النقد قراءات

على شط بحر الشعر

عمر عبود

ديوان الهروب داخل الذات


حول المجموعة الشعرية “الهروب داخل الذات” لعلي عبد المطلب الهوني..

يمــزج الشــعر بيــن عــديـــد القــضايــا المتــضمـنة إحســـاســات معمــقة فــي الــداخــل وغــائــرة بيــن الحــنـايــا.. الشعــور بالــواقــع والتعــبـيـر عــنه يــأخـــذ أشكــالا عــديـدة.. فقــديما كـــان الشعــراء ومــازالــوا يمزجــون الطبـيـعة في أشعـارهـم ويشـركــون مبـاهـجــها وشجــــونها كـــوامـنــهم.. يختـلقـون وشــائج مــع أشيـاء الطـبـيعة ويـرتبـطـون معـها في أحـوالها و أطـــوارهـا.. أيضــا يتفـــاعـل الشـاعـر مـع قضــايــا وطــنـه وأمـتـه.. يبـتـهـج لانتـصـاراتـه.. ينتـكس لانكـســاراتـه.. يبكـي همـومهـا ويمـتزج معهـا.. فتـلتـقي الهـــمــوم عـلى الهـموم ويبـلغ الشــجـن ذروتـــه.. فينســـج مرثـيـــة بعـــذوبــة الـلـفــظ وعمـق المعـنى.. تكون كفــيـلة بأن تضع نقــاط الشعور على حــروف الــوجــدان.. تــذوب بين ثنــايــاهــا الحروف لتنقش مشــاهــد تكــونت في ظــلال الوحــي المستمد مــن دفــق الأحاسيــس المكمّنة.. ليس هـنــاك أي مــفــر يمــكن التماسه إذ الهروب من مطــب الكــتــابــة.. فتــحـاصــر الكلــمـات الأوراق.. وتحيــط الحــروف بالقــلم إحــاطــة الســوار بالمعــصم.. فــأيــن المفر يــا تــرى ؟.. هــل مــن سبـيـل للنــفــاذ مــن هــذه الـورطــة يمــكن الانسلال مــن خــلالـه ؟.. وإذا كــان الشـــاعر ” عـلي عبد المطلب الهوني ” قـد أوجـد مكـانـا للـهــروب.. فإنـــه لا يـذهـب بـعـيــدا..

