النقد

في (صراخ الطابق السفلي) للدكتورة فاطمة الحاجي

رواية صراخ الطابق السفلي للكاتبة فاطمة الحاجي

“أنا سعاد صوت من أصوات هذه الرواية”ص5

تستمد رواية صراخ الطابق السفلي للدكتورة فاطمة الحاجي منابت القها و كذا مباهج قرأتها الأولى من  اقترابها الأسر من أقاليم حارة وذهابها الوعر في فيافي ذات رمال متحركة يستحيل الحراك فيها دون ذاكرة فطنة تشعل أصابع الخيال عندما ينتهي بها الطواف حينا أمام بؤر مسدودة, أو منازل سحيقة, أو عندما يشترط القطاف أشجار ممنوعة في أحيان كثيرة.

ماذا فعلت (فاطمة) بلحظة ألتوق الشديد للخروج من الغليان إلى الانبعاث, من الصمت إلى البوح, من البحث إلى الكشف, من الحذر إلى القنص؟ والمبدع يدرك أن الرمال المتحركة قد لا تكون إلا محض غشاوة لا تصمد أمام هطل مطير أو موجة عاتية تقذف بأخبارها وأسرارها ومساربها وأنفاقها ونوافذها و أبوابها إلى مكمن الصهد الذي يصنع للعين عدسة مكبرة هي شوق القارئ إلى لهيب المعرفة و تشويق النص لقارئ شغوف.

” تجمعهم دروب المكان واختلاف الوجهات”ص5

عندما كان السرد يمضي بها بعيدا إلى خط النهاية .. و شخوصها يتبادلون أصواتهم في نقلات ووقفات عديدة ( في وقبل و بعد)الأربعينية المرصودة لجأت (فاطمة) (بصوت سعاد) إلى شخصية صغيرة (حضرة الأخ الناشر) في ظهور عابر في رسالة قصيرة هي مفتتح الرواية الكبيرة, تسند إليه دورا عظيما (مقارنة بحجم ظهوره). وهذا الدور لا ينجزه في ظهوره العابر بل في اختفائه الرامي إلى ظهور القارئ الشغوف بهتك السر و عبء الكشف, الذي قاد فاطمة سرا إلى ولادة الحقيقة, (كما عرفتها في بحثها عن ذراتها المتناثرة في الزمان و المكان, وأيضا كما عاشتها سعاد الشخصية التي حملت صوتها وحضورها على نحو بديع), وبحمل مشعل الحقيقة (كما ستظهر له في السطور وبين السطور وقدر ما تسمح به روافد روائية عديدة).

“للضوء في زمن أخر”ص 5

والقارئ يرضخ لفعل الإبداع و أمره فيستقبل الضوء و يمرره. و يستجيب لنداءات الاندهاش ويستلذ ركوب الجبل الوعر وشوك أحراشه في رحلة البحث عن أصل الحكاية. الحكاية التي كانت (مريم سلامة)احد شهودها, بل في كثير من الأحيان يختلط عليها الأمر و تظن أن سعاد هي مريم وان مريم هي فاطمة يستكشفان معا منخفضات و مرتفعات الدهشة البكر, و هما على مشارف النضوج المعرفي (في مرحلة دقيقة وفاصلة بين الثانوية/ المدرسة ) والجامعة أو الصرح الجامعي, الذي كنا نسمع عنه كثيرا ونجهله أكثر. وفي أحيان أخرى تتركني وحيدة امرر يدي على هذا الجدار أو ذاك واصعد أو انزل هذا الدرج أو ذاك, باحثة عن أجوبة لأسئلة كثيرة, و ضاجة بتطلعات و أحلام أكثر و اكبر.

