قصة

قطار منتصف الليل

(الصورة: عن الشبكة)

حين خرجت من دور العرض شعرت بدوار خفيف ما إن لفحني هواء باريس الشتائي المنعش المختلط برذاذ سيارات التاكسي وهي تنهب جادة الشانزليزيه وتتسابق نحو ميدان قوس النصر، وجهتها حتما الانعطاف نحو أحد الشوارع الفسيحة المتفرعة عنه. كان عليّ أن أتجه نحو ذات القوس المربع المشرف على الشوارع الاثنتي عشر الممتدة بخشوع تحته في طريقي إلى محطة قطار أنفاق شارل ديجول اتوال. بدا لي القوس شبيها بقبعة شارل ديجول المعلبة والمزركشة وبصرامة ملامحه.. لكنني سرعان ما طردت الفكرة وغيرت مساري وفضلت أن أركب الحافلة.. كانت مشاهد الفيلم قد تخللت ذهني وتمركزت فيه ما جعلني لا أرغب في دخول نفق مظلم آخر.

 الفيلم من النوع “الاكشن” بعنوان “قطار الأنفاق”، بطولة ايزابيل أدجاني، تدور أحداثه داخل أنفاق قطارات باريس، التي تركض وتهتز بمقصوراتها المتصلة وتنفث دخانها وتصدر أصواتا عالية عند فتح وإحكام إغلاق أبوابها، وتطلق جرس التنبيه الأشبه بالطنين.. عالم سفلي حيث يتعلم الناس الركض والمزاحمة واقتناص الكراسي البرتقالية وحتى النوم والأهم الصمت والصبر والانتظار.

 على مشارف نهاية العام، ذات ليلة باردة، كنت أتدثر بمعطف صوفي أسود أنيق ببطانة ملونة، لكنه لم يكن كافيا لدفع وخز برد شهر ديسمبر. تؤثر باريس الصمت شتاءً، وتضيء شقق عماراتها القديمة المتلاصقة باكرا، وتستعد لاستقبال أعياد الميلاد وتتوق لدفقات من الثلج، وتتأهب لعام جديد بحماس. تفقد أشجارها كسوتها وتذبل نباتاتها وتنتهي حياة عشب حدائقها، وتزداد حصى طرقاتها صلابة، وتدخن مداخن أبنيتها بشراهة. لكن باريس في شتائها تكتسي بأضواء ملونة وزينة باذخة، وتستبدل عروض واجهات متاجرها بآخر صيحات أزيائها، وتتسرب من طرقاتها رائحة الكستناء المشوي واحتراق أطراف وريقات “الكريب” الساخن، وشراب الشوكولا الخاثر.

 نزلت في تلك الليلة بخطوات مدربة وسريعة سلالم النفق، مددت بطاقتي البرتقالية إلى لسان الآلة التي ابتلعتها وشرعت لي بابها بعد أن أعادت البطاقة إليّ، شعرت بالدفء يدب في جسدي ويدفع بشحناته خدرا عن أطرافي. كانت الساعة تشارف على منتصف الليل وكان هذا آخر قطار. دخلت المقصورة، كانت شبه خالية إلا من رجل وامرأتين يجلسون في أماكن متفرقة. يداعب النوم جفني الرجل، بينما تنهمك المرأة في النظر إلى يديها وتدلكهما، وتبدو الأخرى منسجمة في السماع إلى الموسيقى من جهاز “الووكمان”، تهز رأسها وترفعه قليلا بين الحين والآخر لقراءة اسم المحطة التي يتوقف عندها القطار.

بقيت واقفة فلم يكن بيني وبين سكناي سوى ثلاث محطات، عادة ما أقطعها سيرا على الأقدام لولا البرد في تلك الليلة.

توقف القطار بين محطتين، وهو أمر عادي غالبا ما يكون بسبب مرور قطار محاذ.. ثم فجأة أغلق القطار محركه وهبط السكون على المكان وبدأ القلق يسري في الدقائق التي تمضي، استفاق الرجل وسيطر على رأسه، وتوقفت المرأة عن تأمل يديها وتدليكهما، ثم لاحقا نظرت الأخرى إلينا وفكت سماعتيها من أذنيها ونطقت

 “ماذا يجري”؟

لم يرد أحد.. وسرعان ما اختفت الابتسامة القلقة التي علت وجهي.

ردد الرجل،

” ما الذي يجري”؟

مضى الزمن بطيئا. كنا في علبة حديدية محشورة بين حائطين في الظلام تحت أحد أحياء أو شوارع باريس المضاءة. انتابني شعور مريب حاولت مقاومته، لكن فيلم “قطار الأنفاق” كان يتجه بسرعة نحوي.. وصل إلىّ بكل تفاصيله.. الظلام وايزابيل ادجاني وهي تجري في الأنفاق والشاب صاحب المزلاق الخشبي… لم أصدق أنني قد أعيش أحداثه بعد أسابيع من مشاهدته.

