نهج حقبة الاستقلال
خلال حقبة الاستقلال لم يستخدم السوق من أجل الازدهار العام والتطور والبناء، ولكن كان مجالاً للاستحواذ وتجميع الثروات بمساعدة البنوك التجارية وهي بنوك لم تستخدم من أجل الاستثمارات عالية المردود وخاصة في البنية التحتية التي من دونها لا جدوى للأنشطة الاقتصادية.
فدور السوق لم يكن ليؤدي وظائف السوق التي تهدف إلى رفع مستوى الانتاج والإنتاجية في المجتمع، ولذلك لم يتطور المجتمع التطور الطبيعي للمساهمين في العملية الانتاجية ومن ثمّ للمساهمة في المشاركة السياسية، فالحكومات والبرلمان والسوق كانت تدو في دوائر خارجة عن نطاق الواقع الاجتماعي العام ومن دون إدراك ما قد يترتب عن ذلك من آثار سيئة وسلبية جراء ما يفعلون.
كيف كانت الدولة:
في حقبة الاٍستقلال ليبيا لم تكن هناك ” دولة مدنية عصرية حديثة دستورية ” كما ما انفك يتخيلها المتخيلون والهائمون في خرافتها طوراً بعد طور حتى ما بدا منها افتخاراَ غامضاً، فتلك ” الدولة” كانت عبارة عن أداة في يد القبيلة وعوائل المدينة، أداة حارسة لحماية مصالح هذه الفئات، بمعنى آخر تلك ” الدولة” لم تكن إلا لجنة ذكية تعني الانتماء إلى صفوف السلطة الحاكمة في خدمة أهل الخاصة وهي التي تدير المصالح المشترة الدائرة بين الحكام وأقرانهم وأقاربهم.
تكرار الأخطاء:
استمر هذا النظام في تكرار الأخطاء وفي تجاهل أهمية الدستور بل واختراقه واختراق القانون والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها ” المدنية الدولة العصرية الحديثة الدستورية”، وقد استمر من جانب الاقتصاد في تجاهل الرؤية الاقتصادية المعقولة من الاستخدام الأفضل لخيرات وثروات البلد بدلاً من السطو عليها وخلق وبناء اِقتصاد قوي يوفر العمل لفئات المجتمع المختلفة.
كيف كانت السياسة:
أما السياسة فقد كانت سياسة الاستبداد الناعم الكريم، حيث كانت بمثابة وعاء كبير يحتوي على مجموعة من عائلات المدن والقبائل ذوي المصالح الضيقة والذين كانت تربطهم شبكات متداخلة من علاقات القرابة والنسب حيث غدت العشيرة هي البنية الرئيسية في التنافس السياسي.
حالات:
• غياب الثقة الفعلية المتبادلة بين السلطة والشعب من جميع الشرائح والفئات الاجتماعية كان من أحد العوامل الذي سهّل على قبول واستقبال الانقلاب العسكري على نحو سريع وعاطفي إلى اقصى غايات العاطفة إلى حدّ أبتهل الشعب بصرخته المُضلة: ” بالدم بالروح نفديك يا ثورتنا “.
• لم يكن الحقل السياسي الليبي حقلاً سياسياً فعلياً إنْ لم يكن معدوماً فالمشاركة السياسية كانت أقل مما ينبغي وتستدعي السياسة الفعلية، أما الناس فلم تشارك في العملية الانتخابية كما ينبغي أن تكون المشاركة، فضلاً على الانتخابات لم تكن حرة ولا نزيهة لاختيار أفضل وأكفأ الناس لمختلف المناصب والسلطات.
• الوزارات المتعاقبة لم يخطر على بالها البحث عن إمكانات المجتمع الليبي وقدراته من التأسيس على بناء ترسانة متعلمة من العنصر البشري لتخصيص المهام لديها في مشروعات البناء والتنمية.
• لم تكن هناك ثقافة اجتماعية متعددة حتى تبلور إرادة الجميع أو على الأقل معظم الناس كي تدفع بالمجتمع نحو التقدم والازدهار، فالثقافة أصلاً كانت ثقافة نخب سياسية وثقافية معزولة عن
المجتمع ومتعالية عليه. بمعنى آخر لم تكن هناك حياة سياسية ثقافية جادة معرفياً تتنافس فيها الأفكار والتصورات والمشروعات الفكرية والإصلاحية للمساهمة في بناء ” دولة عصري’ حديثة”.
• فقدان الانسجام السياسي والثقافي بين المثقفين والمجتمع.
• قيام بعض وزارات التربية والتعليم من تهميش جهود الكثير من الرعيل الأول في مسيرة التعليم بل وعدم الاعتراف بجهودهم في بناء المدارس وتوعية الناس بأهمية التعليم والثقافة العالية.
• الساسة ” الوطنيون” خارج البرلمان وداخلة لم يقتربوا على الإطلاق من البحث عن هوية الدولة ومفهومها وطاقاتها، فاقترابهم كان أكثر لإشباع رغباتهم المتعددة وأيديولوجياتهم المتعثرة والتحيز للانتماءات العائلية والعشائرية والقبلية..
• المعارضة السياسية داخل البرلمان وخارجه كانت تفتقر إلى رؤية معرفية لبناء مشروع سياسي متماسك، كما لم يكن لديها قاعدة عريضة، ولم يكن هناك أيّ تواصل بينها وبين المجتمع، بمعن أنّ هذه المعارضة الهشة لم تستطع أن تؤدي دوراً سياسياً فعالاً يساهم في نقل المجتمع نقلة نوعية بقدر ما كانت ناجحة في انتاج شعارات التحريض والتجهيل. على الرغم من حروبها ضد السلطة التنفيذية واسقاط الحكومات المتتابعة، فقد كانت عاجزة على وضع البلد في مسار التنمية المستديمة التي كانت البلد في حاجة اليها أكثر من البطولات الوهمية.
• معظم الوزراء كانوا قليلي الخبرة السياسية والإدارية وقليلي المعرفة والثقافة الرزينة رغم أن بعضهم كان يحمل شهادات تعرف باسم ” دكتوراه”، ومن ّثمّة لم تكن لديهم القدرة الكافية لتسيير شؤون الدولة وإدارة المجتمع، أما اطروحة الدولة ذاتها فقد كانت غائبة عن الوعي تماماً.