“الهــروب داخـل الـذات” ديـوان شعـري حمـل على صـغر حـجمه ( 34 ) نصـا قـدّم لهـا الشـاعر نفـسه في كـلـمة استهلها للقـارئ كي يـدرك أن مـا تحـويـه هـذه القـصائد  يجــد بـراحـه في شتـى بقـاع الوطـن الكـبير.. ولا يقـتصر عـلى موطئ بعـيـنـه.. البــدء كـان في العـرض.. ” وطـن للبيـع “.. فـعـند الشتـاء يحـاول الـولـوج داخــل الكـهوف تـاركـا كـل شيء للصـقـيـع.. راحــلا عــن ذاك الـوطـن الـذي مــات ولــم يــدفـــن.. ثـم يكتـشـف أنــه لــم يكــن جــاهــزا للـرحيــل.. لتحـيـط بـــه ” العـيـون الآســرة “.. ويمـضي فـي رحــلـة عــلى شـط بحــر الهــوى.. تـلــوح لــه شعــرهــا الـمــائـل ووجهــها القـمـري.. فيسأل عـنها لمـن تكــون ؟.. وعنــدما يحتبـس الجــواب.. لا يجــد بــدا مــن ” الهــروب داخــل الـذات “.. يحــاول الفــرار مـن داخـــله فيجــد ذاتــه هي الأخــرى تحــاول الهــروب منـه.. ويحـس حينـها أنــه بـلا وطـن.. بــل أنــه ينتـقل إلى آفـاق أرحـب من كل هذا الكــون.. يجـلـس ويـبـتـهل ويـسـبح ويـقــول ” أحببت الله “.. ومـن ثــم كــان الحــب لـذاك الـذي يسكـن الأوصــال.. أو تلك التي تــرنــو مــع كــل فجــر لاح.. تبتسم في ” إشراقة الصباح “.. تضــوع منــها رائحــة التــفـاح.. فيـلقـي هــو السلاح.. ومــن هــوائـهـا العـــبق يستنشق ويرتــاح.. إلا أن ” الرأس المنخور ” يقـف أمـامــه رافــعا الكـفن في وجهه.. لكنه يرفـع يــده محـييا ومـرحبا ويستلم أمـانتـه بعــد أن يـودع حـاجتـه.. ينـطلـق إلى مجـلـس ” قـاضي العـشاق “.. يشكو همـومــه التي تيّمت كبــده.. فـلا يرضـيـه حكـم القـاضي.. يـقــف ويـبـرم وجـهــه ثــم يتــمـتـم دون أن يـسمعــه الحــجّـاب ” هــزلت “.. لينطــلق صــوب الجنــوب حيـث ريــاح الحـنـين والأنـيـن.. و ” أمـانـي ” تتهـندم عـلى سفـر القـوافـي… تشنـّف تلك الفيافي.. ثم يحــضر ذلك المجـلس حيـث ” المساءلة والجــزاء ” لذاك المشنوق أمام محكمة العــدل الإلهـية.. يستمع إلى قصـتـه الحـائيـة… فتغـدو معـلّقة تبـحـث عـن كعـبـة تعـلق بجــدارهـا.. لكـن سؤالا يقــفز أمــامــه لـيـوقـف دفــق القـوافـي ” هل تجيبيني “.. وإن لم تفعل فسوف يغـادر.. ولن يعــود.. فافعــليها..!.. فهــو ملك لا يمـلك ” ثمن الـتـاج “.. وأنت أمـيـرة فـؤاده الوهـاج..وها هـو يستأذنك في أمر ما.. ” هل تأذنين ” ؟!.. وإن لم تفعــلي سيهبّ مــن بيـن أحشـائه ” إعصار كاترينا ” يهز الفضــاء ويطرقـع في السمـاء.. !.. لكن السؤال يبقى في طي الغياب.. الغــياب العـربي.. ” متى نلتقي “.. أترانا غدا نلتقي ونرجـع أيـامـنـا.. نجــدد فـيـهـا عــرى المـوثـق.. وهـا هـي ” الأفعى ” تمنع ذاك اللـقـاء وتقـرع أجـراس الفجيـعة.. لتعــود القـوافي معـزيـة تلك الأحـزان المـريـعـة.. فتحيلها رقصات بين أجواء الجبال.. ويتـراءى ” كنز الجمال “.. ويمضـي الشـاعـر في ديـدنـه الذي دأب عـليه ونبـّه في استهـلال.. واحـدة بواحـدة..و البـادئ أظلـم.. بــل هــذا الذي يغسل أدمغة مواليه.. يستمع خلسة ” وصايــا إرهـابـي لتـابعـيـه “.. يتقـمـص شخـصية متطـرفـة لبعـض المشاهـد مــن الــواقــع.. فينسج ميـمـية مقـفـاة يرسلـها إلى ” سيد الفكر “.. أستاذ جيله.. ويثني على أيــامــه عـندما كـان للإنسان قـيمـة.. أمـا في عهد ” حكومات الطر.. فش ” فيضع مشاهــد ساخــرة لبعــض رمــوز الأنظمــة الحـاكمـة.. تلك التي تســد ” الــدرب ” أمـام كــل مــن يرنــو لصـورة أبهــى مــن الــواقـــع.. فيـتــوه العـقـل ويختــفي النـــور.. يحتــسر الألـــم مــع كــــل مســـاء وصـبــاح.. وفـي خلســة مــن الــوقــت يستــريــح بنــا الـرحيل عند ” مداعبات ” مع ابن أخيه وأخرى جعلها تستهل بحديث ” تهادوا تحابوا “.. ومن جديد تحلق القافية عاليا في ميمية تكظم ” غضب الحليم ” وتجعلنا نصبر حتى تنقضي هـــذه القــوافي.. وتـظـهر من خلفـها ” عــبـاءات بــلا رجـال “… هنــاك في بـــلاد الـرافـديــن.. حـيـث العـيـش مــا عـــاد غـــض المـكــاســـر.. صـــارت الكـــآبــة هــي العـنــوان.. وهــي الربــح والخـسـران.. ونـهــر دجـــلة صـــار فـي الحــلــق مـــريــرا… لا يطفـئ ظمــأ ولا يــرطــب ريـقـــا… ولا يجـد حتى أن يســدّد ” ثمــن المـــعـرفــة ” كي يكفر خطايا الأسلاف… ثم يـقـف فـي رحـــلة بـين تـلك الحـــواري العـتـيـقة ليشـتم رائحـــة ” كعـــك العـيــد “.. آه مـــن أيــــام لا تعـــود.. وطـــرب لا يستــعـــاد.. هـنـا يقف عـلى مشارف ” مـدينـة الصـبّار “.. يرتجــف من غـضب الحمــار.. ذاك الــذي ارتضاه أهــل هــذه المدينــة حاكــمـا.. فصارت أصواتهم في استنكار..!.. ومـــع تباريـح يوم جــديــد.. يأتي ” زوار الفجر “.. يملأون الأرض بالــنبـاح.. ليمــنـعوه متــعـة النــوم حتــى الصـبـاح.. لكـن تلك التـي لـم تغــادر المكـنـون كـانت تقـــول لــه :

