سيرة

للتاريخ فقط (7)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

هذه الصورة لرفاق السجن ونحن نقضى بعض عقوبتنا فى مستشفى درنه حيث قضينا بضعة اشهرفى رفاهية المستشفى بين اهلنا واحبابنا الذين صاروا يزوروننا بدون قيود الاخوة بالصورة هم من ايمين 1 ـ عبدالجليل الزاهى 2 ـ عبدالله الحصادى 3 ـ رجب الهنيد 4 ـ الجالس بينهم عبدالحميد بطاو التقط لنا الصورة السيد انورالنويصرى اطال الله عمره

الحلقـة: 7/ في السـجـن يختلط الشامى بالمـغربي مرغمـين

يمر السجين خلال فترة سجنه بمراحل ثلاثة؛ ففي الأيام الأولى لدخوله السجن يبقى طول ساعات يومـه مرتبطـًا بالأجواء التي تركها في الخارج ويتساءل بينـه وبين نفسه، ترى ماذا فعل أهله من بعده وكيف يعيشون بدونــه ومن سيهتم به ويتابع قضيته ويحاول إخراجه من ورطته، ويبقى يداعبه الأمل فلا يلتفت لما حوله، ولكن بعد شهرين أو ثلاثة يتسرب إليه اليأس، وفي محاولة منه لعدم الاعتراف بواقعه والتعامل معه يبدأ في نشر أوراق تذكاراته أمام خياله الملتهب، ويسترجع الكثير من ماضيه ويستمتع ببعض الذكريات الحلوة التي عاشها في أيام حياته التي تسربت منه دون أن ينتبه لها، وبعد بضعة أشـهر يكمل استرجاع الماضي وصوره ويسأم من التكرار، ليجد الا مفر من التعايش مع واقعه الجديد ومحاولة التأقلم رغمـًا عنه مع التفاصيل اليومية للحياة الجديدة التي فرضت عليه، وهذا ما حدث لي ولكل رفاق السجن الذين كانوا معي! فليس من السهل أن تبقى في مكان واحد لا تبرحه طول يومك وعيونك طول ساعات اليوم، وكل يوم ليس أمامها سـوى هذه الوجوه ونفس الحراس ونفس طريقة قفل الأبواب الحديدية الضخمة في توقيت معين ونفس الوجبات (يوم أرز ويوم مكرونة)، ووجود دورة المياه بيننا وهى بنصف باب.

وقد استطعنا ان نتآلف مرغمين مع هذا الواقع، ولم تعد طقوسه تحرجنا أو تكـدر صـفونا، واخترعنا طرق كثيرة حاربنا من خلالها الملل والرتابة.

كانت هناك فرصة للقراءة، فقد سمحت إدارة السجن بإدخال الكتب إلينا بما فيها الكثير من الكتب التي ضبطوها معنا كمستمسكات، كما كانت أوقات (الآريـا) الفسحة التي تفتح فيها الزنازين جميعها ويسمح لنا خلالها بالاختلاط ببعضنا والجلوس معـًا في ساحة القسم الخامس الاسمنتية المكشوفة، كانت فرصة للحوارات والنقاش بل حتى إقامة الندوات الثقافية والأمسيات الشعرية، كان عدد معتقلي الحركة قد توقف عند الرقم مائه وستة معتقـلا، فيهم بعض الأخوة العرب الفلسطينيين بالذات، حتى أصبح اسم قضيتنا لدى الناس في ليبيا قضية (المائة وستة)، وقد كان عدد السجناء الذين تجمعوا في القسم الخامس أربعة وتسعون متهمًا، وزعونا في حجرات صغيرة وصالات واسعة بعض الشيء، وصار لزاما علينا ان نسمى كل مجموعة في حجرة أو صالة باسم دولة من دول العالم، باعتبار عدد سكانها وطريقة معيشتهم الحضارية أو المتخلفة، وبدأنا بالحجرة الصغيرة التي يقيم فيها القادة الثلاثة وهم: عمر المنـتـصر، وعزالدين الغدامسى، وعبدالسلام الزقـعار. والتي أطلقنا عليها اسم دولة السويد، لنظافتها وما فيها من إمكانيات ليست متوفرة ببقية الزنازين.

 وهناك صالاتان كبيرتان، كل صالة بها أكثر من عشرين سجينـًا كنا نسميهما (الصين) و(الهند)، وحجرات متوسطة كانت تتسع لعدد بين الأربعة والثمانية أعطيناها أسماء مختلفة.