“وغطى الغبار الأحمر المدينة البائسة” ص11

انظر في تلك اللحظات التي لازالت حاضرة بأدق تفاصيلها كأن سعاد بضفيرتها التي تلامس خصرها و بعشقها للعربية وتراثها وشغفها بكتابة الشعر هي أنا تعيش تفاصيل ذلك اليوم المشهود وغباره الأحمر الذي لا أظنه يغادر الذاكرة يوما, و هروبي من مشهد الشنق إلى بيتنا الذي لم يكن بعيدا عن البوابة الخلفية للجامعة وما أنا إلا دفتر أسئلة يمشي على قدمين مذعورتين. تفاصيل صغيرة متناثرة على صفحات الرواية تجعلني استشعر أنني في ذات مرة أو مرات قد قابلت سعاد في قاعة المكتبة أو الكافتيريا أو احد المدرجات..  وربما تلامسنا بالأكتاف أو الأيدي ونحن في عبور سريع إلى قاعة الدرس. هذه التجربة الفريدة, و هي أن تجد نفسك شاهدا وحاضرا  في النص الإبداعي, الذي كان من الممكن أن يظل غائبا و ممنوعا وفقا لإرادة مبدعه, ويظل وجودك رهن ذلك الفيض الإبداعي, أتت على القارئ التقليدي وجعلت منه كاتبا متخفيا يكتب نصه في نص يقراه.

“كيف ينمو الحب داخل أروقة الجحيم” ص6

لقد خلقت (فاطمة) في ومضة إبداعية خاطفة أسمتها (رسالة إلى الناشر) (قنص الذاكرة الجمعية) لمن هم مثلي من القراء الذين عاشوا صفحات عريضة من تلك الأحداث داخل و خارج الجامعة. و(  شغف المعرفة ) لمن ولدوا في أزمنة تالية و عقولهم تنوء بأسئلة لا يقدر أو يجرؤ على الإجابة عليها إلا قليل, و هؤلاء وللأسف تعرضوا لغبرة اشد احمرارا من غبار ذلك اليوم, و ما عاد بإمكانهم الرؤية بوضوح بل وفقدوا شهية الرؤية. ولكن إجمالا لهؤلاء و أولئك وغيرهم فتحت الرواية الباب على مصراعيه للقراءة الناضجة بقصها وفنها وقدرتها على طرح الكثير في ومضة.

“تثير مخاوفي علاقته بجريمة الشنق” ص 15

هل هي قصة حب في أروقة الجامعة؟ أم قصة وطن تحولت أروقة الحب فيه إلى طوابق  سفلية وأنات العشاق و تنهيداتهم إلى صرخات مكتومة؟

هو الحب يروي فصول الوطن ويذهب في ماضيه ويستذكر نضاله الذي سرقت ثماره و وقع فريسة التغييب و التجهيل. و هي رواية تعيش الحاضر..حاضر وطن في قصص حب تقع بين فكي الخوف و اللهفة. وهذا الوطن, حيت ولدت سعاد الشخصية الرئيسية ابنة العالم و المجاهد بالأمس و منتج الخير.. التمر والعسل اليوم, اكبر من صفحة تاريخ مضى بانتصاراته و انكساراته ووقائع حاضر يمضي على هوى المسئولين الكبار وعجز وذعر المحكومين الصغار. لكن سعاد التي كبرت في حضن المعرفة وطرح الأسئلة ترفض الحب الجاهز كما ترفض فاطمة قراءة سهلة أو عابرة لتاريخ معقد أو بالأحرى لحقبة معقدة غامضة لا ندري هل الانصياع لكراهيتها هو مسار واضح أم الانسياب نحو تقبلها بحب و ربما بفخر هو أمر تقتضيها الطبيعة البسيطة التي جبلنا عليها نحن أهل هذا الوطن؟؟

” لماذا يغني العصفور و تنوح الحمامة” ص25

 هل قصة الحب العفوي في زمن و مكان قهري يرمز لهذه العلاقة المعقدة بين الوطن الذي نحب و القبضة التي تحكم الوطن؟ و لا ندري هل هي إشكالية لغة قاصرة على التفريق أو قادرة على الجمع بين المتناقضات التي تؤجج نار حيرتنا, وتؤكد عجزنا. 

“لا احد يربكني إلا سؤالك يا سعاد.. لاشيء يربكني إلا سؤالك يا سعاد ” ص38

وكانت سعاد المفتاح لقراءة حقبة عويصة على الفهم. بنيت هذه الشخصية على نحو دقيق في بناء متناسق وشاهق, فهي كثيرا ما تعود إلى طفولتها لنقترب منها أكثر و نبرر حجم المتناقضات التي تتلبسها من العيش في وطن الحكومة وليس الشعب, وهي ترفض النظام وتعمل معه وتختار حبيبها من وسطه و تبدأ معه رحلة شك وشوك محفوفة بالعشب اليابس و الورد. وهي العاشقة المثقفة والفتاة التقليدية التي ترى في وجود الرجل أمرا لابد منه إلى أن يتساوى الجميع أمام القانون.