” أنت منى عيني “…. يرد عليها :

” إن الحــــب قتـــّال “.. حتــى لأنـــه يــأخـذ نحـو ” الهاوية “.. ويشـــد الرحـــال.. ينـشـد الـبـيـت العـتيــق.. فيـتـوه فـي الطـــريـــق.. ولا يستـفــيق.. إلا في قـــاع سحــيــق.. ” في الجبـــّانـة “.. مع مـــن كانــوا يجــوسون في الــديــار.. وتــركــوا وراءهــم العـــيـال الصـــغــار.. نــدبــوا حظـــهم.. وطــوى النـــدم أيـــامهــم.. فكـــأنهــم مـــا لبـثـوا غـيــر ســاعــة مـــن نهــار.. وعــــن الوفــــاء كـــانت لشاعــرنـا قصـــة مـــع الــذئـب.. لــكنــه يكتــشــف بـــأنـــه ” ليـــس للـــذئب وفــــاء “.. وليـــس في ذلك ضــيــر.. المـــهم أن الـــذئب لم يـفــلــح فــي افتراســك.. ” هـــوّن عـــليـــك “.. فـــالـمركب ستـــرســـو عــنـــد الضـــفــة بعــد قـــليل.. عندهـــا ستكـــون فـــرحـــة النجـــاة كفيـــلة بـــأن تنــسي الصيــــاد خـــواء المــركــب…ولا بـــأس… فقـــد يــصــيــب فــي رحــلـة أخـــرى… وإذا كـــان الـمـــرء قــــد اخـــتار الهـــروب فــي ذاتـــــه.. فـــلا يعــنــي أنـــه قـــد انـكـفــأ داخـلــهــا.. بـــل بعـــكـس ذلـك يـكــون قـــد فـــرش ذاتـــه أمـــام الجـــمـيـع.. ولا يمـــلك إلا أن يـكـــون عـــلى الـواجــهــة مـــن كـــل المـتـذوقـيـن.

مقالات ذات علاقة

قراءة في قصة “العَجِيْن”

المشرف العام

نص من ذاكرتي

نورالدين سعيد

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (10) .. جدلية التعاقب والتراتب في أزمنة القصيدة

المشرف العام

اترك تعليق