طبعًا بالمناسبة، لا أستطيع أن أذكر أسماء كل المعتقلين (ومن حقهم هذا)، إلا أن المجال لا يتسع لذلك! ولكنني أقول انهم كانوا من خيرة الشباب الليبي، وكانوا من كل بقاع ليبيا؛ من طبرق حتى ازواره، والزاوية والجنوب وقصر اخيار، ودرنة وبنغازي والبيضاء وطرابلس، وكانوا مختلفي الأمزجة والثقافات والقدرة على التحمل والتعايش مع الآخرين.

لابد لي أن أقول بهذه المناسبة أن (حركة القوميين العرب)، كانت قد انقسمت على نفسها بين مجموعة ماركسية تنادى بتطبيق الاشتراكية العلمية واعتناق مبادئ حرب العصابات والعنف حتى التطرف في مواجهة كل الانظمة العربية الرجعية المتعفنة، على طريقة كاسترو وبقية الدول الاشتراكية العنيفة من جنوب امريكا وأوروبا الشرقية. ومجموعة ثانية كانت تنادى بالناصرية وتطبيق أفكار وخطط (عبدالناصر) في مواجهة الواقع العربي بالثبات والحكمة والتبصر وهم (الناصريون). ولعل هذا التجنح والانقسام أدى الى نهاية الحركة وضمورها واختفائها.

كنا كلنا قد تم اعتقالنا خلال الاسبوع الأول من شهر أغسطس، وبقينا في السجن دون أي تطور سوى تقديمنا لغرفة الاتهام حيث واجهونا فيها بتطابق تهمتنا مع نص المادتين (206 و207)، جنايات وبعدها بقينا ننتظر ونتأرجح بين أمل الإفراج وإمكانية صدور أحكام قاسية في حقنا وقد تأكد لنا الاحتمال الثاني، حينما كلف أواخر عام 1967م “عبدالحميد البكوش” بتشكيل حكومة جديدة، وقد قال “الزقعار” و”الغدامسى” انه يريد الانتقام منا، وبعد أن سمعنا من الإذاعة الليبية جزء من مرافعة النيابة العامة التي اتهمتنا فيها بالتآمر ضد نظام وأمن المملكة ووصفتنا بالخفافيش الذين يعملون في الظلام وطالبت بمعاقبتنا بقطع أيدينا وأرجـلنا من خلاف، فما كان من شباب الحجرات كلهم ليلتها إلا أن عملوا كشـك وصاروا يصفقـون وهم يرددون بحماس وسخرية سوداء:

(ياعـيلة مردوع الهـلـّه… زيدونـا رانــا في غـلــّه).

اقـتنـعنا بعد سماعنا لهذه المنغـصات المرعبة، بأن إقامتنا ستطول بهذا المكان، وصرنا نطالب بتحسين أوضاعنا وأوضاع كل مساجين (الحصان الأبيض) بشكل عام، فطالبنا بضرورة توفير أسرة حديدية ومراتب نظيفة وبطاطين جديدة، وتحسين الأكل وتمت الاستجابة لمطالبنا كلها وبدأ يتشكل جو ودى وعاطفي بيننا وبين سجناء الأقسام الأخرى، حيث تعرفنا على السجين الليبي الاسطورة “مفتاح الهنديانى” الذى حكم عليه بالمؤبد لاتهامه بحرق آبار البترول، وكان تواصلنا مع المساجين عن طريق تقديمهم الخدمات لنا كتوزيع الطعام والسجائر (كانت إدارة السجن تعطى لكل سجين خمسة سجائر لبدة، مساء كل يوم).

 وفي بداية شهر ديسمبر 1967م، أعلمونا أن محكمتنا ستـعقد أول جلساتها يوم 15 يناير، بداية العام القادم 1968م.

دعونا نتوقـف هنا، ولعلنا سنتحدث في الحلقة الثامنة عن أجواء اليوم الأول من المحاكمة وعن تجاوب الناس في شوارع طرابلس مع هتافاتنا الحماسية، ونحن نعبر في سيارات السجن الحديدية المغلقة، وعن الحراس وهم يرتعشون انفعالا، وعن هيئة الدفاع وعن المدعى العام وغير ذلك!!

فإلى الحلقة الثامنة انشاء الله…

مقالات ذات علاقة

الشاعر الغنائي يوسف بن صريتي

محمد العنيزي

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (27)

حواء القمودي

للتاريخ فقط (12)

عبدالحميد بطاو

اترك تعليق