

لكن ليس لدرجة الأمس : البنت اليوم تتبضع وتقود السيارة وتدرس طلاب الثانوية ، وتتحدث إلى زملائها في العمل ..

قلت لها حسنا ..فهمت الآن !

عدت لجدتي لأقول لها : البنت اليوم تتبضع وتقود السيارة وتلتفت للإشارة الضوئية ، وترى شرطي المرور وقد حدث أن حصلت مخالفة لصديقتي ، فاستوقفت وذهبت لمركز الشرطة لتستلم أوراق المخالفة وتدفع الغرامة .

جدتي لم تفهم شيئا من كلامي : إلا أنها قالت : من هذي البنت التي ذهبت لمركز الشرطة .

زمن ذهب بنقائه لتبقى صورته على وجوه الأجداد والجدات ..وياله من زمن بسيط نقي ..ما أحوجنا إليه في زمن المتغيرات المتحولة ..الذي كاد أن يقضي على بريق الجوهر فينا ..فكلما حاولنا أن نجعل للجوهر هيلمانا نعيش به في أزمنة الانكشاف …وجدنا أنفسنا ننجرف مع كل المتغيرات دون شعور منا ..بل وكل ذلك يحدث مع رضا مأخوذ بتلك الطوارئ التي طرأت على حياتنا .

هم كانوا بخير ..ونحن مازلنا لم نحدد الخيرية بعد ..فكل ما فينا استنساخ من ثقافات شتى اندفعت وتدافعت على مجتمعنا دون استئذان .

 

مقالات ذات علاقة

أنـا مـدون… أنـا حــر!

فاطمة غندور

بدون مواربة…

إنتصار بوراوي

حكاية عطر الأجساد.. رواية عربية من الصحراء الليبية

المشرف العام

اترك تعليق