انتشلني من خيالي الحيّ صوت الباب الرابط ما بين المقصورات خلفي وهو يفتح، التفتت فإذا بالسائق يخرج علينا وهو بكامل بذلته الرسمية الزرقاء، وقد علت الدهشة وجهه ونبرات صوته.

“ماذا تفعلون هنا”؟

أجاب ثلاثتهم بصوت واحد تقريباً

“نحن ركاب”

“نعم ولكن لعلمي أن كل الركاب تركوا القطار… يبدو الأمر مقلقا”. واستطرد

“القطار الآن في المرآب وقد بدأ الرجال في عملية الصيانة.”

بدأ الرجل يفقد صبره ويعلي من صوته، أما المرأة التي توقفت عن مداعبة يديها بدا على وجهها الرعب، والثالثة صاحبة المسجل عَلا الاستغراب وجهها وقالت “وما الحل الآن”؟

كنت ما أزال أسبح ما بين أحداث الفيلم وما اعيشه في تلك اللحظات، تتحول ذاكرتي إلى شريط سينمائي وتتزاحم الصور أمام عينيّ وأنا في ذات المكان… صعب أن أصدق ما يجري، شعوري أنني أتأرجح ما بين خيال وحقيقة.

افاقني صوت السائق.. “اتبعوني”!

نهض الرجل مسرعا يقتفي أثره دون أن يلتفت خلفه. كنت آخرهم أعيش وقع أحداث تشبه فيلم شاهدته منذ أسبوع وأنا جالسة على كرسي من القطيفة في إحدى دور السينما أعلى النفق. 

تبعناه وهو يفتح باب المقصورات الواحد تلو الآخر حتى وصلنا إلى آخر مقصورة، شرح لنا أنه علينا أن نمر عبر كل المقصورات ذلك أن الأبواب قد أحكمت أقفالها، ثم التفت إلينا وهو يبتسم بشيء من الخبث ” قد نعثر على آخرين مثلكم..” لكننا لم نجد أحدا.

فتح السائق أخر باب في آخر مقصورة، كان الظلام يعم المكان، إلا من شرر نار اللحام في أحد الأركان.

ألقى السائق بالتحية، فخرج علينا فجأة بعض العاملين وكأنهم خفافيش لولا أصوات تحياتهم لتأكدت أنني داخل شاشة الفيلم.

تبين لي ونحن ننزل الدرجات ببطء بمساعدة السائق، أن هناك بعض الكشافات، ورجال يعملون على صيانة القطار..

“على رسلك…” قال السائق.

” سيروا خلفي ما بين القضبان ولا تلمسوها فقد تكون مكهربة”

ما زال الرجل حانقا يكتم غضبه ويهمهم ببعض الكلمات بصوت خفيض، أما المرأة فكانت ترتجف خوفا وتتلعثم في كلامها، وصاحبة “الووكمان” تبتسم وتحيي العمال وتضحك مع السائق.. كنت في حالة إنكار، أراقب ما يحدث وكأنني أسبح في سحب من حلم….لم أنطق بكلمة واحدة منذ أن توقف القطار وأقفل محركاته.

سرنا بحذر خلف السائق، حتى ظهرت لنا المحطة القادمة، انتابتني نوبة ضحك مكتوم وأنا أرى نفسي أسير بين قضبان القطار حتى أصل إلى المحطة بأضوائها وعلاماتها وحتى اسمها..

صاح السائق فرحا…

“ها قد وصلنا”

” أصعدوا من الجانب هناك سلالم”.

ساعدنا السائق على الصعود، ثم قادنا مجددا … وفيما نحن نتبعه نحو باب الخروج.. نَطقتُ فجأة:

“هل شاهدتم فيلم ايزابيل أدجاني الجديد”؟

التفت الجميع نحوي باستغراب بل رأيت في عيني الرجل استهجانا…وقال باستهزاء وكأنه لا يصدق ما قلت “ماذا؟”

كنا على مشارف الباب الخارجي أتقدمهم، التفت نحوهم قائلة ” شاهدوه عنوانه “قطار الأنفاق”، ثم تركتهم مسرعة وأنا أصعد درجات المحطة بقفزات مدربة لكل درجتين دفعة واحدة.

استقبلتني باريس بحفاوة وكنت فرحة بأحضانها، شعرت بأنني ولدت من رحم ظلام وقلق وخوف، بل كأنني نفضت عن معطفي الصوفي حلما غريبا.. لم يعد البرد يتخلل معطفي ولم أر ظلاما حولي بل كنت في حضرة المدينة وأضوائها وحركتها، دافئة ومطمئنة بعد أن عشت سويعات بطلة لفيلم قصير بلا مشاهدين.


أتاوا – 22 يوليو 2020

مقالات ذات علاقة

لماذا لم يتسع حضنك لي؟

عبدالعزيز الزني

الصـــــراخ

إبراهيم حميدان

أبي!!

هدى القرقني

اترك تعليق