يجيء المساء ، تزحف العتمة على قصر المنار، تقاومه ثريات السقف بمصابيحها الخجولة ، تغادر الزائرة العجوز الصالة حيث تنتشر صور الشهداء المعلقة على الجدران ، تتباطأ بخطوها ، شيء في أعماقها يشدّها إلى الخلف ، تدور إلى الوراء ، تمرر أصابعها فوق صورة يظهر فيهاوجه ابنها كاشفًا عن أسنان انفرجت لتبدو مثل ابتسامة وضَّاءة حينًا، أو تكشيرة ألم خفي حينًا آخر ، تنحني تقبّله ، تنحدر من عينيها دمعتان حارقتان ،يتراءى لها وجه الملك إدريس بالشرفة يلقي إعلان الاستقلال ثمَّ يتلاشى . تنصرف من دون أن تشعر بالضَّجيج الصَّادح بالقاعات الأخرى ، يغادر الحاضرون، يسود الصَّمت ، كأن لم يكن بالقصر أحد ، تغيب أصوات المثقفين ، وأعضاء مؤسسات المجتمع المدني . والسياسيين ، والشعراء بعد أن أفرغوا ما في جعبتهم من حوارات ، وآراء ، وقصائد ، آنذاك تتثاءب كائنات علي الوكواك الحديديّة ، تتمطَّى ، تتبادل خوذاتها العسكرية المثقوبة ، تُشهر أسلحتها ، تصرخ ديناصوراته. وزواحفه ، وسلاحفه ، تصخب برقصها الجنوني ، تدّب نحو جميع مداخل القصر ، تهزّ الأبواب . خوذات صدئة ، بنادق معكوفة ، قنابل يدوية ، أحذية بالية ، جنود من حديد يتمايلون لا أعين لهم ، لاملامح ، يحتكّ بعضهم ببعض ، يطرقع الحديد. يصطك.وسط صمت ظلام دامس يتكوم جميع الشهداء محاصرين ، تسجنهم براويز صورهم المسمَّرة على الجدران ، تنزف جراحهم من جديد ، يتحسسون مكامنها ، يتألمون ، يصرخون وسط الدماء ، لا أحد يستمع إليهم ، تتوالى انفجارات عنيفة تشق شوارع المدينة النائمة في ليلها ، الدماء تتدفق . تغدو المدينة بحيرة من الدم تجوبها كائنات علي الوكواك الحديديّة متوغلة عبرالميادين .والشَّوارع ، والبيوت.
____________________________________
هامش :
*علي الوكواك فنان تشكيلي ونحات ليبي قام بداية ثورة السابع عشر من فبراير بتجميع مخلفات الكتائب العسكرية من خوذات ، وأحذية وقنابل وآليات ، وأسلحة ، ونحت منها كائنات حديديَّة ترمز إلى بشاعة آلة الموت ، وأقام معرضه عند مدخل قصر المنار ببنغازي ..
* قصر المنار هو المبنى الذي شيّده الإيطاليون سنة 1913 . خلال استعمارهم لليبيا ، وجعلوه مقرًا للحكام العسكريين من ضمنهم إيتيليو تروتسي، و ايتالو بالبو، ورودولفو غراتسياني.الذي قابل فيه شيخ الشهداء عمر المختار قبل إعدامه ، وبتاريخ 24 / 12 / 1951. أعلن من شرفته الملك إدريس رحمه الله إعلان استقلال ليبيا . ويعتبر من المعالم التاريخية والثقافية للمدينة .
الفصول الأربعة، العدد 120 – يناير 2019.