عن صفحة د.فاطمة الحاجي على الفيسبوك

ومع هذا التناقض الظاهري يبدو أجمل و اجل جانبه المتفق مع ساردة تجوب كل ركن في حكايتها منذ طفولتها, مع أترابها و أفراد أسرتها أبيها و أمها و أخيها محمد وحتى دخولها الجامعة والمجتمع الطلابي الممثل للنظام والخارج عن النظام أيضا زميلها حازم الامازيغي الرافض لطمس هوية ليبية..و هي ترافق وفود رسمية تستكشف معهم بؤس المدينة وهول الأكاذيب التي على المرء أن يحملها و يتحملها حتى يمنح تفسيرا لمتناقضات عجيبة.( وهذه التجربة أيضا عشتها عندما رافقت مع طلاب غيري الوفود الأجنبية في الذكرى الأولى للغارة الأمريكية في السنة الأخيرة من الجامعة)

“مدينة لم تعرف البهجة مكانا فيها كل من حكمها امتص رحيقها دون أن يمنحها قبلة” 335

ولكن سعاد  تمنح صوتها لآخرين لكريستينا (الكافرة) تكشف لحازم الامازيغي عن الإيمان الحقيقي و لعائشة (زهرة التين ألشوكي) وصرخاتها المكتومة في الطوابق السفلية عن جبروت نظام يستبيح براءة العذارى وينكل بصفاء الروح.. عائشة و عالمها ..أسرتها و أحلامها المغتصبة وحبيبها ادم وهو يكشف عن أهوال (حرب تشاد) أتون اقتيد له دون إعداد.. قبة سيدي حامد ودعوات تتكسر على جدرانه الصماء وشطان البحر الممتدة ألا عن عاشقين يخبرانا عن مأساة وطن.       

” كيف لا نجد مكانا نجلس فيه كبقية شعوب الأرض لماذا تحاصرنا الرياح و الغبار والذباب و لماذا شمسنا دائما غاضبة” ص262

في كل رحيل وعودة ..في كل قصة وغصة.. في كل جرعة الم و أمل تكتب فاطمة الحاجي بلغة طيعة منسابة تجعل من وعورة الطريق و كثرة المطبات أمر محتمل, بل في كثير من السرد الشيق نستشعر خطا مستقيما نمشي عليه من بداية شيقة إلى نهاية مرضية.      

“الحب أجمل تجارب الوجود و الحرب أتعسها” ص 415

في الطابق السفلي تنفث الراوية غضبها في وجع كبير احتاج إلى أكثر من أربعمائة صفحة من القطع الكبير حتى نصل معها إلى هذا السكون, غضب تحمله ناضجا عناقيد اللغة المسكونة ببهاء النثر و الشعر وتفاصيل السرد الموغل في بسط المعرفة في شتى نواحي الحياة.. وتقترب, على درجات متفاوتة من الجرأة, من مواضيع ساخنة ومعطيات صادمة في الحب البريء و الجريء و الشهواني.. في الدين في الإيمان بالله خارج سلطة المؤسسة الدينية.. في القوميات و العرقيات وإشكالية الهوية.. في التقاليد و العادات بشفافيتها ولكن أيضا بأنيابها الكاسرة.. في الحرب بلا جدوى في الموت الجماعي بلا رحمة.. في الرغبة في البقاء في وطن الخير و إلحاح الهروب من سلطة الوطن المستبد..

“لا يوجد غير العويل منفذا لسكون الروح” ص 416

هذه الرواية, وهي غواية قلق ولهفة .. شغف ومتعة من السطر الأول إلى السطر الأخير مارستها بإبداع  د. فاطمة الحاجي واختارت لها من الأسماء ” صراخ الطابق السفلي”, كانت تكتبني عندما كنت بكل هذه الغواية أقراها فحسب.

مقالات ذات علاقة

تشريح اختفاء الوطن الليبي

المشرف العام

المحروق المنسي في جوف الطين !

أحمد الفيتوري

ديوان الزمان .. والمكان

عمر عبدالدائم

اترك تعليق