المقالة

المثقفون وثورات الربيع العربي (نموذج من ليبيا)

أستطيع أن أضرب مثلاً أكثر وضوحاً مستوحى من التجربة الليبية، عن فعالية المثقفين ودورهم التنويري الذي صب في سواقي الربيع العربي. فقد تشكلت في خارج البلاد جماعات سياسية تعارض النظام وربما عبرت عن نفسها أحياناً بأسلوب التآمر، عن طريق خلاياها المدنية والعسكرية بداخل البلاد، ودفعت الثمن عند اكتشافها، إعداما لعناصرها بالداخل، وملاحقة ومطاردة وتصفيات جسدية في الخارج، وهو ما كانت تفعله كتيبة من أرباب القلم، وجماعات أخرى من أهل الرأي، فيما يمكن أن نطلق عليه إرهاصات مجتمع مدني، وجماعات من أهل الفن، رسما وموسيقى ومسرحا، وأضرب مثلاً بكاتب راحل عاصر الطاغية لمدة أربعين عاماً، هو أستاذنا الدكتور خليفة محمد التليسي.

واستطاع الأستاذ التليسي وعبر إسهاماته في مجال التاريخ، وبعد بضع سنوات من عهد الانقلاب، أن ينال شيئاً من الرضا والقبول، الذي تنامى حتى وصل إلى فوزه بأعلى الأوسمة لدى النظام، قلده إياه الأخ القائد كما كانوا يطلقون على رأس النظام الاستبدادي، وتمت دعوته أثناء الحفل إلى إلقاء شيء من إنتاجه الشعري، فقرأ قصيدة شهيرة من أشعاره التي تتغنى بحب الأوطان عنوانها “وقف عليها الحب” وأضاف لها ارتجالاً ومن وحي اللحظة بيتاً يمدح فيه الرئيس الذي أعطاه الوسام، هذا هو نصه “أيه أمين القوم، كل كريمة، لابد ان تلقى كريما شاكرا” ويشاء القصور الفكري لبعض القراء، وغياب النضج السياسي، والعجز عن استيعاب الآليات التي تعمل عبرها ومن خلالها عملية التدرج الحضاري، والتي تؤكد أن الإسهام الفكري والأدبي للأستاذ خليفة التليسي يدخل في قلب عملية التحديث والتجديد والتنوير.

ضرب خليفة التليسي بسهم وافر في أكثر من مجال من مجالات النهوض الفكري، تراثاً وتاريخاً ودراسة أدبية ونقداً وابداعا في مجالات الشعر والقصة والمسرح، ففي مجال التاريخ الذي كرس جزءاً من حياته لتشييد صروح من الدراسات التاريخية، كان أشهرها كتابه الموسوعي” معجم معارك الجهاد”، وقدم في مجال النقد الأدبي والإبداع الشعري والقصصي سجلا حافلا لا تتسع له هذه الأسطر، علاوة على إنجازه في مجال الحراك الثقافي ووضع الأسس لكثير من الكيانات الثقافية والأدبية.

هذا مجرد مثل صغير لأديب واحد كان فرداً في قافلة من الأدباء، من السابقين له أمثال على وأحمد الفقيه حسن وأحمد قنابة وأحمد رفيق المهدوي وأحمد الشارف وطاهر الزاوي، إلى مجايليه من أمثال عبدالله القوي وكامل المقهور وعلي المصراتي وعلي خشيم وصادق النيهوم وحسن صالح ويوسف القويري ويوسف الدلنسي ومفتاح السيد الشريف ومن جاء بعد هذا الجيل.

القائمة طويلة، يعجز هذا الحيز عن استيعابها، وإنما هو مثل أردت أن أقدم به صورة واضحة عن دور هؤلاء الأدباء والمفكرين في تنمية الوعي وتأسيس الأرضية الفكرية التي غذت جذور الثورة.

نعم. إنها انفجارات شبابية تتابعت منذ انبثاق شعلة البوعزيزي في قرية سيدي بوزيد التونسية، وتنامت وتأججت عبر الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط من بنزرت إلى اللاذقية، وبدت كأنها انفجارات تلقائية عفوية، جاءت بنت لحظتها، إلا أن الصورة السطحية غير عمق الواقع وما تحت السطح، وهو أن ثمة موارد صنعت هذه الانفعالات والمشاعر.

كان العامل الثقافي في تلك المرحلة يعادل عمل الأحزاب السرية، وجهدها لتقويض النظام، عبر التآمر، والعمل تحت الأرض، وبمثل ما آن لهذه الأحزاب، أن تخرج للعمل فوق الأرض، فان المثقف في ليبيا وغيرها من بلدان الربيع العربي، كان يحاول أن يؤدي دوره في السراديب الخفية المظلمة المحفورة تحت الأرض، بعيداً عن أجهزة النظام وأعينه البوليسية الرقابية، يجب أن يحتل الصدارة في دولة ليبيا الحرية والديمقراطية، ليبيا المستقبل الأبهى.

مقالات ذات علاقة

يام…

المشرف العام

الحب الذي لن يجف

محمد الزوي

محكية بلا ضفاف

مهدي التمامي

اترك تعليق